بر الوالدين في الإسلام العظيم

د. كمال علاونه
أستاذ العلوم السياسية – فلسطين
مدونة فلسطين العربية المسلمة

بسم الله الرحمن الرحيم

يقول الله جل جلاله : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)}( القرآن المجيد ، الإسراء ) .


إهداء إلى روح أمي العزيزة والدتي الحنونة سهيلة أم جميل ابنة قرية ساقية بمدينة يافا على الساحل الفلسطيني ، وتزوجت بقرية عزموط بمحافظة نابلس من والدي إبراهيم عام 1949 وفق مبدأ المهاجرين والأنصار ، في فلسطين المباركة ، ولم تتمكن من رؤية يافا الحبيبة حتى لبت نداء ربها والتحقت بالرفيق الأعلى ، في مساء يوم الخميس 6 محرم 1420 هـ / 22 نيسان 1999 ، بمستشفى الوطني بنابلس ووارينها الثرى في مقبرة قريتنا عزموط بنابلس بفلسطين بعد صلاة الجمعة الجامعة على جثمانها الطاهر ، وأبنها على المقبرة أبني البكر هلال . { إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } .

الوالدين هما الأبوان الذين يكونان نواة الأسرة ولبنات المجتمع الإسلامي خاصة والإنساني عامة ، وقد بدأت الحياة على الكرة الأرضية بآدم وحواء عليهما السلام ، ثم تكاثر الخلق والخلائق البشرية وتناسلوا وتناكحوا ، فالوالدين هما اللذان أنجبا الأبناء من الأطفال الذكور والإناث . وتشمل كلمة الوالدين : الأب والأم والأسرة عموما . وقد حث الإسلام العظيم الأبناء على ملاطفة الآباء والأمهات ومساعدتهم فيما يرضي الله سبحانه وتعالى بصورة دائمة ومتواصلة ولم يحدد يوما للأب أو للأم وإنما طلب من الأبناء أن يحسنوا إلى الوالدين الإثنين ويبروهم وخاصة الأم طيلة أيام السنة . واقترنت الدعوة الإلهية للإنسان والأبناء خاصة لرعاية الآباء والأمهات في جميع الحالات والظروف العامة والخاصة فجاءت العناية الربانية بأمر الأبناء بالإهتمام بالوالدين عن عدة طرق لعل أبرزها على سبيل المثال لا الحصر : الإحسان ، المعروف ، المصاحبة الكريمة ، وعدم التأفف منهم وعدم الضجر وعدم نهرهما ورفع الصوت عليهما بالصياح والعربدة ، وخفض الجناح لهما بالملاطفة والمعاملة الطيبة الحنونة ، وأمر إلهي للأبناء بأن يقولوا لهما قولا كريما ، والدعوة لهما بالرحمة والمغفرة كنوع من التكريم لأنهما ربيا الأطفال وهم صغارا . ويجري تداول كلمة منفرة من الأبوين وهي كلمة العقوق ، فهذه الكلمة تعني الاستخفاف بالوالدين وعصيانهما وترك الإحسان إليهما . ومن إهتمام الله ذو الجلال والإكرام بالوالدين أن جاء ذكرهما في العديد من الآيات القرآنية المجيدة ، إذ جاء ذكر الكلمتين المقدستين (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) أربع مرات في سور : البقرة ، والنساء والأنعام والإسراء . لقد اقترنت كلمة الإحسان بالوالدين ، الأب والأم على السواء دون انتقاص من حق الأب أو الأم ، ومن باب أولى التذكير بعبادة الله جل جلاله أولا ثم ( وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ) ، وذلك على النحو الآتي :
1. سورة البقرة : وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ، يقول الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) }( القرآن الحكيم ، البقرة ) .
سورة النساء : وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ، يقول الله تبارك وتعالى : { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)}( القرآن الحكيم ، النساء ) .
سورة الأنعام : وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ، يقول عز من قائل : { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)}( القرآن الحكيم ، الأنعام ) .
سورة الإسراء : وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ، يقول الله جل جلاله :{ لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25) وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27)} ( القرآن الحكيم ، الإسراء ) .
ولم تقتصر الوصية الإلهية بالإحسان إلى الوالدين ، على الآيات السابقة ، بل جاء تأكيد على ذلك بآيات قرآنية كريمة أخرى ، دلالة على أهمية العناية بالوالدين الكريمين في الإسلام العظيم : يقول الله عز وجل ، عز من قائل في القرآن الكريم : { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) }( القرآن الحكيم ، العنكبوت ) . ويقول الله تبارك وتعالى : { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) }( القرآن الحكيم ، لقمان ) . وتتمثل عدم طاعة الوالدين في حالة واحدة فقط إذا كانا كافرين ويدعيان الأبناء لمعصية الله تبارك وتعالى ، مع ضرورة الإحسان لهما والدعاء لهما ودعوتهما للإسلام العظيم . ويقول الله ذو الجلال والإكرام في سورة أخرى : { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)}( القرآن الحكيم ، الأحقاف ) .
وهناك أدعية في القرآن المجيد للوالدين ، دعا بها الأنبياء والمرسلون واستجاب لهم الله سبحانه وتعالى طلبهم ولبى رغبتهم في ذلك .
1. دعاء إبراهيم عليه السلام يقول الله سبحانه على الدعاء الكريم للوالدين على لسان النبي إبراهيم عليه السلام : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) }( القرآن الحكيم ، إبراهيم ) .
دعاء نوح عليه السلام : يقول الله الودود القريب على لسان النبي نوح عليه السلام الذي استغفر للوالدين وللمؤمنين جميعا : { وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28) }( القرآن الحكيم ، نوح ) .
دعاء سليمان عليه السلام : قال النبي سليمان عليه السلام كما ورد بكتاب المسلمين المقدس : { رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)}( القرآن الحكيم ، النمل ) .
دعاء الإنسان المؤمن العادي . يقول الله تبارك وتعالى : { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15)}( القرآن الحكيم ، الأحقاف ) .
بر الوالدين منذ الطفولة الأولى : هناك بر الوالدين منذ الطفولة الأولى في مرحلة الولادة عندما يكون الإنسان في المهد ، كما حدث مع قصة رسول الله عيسى ابن مريم عليهما السلام : { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)}( القرآن الحكيم ، مريم ) .
كلمة الأم والوالدة في القرآن المجيد
قصتي موسى وعيسى عليهما السلام

