عيد الحب ..



دين ودنيا
الجمعة 15/2/2008
بقلم: د. محمد الحبش

قد يكون أمراً غير مألوف أن تتولى زاوية دين ودنيا موقفاً خاصاً للتعريف بالحب, عبر العيد الأحمر الذي فرض نفسه في الأيام الماضية على أكبر الشاشات الإعلانية, على الرغم من أنه لا يحظى في هذه الأرض بأية جذور ولم يسمع به آباؤنا وأمهاتنا في معقول ولا منقول وبغض النظر عن مؤسس هذا التقليد قديساً قسيساًأو شيخاً أو إبليساً, وما سنقرؤه خلال هذه الأيام عن النظريات الثلاث في كشف هويته فإنني هنا معني فقط بالحديث عن الحب من وجهة نظر إسلامية, فهل الإسلام يعارض الحب أو يحرمه, وهل المسلمون بدون قلب?

والواقع أن الحب الذي هو أسمى الروابط التي تقوم عليها الأسرة لم يحظ بما يستحقه من الدراسة وظل الحديث عنه مقتصراً على كتب الأدب والشعر وعلى ألسنة أهل الهوى, الأمر الذي أدى إلى غربة كلمة (الحب) واستعمالها في معرض الحديث عن العلاقات المحرمة, وكأن الحب لا ينشأ إلا في ظروف الخطيئة على الموائد الحمراء, مع أنه أعظم عطايا الله لبني آدم, وحق هذه الكلمة العذبة (الحب) أن تنشأ في أجواء الطهر والعفاف والنظافة وأن ينعم بها أولئك الذين يعرفون تماماً عطايا الله لابن ادم, وإنعامه عليه بنعمة الحب الحلال وإني أعتقد أنه ما إن تنطفىء شموع الحب في فراش الحلال حتى توقد شموع الحب على موائد الحرام.‏

وإن إعراض الفقهاء عن الحديث عن الحب كثمرة مباشرة للخطوبة, ورابط أساس في الزواج أدى إلى غربة هذه الكلمة, وصار مجرد إطلاقها في أي سياق يرتبط مباشرة بالعلاقات المحرمة التي تنشأ في الظلام وترتبط مباشرة بالخيانة الزوجية.‏

وقد أسهم الإنتاج الإعلامي اليوم في تكريس هذه الصورة إذ قلما تجده يركز على الحب القائم في رباط الزوجية بينما يركز بوضوح على علاقات الحب التي تقوم في السر والظلام , وتؤدي إلى هدم الأسرة ويمكن القول هنا إن ثمانين بالمئة من العمل الدرامي العربي يركز على الحب في إطار العشيقة فقط وخارج إطار الحياة الزوجية ولست أزعم هنا أن ذلك يتم على نحو يقصد منه تدمير الأسرة, ولكنه على كل حال يسهم في ذلك وهو ينشأ عادة من رغبة المخرج بإنتاج حبكة درامية تبعث في نفوس مشاهديه الإثارة والتحفز.‏

عادة ما يتم تصوير البيت مظهراً للحرد والنكد والزعل ويقدم الأزواج على أنهم قساة متسطلون والزوجات على أنهن انتهازيات متربصات, حتى إذ ما خرج الزوج من داره إلى الأقبية المظلمة والنوادي الحمراء فإنه يتفتق حباً وعاطفة ويقدمه لك المخرج شاعراً يفيض بأرق مشاعر الهوى, وتتدفق مدامعه ومدامعها بأحر المدامع تفيض نبلاً وطهراً وإخلاصاً وتضحية حتى كأن الحب الدافىء لايتولد إلا في ظلال الخطيئة والحرام!!‏

إن الحديث عن حسن العشرة بالمعروف وواجب النفقة والقوامة هو أمر يتصل بالواجب ولا منة فيه لأحد على أحد أما الحب فهو العاطفة الدافئة التي هي أثمن ما يقدمه شريك الحياة لشريكه على مركب التضحية والفداء.‏

في قراءة سريعة لسيرة النبي الأكرم يمكننا أن ندرك أن الرسول الذي كان يحمل على كتفه هموم العالم كان أيضاً يحمل في جوانحه فؤاد طفل, وكان يعرف المدامع والمواجع, والأرق والسهد والهجر والوصال وربما كانت أيامه مع خديجة بنت خويلد أوضح صورة لحبه هذا.‏

في علاقته بالسيدة خديجة بنت خويلد لم يكن النبي الكريم ] يكف عن الحديث عن الحب الذي كان يظلل حياتهما ويقولنقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي إن الله رزقني حبها) وحين توفاها الموت فإن حزنه على فراقها كان شديداً لدرجة أنه سمى العام كله عام الحزن! وقال ابن عمر: وجد رسول الله على خديجة حتى خشي عليه.‏

