البرلمان الإسلامي.... حقيقة أم وهم.... وإن هذه أمتكم واحدة



دين ودنيا
الجمعة 1/2/2008
بقلم: د. محمد الحبش *

أكتب اليوم من القاهرة وأنا سادس ستة من أعضاء مجلس الشعب الذين أوفدتهم سورية للمشاركة في مجلس اتحاد البرلمانات في دول منظمة المؤتمر الإسلامي, حيث يلتقي رؤساء البرلمانات في سبع وخمسين دولة في العالم الإسلامي لمناقشة قضاياهم المشتركة والتأكيد على أهمية التوحد والتلاقي بين الشعوب الإسلامية.

ومنذ أكثر من عشر سنين يقوم اتحاد مجالس الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي بعقد هذا اللقاء تحت عنوان براغماتي: اجتماع اتحاد مجالس الدول الأعضاء في منطمة المؤتمر الإسلامي, دون أن يكون هناك كلام في الواقع أو الطموح عن برلمان إسلامي.‏

هل هناك إمكانية لقيام برلمان إسلامي? أما من حيث الطموح فالجواب نعم وتجربة البرلمان الأوروبي واضحة وجلية ولا يوجد عليها أدنى مزيد, فقد قامت الوحدة الأوروبية بعد قرون دموية طبعت علاقات أبناء القارة العجوز, وبعد نزاع ديني مرير لا يزال إلى اليوم يصر كل طرف فيه على احتكار الخلاص وإلقاء الآخر المختلف دينياً في جهنم, ولكنها قامت على الأرض بعد أن وضعت تاريخها في سياق السنن القرآنية تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون, وبعد أن أبعدت اللاهوت عن قرارها السياسي, وحصرت جدله بين العظة والقداس, رغم أنها لا تزال تحتفظ بالصليب في ضمائرها رسالة حب وفداء وقد رسمته في صدر العلم في أربع عشرة دولة أوروبية ولاتينية, وهكذا نجحت الوحدة الأوروبية وأصبحت خياراً ملهماً لكل شعوب الأرض لاكتشاف فائدة التوحد وإمكانيته, وللعمل على تكرار التجربة بأشكال وأبعاد على مقاس شعوبه وقضاياه.‏

إن سؤال البرلمان الإسلامي يقودنا إلى سؤال الأمة الإسلامية, فهل هناك أمة إسلامية بالفعل? البعض يشكك في ذلك ويرى أنه من غير الواقعي أن تقر بالمشترك بين الأندنوسي والنيجيري والموريتاني والبوسني لمجرد أنهم يؤدون شعائر مشتركة في المساجد ويقصدون قبلة واحدة في الصلاة.‏

سيكون جوابي مجروحاً لو انفردت بالجواب فأنا مهووس للعظم بفكرة الاتحاد الإسلامي, ومؤمن بكل تفاصيل هذا اللون من التوحد, ولا ينقص ذلك أبداً من يقيني بإمكان توحد العالم الإيماني بأطيافه السماوية جمعاء, ولا من إيماني بإمكانية توحد العالم الإنساني, فالعالم أسرة واحدة والخلق كلهم عيال الله وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله.‏

ولكني أفضل أن أدع الجواب هنا لكاتب أمريكي كبير وسياسي شهير, لا يمكن اتهامه بأنه متعصب للعالم الإسلامي أو أنه يتحرك في كتاباته بدوافع أصولية أو سلفية.‏

في كتابه الشهير الفرصة السانحة يؤسس نيكسون لقراءة خطيرة للعالم اليوم من وجهة نظر أمريكية بالطبع بل من وجهة نظر الجمهوريين الأمريكيين, ويؤسس لدور أمريكي مسيطر على العالم على أساس أن الله اختار أمريكا لتكون عالمه الأخير وأنها بشكل أو بآخر نهاية التاريخ, إلى غير ذلك من الأساطير التي يتغنى بها الأمريكيون عموماً ويتبناها المحافظون اليمينيون اليوم في البيت الأبيض.‏

كتب نيكسون كتابه هذا في آخر أيام حياته وهو لا يملك أدنى فرصة للعودة إلى البيت الأبيض وهو في سنوات الوداع, في الساعة التي يتوب فيها الفاجر ويؤمن فيها الكافر, وهو ما يجعل دراسته بعيدة عن الشبهات, وفي سياق رؤيته التحليلية يقدم للمعرفة نقطتين في غاية الأهمية فمن جهة الشكل يؤسس نيكسون دراسته إلى تقسيم الأمم وفق المشترك في تاريخها وواقعها, فيخصص فصلاً للولايات المتحدة وآخر لأمريكا اللاتينية وفصلاً لأوروبا الغربية وفصلاً لأفريقيا وفصلاً للاتحاد السوفيتي وآخر للصين ولكنه يختار تسميته العالم الإسلامي بوضوح للشعوب التي تسكن من المحيط إلى المحيط, ويدافع بحرارة عن رأيه على أساس أن هذه الشعوب ترتبط بالعقيدة الإسلامية وهي أكثر من رابط ثقافي وهي عقيدة بالغة التأثير في سلك هذه الشعوب عن بكرة أبيها.‏

ويقول إن الشعوب الإسلامية هي متحد حقيقي وإن عجزت السياسة عن ترجمة ذلك عملياً, ولكن الروابط الروحية في الإسلام أبقى أوثق من أن يتم تجاهلها, وهي قادرة بالقوة على تأسيس رباط اجتماعي ومتحد سياسي أقوى مما نظن.‏