هناك دعوات أمهات استجاب لها الله جل جلاله ، في مراحل الطفولة والشباب أيضا ، على النحو الآتي :
1. قصة موسى عليه السلام : كما حدث في قصة موسى عليه السلام وإلقاءه في التابوت بالبحر ثم إرجاعه لأمة كي تقر عينها ويهدأ روعها خوفا على مهجة ابنها الوليد الصغير ، فنرى كيف طيبة الأم وسعيها ولهاثها خلف أبنائها حبا وخوفا في الآن ذاته . يقول الله جل جلاله : { إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41)}( القرآن الحكيم ، طه ) . ويقول الله تعالى في سورة أخرى : { وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)}( القرآن الحكيم ، القصص ) .
2. قصة والدة مريم ابنة عمران : وكما حدث في قصة امرأة عمران ودعوتها الطيبة لإبنتها مريم عليها السلام والدة المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام . يقول الله جل جلاله : { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) }( القرآن الحكيم ، آل عمران ) .
3. قصة مريم وابنها المسيح عليهما السلام : يقول الخالق جل وعلا : { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)}( القرآن الحكيم ، التحريم ) . ويقول الله تجلت قدرته : { إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110)}( القرآن الحكيم ، المائدة ) . ويقول الله العزيز الحكيم : { وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)}( القرآن الحكيم ، المؤمنون ) .

