نظرة الى الديمقراطية التوافقية :

عندما يعرف المرء ما في جيبه من نقود فإنه سيحدد مشترياته من حيث أهميتها وأولوياتها، ولن يغامر أي عاقل على المفاصلة على سلعة لا يملك ثمنها، خصوصا إذا اشترط البائع الدفع نقدا..

كذلك هي الحال في المناوشات والتحرشات، أي كان نوعها، فلن يستعرض أي بطل مهاراته في بيئة غريبة عليه، لعدم معرفته بما قد يفاجئه من قوة كامنة في حي أو مدينة غريبة عنه..

في حالات تداول السلطة، ليس المنطق وقوة الحجة لها علاقة فيمن يحكم البلاد، ومن يستعرض حكام معظم دول العالم سيجد الأمثلة كثيرة .. لكن هناك من يحتل مقعده الأول في إدارة الدولة أو مقعدا قريبا من المقعد الأول، ضمن قواعد تمت صياغتها بعد جولات هائلة من العراك المستمر أو المتقطع، حتى تقف الأطراف المتعاركة لتلتقط أنفاسها وتقوم بصياغة عقد فيما بينها لتقاسم مواقع النفوذ بالبلاد، وتكون المواقع تلك تتناسب مع إيمان كل طرف بقدراته التي جربها في العراك حتى وصلت للاتفاق ..

هناك من يسمي تلك العقود بالدستور أو الميثاق أو العقد الديمقراطي الخ، وسيكون أبهى حالات التجلي لتلك الممارسة بما يدعى ب (الديمقراطية التمثيلية) حيث يحق لكل من يرى بنفسه من المواطنين أن يرشح نفسه للمواقع القيادية سواء كانت المقاعد البرلمانية أو ما تفضي إليه من مقاعد أكثر .. وقبل أن تشيع الديمقراطية (التنافسية أو التمثيلية) في بلد ما، فلا بد أن يسبقها حالة تمهد لها، أطلق عليها المختصون اسم الديمقراطية التوافقية ..

ما هي الديمقراطية التوافقية؟

تقدم الديمقراطية التوافقية Consociational Democracy كما تبلور مفهومها منذ عقود كنموذج بديل عن الديمقراطية التنافسية أو الديمقراطية التمثيلية، فإن كانت الأخيرة تعبر عن اكتمال الشروط القانونية والسياسية في سياق تكون دول ومجتمعات موسومة بقدر كبير من التلاحم البشري والانصهار الاثني والاستقرار السياسي ومعززة بثقافة سياسية تكرس قواعد التنافس والتداول والتمثيل، فإن الديمقراطية التوافقية تختلف عنها بأنها تولد وتنبع من شروط يطبعها الانقسام المجتمعي والتباينات الإثنية والعرقية والجهوية وضعف الوحدة الوطنية وصعوبة الاستقرار السياسي وعسر ديمومته وتواتر موجات العنف الاجتماعي ..

وترد في التاريخ الراهن نماذج للديمقراطية التوافقية، سواء في العالم المتقدم كحالات (سويسرا وبلجيكا والنمسا وهولندا) أو في بلدان العالم الثالث كحالات (الكونغو وماليزيا ولبنان و رواندا) ..

خصائص الديمقراطية التوافقية

حدد (آرند ليغبهارت) خصائص للديمقراطية التوافقية بأربع :

1ـ تكوين (كارتل حكومي) أو تحالف كبير يضم المكونات الرئيسية للمجتمع التعددي، وقد نعود للتعددية فيما بعد وفق منظور (موريس دفرجة) ..

2ـ وجود مبدأ الاعتراض أو (الفيتو) وفق نظام يتفق عليه بين الأطراف.

3ـ النسبية سواء على صعيد المقاعد البرلمانية أو أعضاء الحكومة أو الوظائف الهامة في الدولة ..

4ـ النقطة الرابعة تتعلق بمدى قدرة كل مكون من مكونات الديمقراطية التوافقية على ضبط أمور مكونه وتمثيل هذا المكون بشكل جيد، وتضمن الديمقراطية التوافقية لكل مكون الاستقلال في إدارة شؤونه دون تدخل عموم المكونات الأخرى المشتركة في عقد الديمقراطية التوافقية ..*1

جدل و خلاف حول الديمقراطية

هناك من يغمز بجانب الديمقراطية على أنها أسلوب غربي ليبرالي، لا يصلح لمنطقتنا وقد ترى أنظمة الحكم العربية بتلك المقولة مهربا لها للتخلص من خصومها، وللمصادفة العجيبة أن أوسع التيارات المعارضة للحكومات العربية وهي التيارات الإسلامية تشاركها الرؤية في كثير من الأحيان، وإن كانت تطالبها بها في أحيان أخرى ..

ومن المفكرين العرب هناك من يساند الفكرة التي نادى بها (سيمور مارتن ليبيست) قبل خمسين عاما عندما قال: (التنمية أولا) .. أي أنه لن يكون هناك ديمقراطية ما لم تكن تنمية .. ويتسلح مثقفو السلطات الحاكمة في بلداننا بتلك المقولة. ولكن ثبت فشل تلك المقولة بشكل جلي، حيث ثبت أن الدول الفقيرة التي اعتمدت الديمقراطية منهجا لها كسنغافورة وكوريا الجنوبية والهند استطاعت أن تسجل تقدما تنمويا أكثر من تلك النظم الأوتوقراطية الموجودة في أمريكا الجنوبية وإفريقيا وبلداننا العربية ..*2

في بعض الأقطار ليس هناك من مناص من الديمقراطية التوافقية

في لبنان والعراق والمغرب والسودان، هناك حالات كبيرة من التباين الاجتماعي ففي السودان مثلا يوجد ما يفوق ال 500 قبيلة و 50 لغة*3، فلا بد من شكل يقبل به الجميع حتى يتم تخفيض التوتر بالبلاد و التقدم بها الى الاستقرار والانصراف الى التنمية والبناء ..

هوامش
ـــ
*1ـ أمحمد مالكي/أستاذ العلوم السياسية ومدير مركز الدراسات الدستورية والسياسية ـ كلية الحقوق ـ جامعة القاضي عياض ـ مراكش . من ملف الديمقراطية التوافقية التي قدمت الى (مستقبل الديمقراطية الوفاقية في الدول العربية) اللقاء السنوي السادس عشر لمشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية، كلية سانت كاترين ـ جامعة أكسفورد ..

*2ـ رضوان زيادة /مدير مركز دمشق لدراسات حقوق الإنسان/ من ورقته في اللقاء السابق ..

*3ـ احمد الشاهي / باحث سوداني في جامعة سان أنتوني أكسفورد/ من ورقته في اللقاء نفسه ..