وكان بعد ذلك لا يفتأ يذكر خديجة بما سلف منها من خير وبما عقد بينهما من محبة وكان يحسن إلى صديقاتها وصويحباتها جثامة المزينة وهالة بنت خويلد ويقول: (إن حسن العهد من الإيمان, وربما أهديت له الهدايا فيرسل منها إلى صديقات خديجة).‏

وفي الحديث عن السيدة عائشة قالت: استأذنت هالة بنت خويلد أخت خديجة على النبي ] فعرف استئذانها فارتاح لذلك فقال: اللهم هالة... اللهم هالة...‏

قالت عائشة فغرت فقلت وما تذكر من عجوز من عجائز قريش, حمراء الشدقين, هلكت في الدهر, قد أبدلك الله خيراً منها... فغضب النبي غضباً شديداً وقال( لا والله ما أبدلني الله خيراً منها, آمنت بي حين كذبني الناس, وواستني بنفسها وبمالها, ورزقتي الله منها الولد).‏

ومع أن النبي ] كان يحب عائشة غاية الحب ولكن أشواقه إلى خديجة كانت هنا أدوم وأظهر:‏

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى‏

ما الحب إلا للحبيب الأول‏

كم منزل في الدهر يألفه الفتى‏

وحنينه أبداً لأول منزل‏

وبعد رحيلها بعشر سنوات وحين أنجز له الله الفتح العظيم واحتشد زعماء العرب من حوله يدعونه إلى دورهم ومرابعهم لينزل فيها أعرض عن دورهم وقصورهم جميعاً ومشى بناقته شمال المدينة ميلاً أو بعض ميل ثم أوى إلى مقبرة الحجون وهناك عند حجارة سود أمر بنصب خيمته عند قبر خديجة ليقول للعالم إنها حبيبتي في الدنيا والآخرة, لقد كانت شريكة صبري ومن حقها أن تكون شريكة نصري كانت معي في الجراح والكفاح ومن حقها أن تكون اليوم في النصر والأفراح ورسم على مقبرة الحجون أروع حكاية حب غرست في الأرض وأينعت في السماء.‏

وأما حبه لعائشة فشائع مشهور وقد ترجم الذهبي في سير أعلام النبلاء لعائشة كالآتي وكانت عائشة امرأة بيضاء جميلة ومن ثم يقال لها الحميراء ولم يتزوج النبي ] بكراً غيرها, ولا أحب امرأة حبها. وقد بدأ حبه لها منذ خطوبته إياها وكان يرسم ذلك الحب بريشة ملائكية يقول لها: ( أريتك في المنام ثلاث ليال جاء بك الملك في سرقة من حرير, فيقول هذه امرأتك فأكشف عن وجهك فإذا أنت فأقول إن بك هذا من عند الله يمضه).‏

تحدثت عائشة أيضاً أن الرسول الكريم ] يوم العيد والحبشة يلعبون في المسجد بالدرق والحراب: تشتهين تنظرين? قلت: نعم , قأقامني وراءه, خدي على خده وتمضي في رواية تفاصيل ذلك الفرح الرياضي الذي كانت فيه السيدة عائشة تشارك الرسول ] في المونديال الرياضي الذي شهدته المدينة.‏

وفي سياق حديثها عن مظاهر الحب الحلال الذي شاهدته من الرسول قالت: كان رسول الله يعطيني العظم فآكل منه, ثم يأخذ فيديره حتى يضع فاه على موضع فمي, وكانت عائشة بعدئذ تعلم النساء فنون الحب, وتتصدر النساء تعلمهن وسائل الوصول إلى قلوب أزواجهن واشتهر قولها: إن كان لك زوج فاستطعت أن تنزعي عينيك فتصنعيهما أحسن مما هما فافعلي وقد صرحت أم سلمة بما كان بين عائشة والنبي من حب, حتى قالت: إنه لم يكن يتمالك عنها حباً وكان التابعون إذا رووا عن عائشة: حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله المبرأة من فوق سبع سموات.‏

قد لا يكون من المنطقي أن نخترع نسخة إسلامية لعيد الحب خاصة وأن هذه المناسبة اليوم تربط بعلاقات محرمة لا يمكن أن نتأولها على وفق قيم الإسلام وهي حقيقة يجب قولها على الرغم من الغضب الذي سنسببه لسبونسرات حفلات 14 شباط, ولكننا مع ذلك معنيون بأن نؤكد للناس أن الإسلام ليس ديناً بلا قلب والمسلم ليس كائنا من خشب إنه دافىء القلب رطب العين, وما بين خفق قلبه ودمع عينه حكايا عاشق شقي تلتهب أشواقه فقط في الفراش الحلال حيث أذن الله وأمر فطرة الله التي فطر الناس عليها, لا تبديل لخلق الله.‏

جريجة الثورة