الاهتمام الإسلامي بالوالدين
في جميع مراحل الحياة

وعلى الجانب الآخر ، المتصل غير المنفصل أيضا ، حض الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه في الأحاديث النبوية الشريفة على احترام الآباء والأمهات وركز على مسالة بر الوالدين ، على النحو التالي :
1. حسن الصحبة للوالدين : ورد بصحيح البخاري - (ج 18 / ص 363) جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ : مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي ؟ قَالَ أُمُّكَ . قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : ثُمَّ أُمُّكَ . قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : ثُمَّ أُمُّكَ . قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : ثُمَّ أَبُوكَ " . وفي رواية أخرى ، كما جاء بصحيح مسلم - (ج 12 / ص 389) قَالَ رَجُلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ : مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ الصُّحْبَةِ ؟ قَالَ : أُمُّكَ ثُمَّ أُمُّكَ ثُمَّ أُمُّكَ ثُمَّ أَبُوكَ ثُمَّ أَدْنَاكَ أَدْنَاكَ " . أي انه ردد أن الأم أحق بصحابة الابن أو الإنسان ثلاث مرات عن حق الأب ، وهو تكريم جليل للأم على مدار الحياة وليس ليوم واحد كيوم الأم أو الأسرة كما يفعل الغرب والغربيون وأشباههم ومقلديهم وأتباعهم من الأمم الأخرى . فالإسلام دين متميز ومميز في كافة النواحي والمجالات الدنيوية والأخروية .
دخول جنة النعيم بإطاعة الوالدين : جاء في صحيح مسلم - (ج 12 / ص 396) عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " رَغِمَ أَنْفُ ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ ، ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُ ، قِيلَ : مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا فَلَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ " . وفي رواية أخرى ، وردت بسنن الترمذي - (ج 11 / ص 455) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أَبَوَاهُ الْكِبَرَ فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الْجَنَّةَ " . وفي حديث نبوي شريف آخر ، كما جاء بمسند أحمد - (ج 17 / ص 243) عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " رَغِمَ أَنْفُ ، رَغِمَ أَنْفُ ، رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا عِنْدَهُ الْكِبَرُ لَمْ يُدْخِلْهُ الْجَنَّةَ " .
تحريم عقوق الوالدين من الكبائر المهلكة للأبناء : اعتبر الإسلام أن عقوق الوالدين من الكبائر المهلكة للأبناء في الدنيا والآخرة على السواء ، ولهذا دعا الإسلام لتحاشي عقوق أو مخالفة ورفض قبول طلبات الوالدين المسلمين ، أحدهما أو كليهما . فعن ذلك جاء بصحيح البخاري - (ج 9 / ص 135) سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْكَبَائِرِ قَالَ : " الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ ، وَشَهَادَةُ الزُّورِ " . وفي حديث آخر ، ورد في صحيح البخاري - (ج 21 / ص 238) جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْكَبَائِرُ ؟ قَالَ : الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ ، قَالَ ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : ثُمَّ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، قَالَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ ، قُلْتُ وَمَا الْيَمِينُ الْغَمُوسُ . قَالَ : الَّذِي يَقْتَطِعُ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ هُوَ فِيهَا كَاذِبٌ " .