وحيث يخوض في التفاصيل يقدم نيكسون رؤية جد متطورة وواعية لدور الإسلام في الحياة ودور الإسلام في البناء الحضاري, ويشير إلى أن الحضارة الإنسانية ازدهرت طويلاً في ظلال الحكم الإسلامي وإن علينا أن نحترم القيم الإنسانية النبيلة التي تجمع بين هذه الشعوب وتشج من أزر مصالحها.‏

إن سؤال الوحدة الإسلامية ليس تنطعاً في الغيب ولا هو مكابرة في المحسوس, بل استجابة طبيعية لهموم يتحسسها الناس من الناس من المحيط إلى المحيط ويأملون في بناء حياة مشتركة تكون فيها القيم الإسلامية مصونة محفوظة, وتستنهض المخزون الإيماني الكبير من أجل حماية المقدسات لإنجاز السلام في النهاية على أرض فلسطين ورفع البؤس الذي سببه إصرار الدول الغربية على تعذيب الشرق بإسرائيل ومشتقاتها ليتخلص الغرب من هموم الشعب المختار وتبعات الهولوكوست.‏

ربما ليس مطلوباً أن نكثر من الأدلة خاصة أن من قرأ هذا المقال هم من أبناء سورية التي ظلت تاريخياً جزءاً من برامج التكامل مع العالم الإسلامي, ولكن مناقشة هذا الحلم الجميل ستصطدم بشكل مروع مع واقع العالم الإسلامي المؤلم المعتد عبر سبعة وخمسين دولة عضو في منظمة المؤتمر الإسلامي لا تكاد تشترك منه اثنتان.‏

في رسم سياسة خارجية موحدة, وغالباً ما تتشتت مواقفها في القضايا الكبرى مما يخلف أسوأ الأضرار على فكرة الوحدة والتوحيد.‏

وفي قراءة أشد إيلاماً فإن الحديث عن الوحدة الإسلامية كان في الماضي هو العنوان الذي يلتزمه الخطاب الرسمي لهذه الأمم ولكن عبارة الوحدة رحلت لتحل محلها عبارة التضامن الإسلامي لأنها أكثر واقعية وملائمة, ثم انسحبت كلمة التضامن بعد أن عجزت عن إقناع الناس بواقعيتها ونتحدث اليوم عن التعارف الإسلامي, وفي العراق مثلاً صار الحديث ممكناً فقط عن التعايش الإسلامي, وفي فلسطين تناحر الإخوة أبناء القضية في خنادق الكفاح, على الرغم من توحدهم في الدين والمذهب والقومية والعقيدة والرسالة, وانتقلت البندقية من كتف إلى كتف, ووجد المسلم نفسه في مواجهة غبية مع أخيه, لا يدري فيها القاتل لم قتل ولا المقتول لم يقتل, وكانت في صراعها العابث على حد قول البحتري في وصف الحرب الأهلية لبنى تغلب:‏

وفرسان هيجاء تجيش صدورها بأحقادها حتى تضيق دروعها‏

إذا احتربت يوماً فسألت دماؤها تذكرت القربى ففاضت دموعها‏

أما حركات العنف الوالغة في الدماء الإسلامية اليوم في العراق فإنها تكتفي من هذه المعايير بالدعوة إلى الرحمة عند قتل المخالف على أساس ان الله كتب الإحسان في كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته!!‏

ألا يجعل هذا كله كلامنا عن البرلمان الإسلامي لوناً من العبث? وهل هناك حقاً مشترك إسلامي يكفي هكذا طموح? لقد قرأنا الصورة من أشد زواياها إحباطاً وبؤساً, ولكن دراسة واعية للتاريخ وللحاضر ستجعلنا ندرك أن آمالنا في التوحد ليست شيئاً خارج تاريخ العالم, فنحن أبناء هذه الأرض, وتاريخنا شهد كثيراً من الدماء ولكنه أيضاً شهد فترات هائلة من التوحد, عصفت بما كان من الخصام والشقاق وأسست لروح من التلاقي والتراحم.‏

إن الكلام عن الوحدة هو شأن النخب المؤمنة بالحوار والتكامل, والناس فروقيون وجمعيون, ومنهم من يبحث عن المشترك ومنهم من يبحث عن المختلف, ولا شك أن الذين يجعلون رسالتهم في تأكيد التمايزات لن يصلوا إلى أي لون من التوحد, وسيكون عناؤهم في غير غاية, فالتوحد بمعنى إلغاء الآخر, وإعادة قولبة الناس على نسق محدد صارم هو مشروع حرب, ولن يصل الإنسان إلى هذا اللون من التوحد على مستوى الضيعة والقرية بل في إطار الأسرة حتى مع نفسه إياها, بدءاً من أصابع يديك إلى أظفار رجليك إلى سرورك وحزنك إلى قبضك وبسطك إلى فرحك ورضاك: وما سمي الإنسان إلا لنسيه ولا القلب إلا أنه يتقلب‏

بعيداً عن الجدل الفلسفي فإن الحلم بالبرلمان الإسلامي ليس وهماً هلامياً, بل هو مشروع حقيقي لنهضة هذه الأمة, وهو ليس بالضرورة شيئاً مضاداً للبرلمان العربي ولا للبرلمان الآسيوي ولا لبرلمان بلاد الشام, إن بالإمكان مراقبة ذلك كله ورسم صيغة توافق وتكامل بين كل الروابط التي يمكن أن تعود على الناس بالفائدة والخير.‏

* مدير مركز الدراسات الإسلامية‏