تحريم عدم لعن الوالدين ، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ، أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ . قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ : يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ " . وفي حديث شريف آخر ،ورد بصحيح البخاري - (ج 8 / ص 251) قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ : عُقُوقَ الْأُمَّهَاتِ ، وَوَأْدَ الْبَنَاتِ ، وَمَنَعَ وَهَاتِ . وَكَرِهَ لَكُمْ : قِيلَ وَقَالَ ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ ، وَإِضَاعَةَ الْمَالِ " .
وبهذا إخواني القراء والمستمعين الكرام ليس كالإسلام في تكريم الأمهات والآباء أيضاً ، فالغرب حدد يوما واحداً لتكريم الأمهات هو يوم الأم في 21 آذار من كل عام ولم يحدد يوما لتكريم الآباء بينما الإسلام يقول ولا تقل لهما أف ودعا إلى عدم الصياح عليهما أو نهرهما والإسلام بهذا يعمل على تقوية الأواصر الاجتماعية والنفسية والمعنوية للأسرة أبناء وبنات وآباء وأمهات .
وفي الغرب بعد أن تكبر وتهرم الأم أو الأب يصار إلى وضعهما في بيوت المسنين والعجزة وهذا حط من شأن المرأة والرجل على السواء ، أما الإسلام الحنيف دين الفطرة فطلب من الأبناء أن يرعوا شؤون الوالدين ، الآباء والأمهات في ساعات عزهما وقوتهما وحالات ضعفهما على حد سواء ، جاء المستدرك على الصحيحين للحاكم وفي المعجم الكبير للطبراني - (ج 11 / ص 173) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " بَرُّوا آباءَكُمْ تَبَرُّكُمْ أَبْنَاؤُكُمْ ، وَعِفُّوا تَعِفُّ نِسَاؤُكُمْ " .
فالأم التي ربت أبناءها على الصراط المستقيم والخلق القويم لا يمكن لابنها إلا أن يبرها عند كبرها وهرمها ، كيف لا وهي التي حملته جنيناً في أحشائها نحو تسعة أشهر وأرضعته نحو عامين وربته ورعته طفلاً وشاباً طيلة عدة سنوات حتى كبر واستقام عوده وصلبه ، وبر الأمهات مقدم على بر الآباء بالحنو والملاطفة والمعاملة الحسنة البشوشة ولنعمل على تكريم الوالدين ( الآباء والأمهات ) على حد سواء في كل يوم وليلة وأن نطيعهما ما أطاعا الله سبحانه وتعالى لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق . ليس ذلك فحسب بل إن الإسلام اعتبر أن رعاية شؤون الوالدين نوع من أنواع الجهاد في سبيل الله وان ذلك من الأسباب الموجبة لدخول الجنة ، فقد ورد بصحيح البخاري - (ج 10 / ص 188) جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَاسْتَأْذَنَهُ فِي الْجِهَادِ ؟ فَقَالَ : " أَحَيٌّ وَالِدَاكَ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ " . بالإضافة إلى هذا وذاك ، فقد جاء بمسند أحمد - (ج 27 / ص 356) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُمَدَّ لَهُ فِي عُمْرِهِ وَيُزَادَ لَهُ فِي رِزْقِهِ ، فَلْيَبَرَّ وَالِدَيْهِ ، وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ " . وفي سنن ابن ماجه - (ج 11 / ص 53) أَنَّ رَجُلًا قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا حَقُّ الْوَالِدَيْنِ عَلَى وَلَدِهِمَا ؟ قَالَ : هُمَا جَنَّتُكَ وَنَارُكَ " .
وفي سياق متصل في علاقة الأزواج بين بعضهما البعض واهتمام المرأة بزوجها لتكون قدوة لبناتها أمهات المستقبل ، جاء بمسند أحمد - (ج 55 / ص 350) أَنَّ عَمَّةً لَهُ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَاجَةٍ فَفَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا فَقَالَ لَهَا : " أَذَاتُ زَوْجٍ أَنْتِ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ . قَالَ : فَأَيْنَ أَنْتِ مِنْهُ ؟ ( قَالَ يَعْلَى ) فَكَيْفَ أَنْتِ لَهُ ؟ قَالَتْ : مَا آلُوهُ إِلَّا مَا عَجَزْتُ عَنْهُ . قَالَ : انْظُرِي أَيْنَ أَنْتِ مِنْهُ ، فَإِنَّهُ جَنَّتُكِ وَنَارُكِ " .
وهناك قصة متعارف عليها إسلاميا في التقوى والزهد وبر الوالدين المؤمنين ، جاء بصحيح البخاري - (ج 8 / ص 141) عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يَمْشُونَ أَخَذَهُمْ الْمَطَرُ ، فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ فِي جَبَلٍ ، فَانْحَطَّتْ عَلَى فَمِ غَارِهِمْ صَخْرَةٌ مِنْ الْجَبَلِ فَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمْ . فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : انْظُرُوا أَعْمَالًا عَمِلْتُمُوهَا صَالِحَةً لِلَّهِ فَادْعُوا اللَّهَ بِهَا لَعَلَّهُ يُفَرِّجُهَا عَنْكُمْ . قَالَ أَحَدُهُمْ : اللَّهُمَّ إِنَّهُ كَانَ لِي وَالِدَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ وَلِي صِبْيَةٌ صِغَارٌ كُنْتُ أَرْعَى عَلَيْهِمْ فَإِذَا رُحْتُ عَلَيْهِمْ حَلَبْتُ فَبَدَأْتُ بِوَالِدَيَّ أَسْقِيهِمَا قَبْلَ بَنِيَّ وَإِنِّي اسْتَأْخَرْتُ ذَاتَ يَوْمٍ فَلَمْ آتِ حَتَّى أَمْسَيْتُ فَوَجَدْتُهُمَا نَامَا فَحَلَبْتُ كَمَا كُنْتُ أَحْلُبُ فَقُمْتُ عِنْدَ رُءُوسِهِمَا أَكْرَهُ أَنْ أُوقِظَهُمَا وَأَكْرَهُ أَنْ أَسْقِيَ الصِّبْيَةَ وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمَيَّ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ ، فَافْرُجْ لَنَا فَرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ ، فَفَرَجَ اللَّهُ فَرَأَوْا السَّمَاءَ . وَقَالَ الْآخَرُ : اللَّهُمَّ إِنَّهَا كَانَتْ لِي بِنْتُ عَمٍّ أَحْبَبْتُهَا كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرِّجَالُ النِّسَاءَ فَطَلَبْتُ مِنْهَا فَأَبَتْ عَلَيَّ حَتَّى أَتَيْتُهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ فَبَغَيْتُ حَتَّى جَمَعْتُهَا فَلَمَّا وَقَعْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا قَالَتْ : يَا عَبْدَ اللَّهِ اتَّقِ اللَّهَ ، وَلَا تَفْتَحْ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ ، فَقُمْتُ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا فَرْجَةً ، فَفَرَجَ . وَقَالَ الثَّالِثُ : اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقِ أَرُزٍّ فَلَمَّا قَضَى عَمَلَهُ ، قَالَ أَعْطِنِي حَقِّي فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ فَرَغِبَ عَنْهُ فَلَمْ أَزَلْ أَزْرَعُهُ حَتَّى جَمَعْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرَاعِيَهَا ، فَجَاءَنِي فَقَالَ : اتَّقِ اللَّهَ ، فَقُلْتُ اذْهَبْ إِلَى ذَلِكَ الْبَقَرِ وَرُعَاتِهَا فَخُذْ . فَقَالَ : اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَسْتَهْزِئْ بِي ، فَقُلْتُ : إِنِّي لَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ فَخُذْ ، فَأَخَذَهُ فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ ، فَافْرُجْ مَا بَقِيَ فَفَرَجَ اللَّهُ " .
على أي حال ، فإن الإسلام أيضا دعا إلى بر الوالدين الآباء والأمهات بعد وفاتهما بقراءة القرآن على أرواحهما والاستغفار لهما وزيارة قبورهما أو الحج عنهما وإخراج الصدقة عن أرواحهما وحث على بر الابن أو البنت لاصدقائهما بعد وفاتهما ، وصلة أصدقائهما وتنفيذ وصاياهما . جاء بسنن أبي داود - (ج 13 / ص 353) عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ السَّاعِدِيِّ قَالَ : بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا ؟ قَالَ : نَعَمْ : الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا ، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا ، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا مِنْ بَعْدِهِمَا ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا تُوصَلُ إِلَّا بِهِمَا ، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا " .
الترهيب من عقوق الوالدين

توعد الإسلام من يعق الوالدين أو الأبوين أحدهما أو كلاهما ، ويستخف بهما ولا يهتم بهما ولا يرعاهما ولا يطيعهما في الحياة الدنيا بالويل والثبور والملاحقة الربانية له ، وعدم النظر الإلهي له . جاء بسنن النسائي - (ج 8 / ص 342) قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ : الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ ، وَالْمَرْأَةُ الْمُتَرَجِّلَةُ ، وَالدَّيُّوثُ . وَثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ : الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ ، وَالْمُدْمِنُ عَلَى الْخَمْرِ ، وَالْمَنَّانُ بِمَا أَعْطَى " . والمرأة المترجلة هي المتشبهه بالرجال .
وجاء في المستدرك على الصحيحين للحاكم - (ج 5 / ص 365) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أربعة حق على الله أن لا يدخلهم الجنة ، ولا يذيقهم نعيمها : مدمن الخمر ، وآكل الربا ، وآكل مال اليتيم بغير حق ، والعاق لوالديه " . وفي حديث آخر ، أورده المعجم الكبير للطبراني - (ج 2 / ص 113) عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : " ثَلاثَةٌ لا يَنْفَعُ مَعَهُنَّ عَمَلٌ : الشِّرْكُ بِاللَّهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ، وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ " . وعقوق الوالدين هي من الكبائر التي يعاقب الله شديد العقاب عليها الأبناء في الحياة الدنيا قبل الآخرة ، ورد في المستدرك على الصحيحين للحاكم - (ج 17 / ص 103) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل الذنوب يؤخر الله ما شاء منها إلى يوم القيامة إلا عقوق الوالدين فإن الله تعالى يعجله لصاحبه في الحياة قبل الممات " .
ولا بد من القول ، إن من حقوق الوالدين الكريمين على الأبناء ، أن يصحباهم بالحسنى وأن يعاملانهم بالتقوى واللطف والملاطفة والإحسان الكبير العظيم الشامل الجامع وتتمثل أبرز مظاهر الإحسان للوالدين في حياتهما بما هو آت :
1. تقديم العون المعنوي لهم في جميع مراحل العمر . وخاصة عند الكبر والحاجة الماسة للمساعدة وعدم الزعيق في وجوههما وعدم نهرهما والتأفف من معاملتهما وإخفاض جناح الطيبة والسكينة والوقار لهما والدعاء الطيب لهما وتطييب نفسيهما .
تقديم العون المادي لهما : ويتمثل بأهم الأمور التالية .
أولا : مخصص نقدي شهري .
ثانيا : توفير المسكن والأطعمة والأشربة والألبسة المناسبة .
ثالثا : الاهتمام الكافي بهما في حالة المرض وتوفير العلاج اللازم .
رابعا : المودة والزيارة الدائمة لهما .
خامسا : توفير الأجواء الإنسانية لهما .
سادسا : صلة رحمهما والإحسان لأقربائهما وأصحابهما .
سابعا : عدم تفضيل البناء والزوجات على الوالدين .

وأخيراً ، إن الأبناء هم فلذات أكباد الآباء والأمهات ربوهم وأحسنوا إليهم وقدموا كل غال ونفيس حتى يصبحوا كباراً فمن حق المحسن أن يحسن إليه وكما يقول رب العالمين : { هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) }( القرآن الحكيم ، الرحمن ) . بلى ورب العباد أجمعين .

أدعية قرآنية
من الأبناء للوالدين الكريمين

{ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } ( القرآن المجيد ، غافر )

- وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا .
- رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا .
- رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ
- رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ .
- رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ .
نترككم في أمان الله ورعايته . سلام قولا من رب رحيم .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته