شخصية الهرم
دراسةفى تأصيل الفكرة الهرمية
منقول بتصرف عن مقال للمهندس
احمـــد ابراهيم حلمى
مهندس معمارى
مقال اكثر من رائع تحليل مبني علي اسباب علمية اهداء لكل مدعيي البطولة و النظريات و الاراء
هذا مقال وجيز عن الفكر التصميمى للهرم وانعكاس فقه العقيدة الشمسية القديمة على الأسس التصميمية له ، وصولا الى تحديد هويته البنائية وتأصيل مكانته المعمارية فى تاريخ هذا البلد القديم الممتد عبر آلاف السنين فى بحور الحضارة وآفاق البشرية .
ولا أقول أن هذا بحث أثرى فى أثر من الآثار فللآثار علماء أجلاء أثروا حياتنا بما لم نكن نعلم من تلك الكنوز الضاربة فى أعماق الزمان .
انما هو عن الفقه التصميمى لمبنى معمارى مجرد قام تصميمه وبناؤه على أساس عقيدة دينية كانت سائدة فى زمان مضى ، واحتواها مكان ووطن مازلنا ندب على ثراه .
ذلك المبنى الهرمى الذى حارت فيه الألباب ، وتاهت عن تصوره العقول والذى عد من عجائب الدنيا السبع وكان ولايزال مادة خصبة للتفكير والتأمل والبحث والتنقيب النظرى فى حنايا مضمونه ومنحى وجوده .
واذا ظننا أن اعجاز ذلك المبنى الهرمى انما يستمد من حجمه الهائل وانجازة التنفيذ فانه يكون قد جانبنا الصواب بغير شك ، فمبنى مثل هرم خوفو الذى عد من عجائب الدنيا يجاوره هرم خفرع وهو يدانيه ارتفاعا بارتفاع وحجما بحجم ، فلمادا لم يعد ذلك الهرم من الأعاجيب مثل قرينه لا شك أن الاعجاز هنا منسوب للتصميم المعمارى لهرم خوفو دون سواه .
لقد تناضل العلماء طوال أزمان مضت وعبرأطروحاتهم عن فحوى الشكل الهرمى أو الاجابة على السؤال المباشر - لماذا الشكل الهرمى ؟ أو لماذا بنى ملوك مصر أهراماتهم ؟
وقد ركن كثير من العلماء الى الجانب السلبى والزهد فى البحث عن مكنون الهرم فهذا ادواردز فى كتابه- أهرام مصر – يقول بالحرف الواحد " ونظرا لقلة الأدلة المكتوبة فان أية محاولة لمعرفة الأصلين التاريخى والدينى للأهرام تكون مفعمة بالتخمينات ولا يمكن أن نتوقع منها الا نتائج غير حاسمة .
وذهب الكثير من العلماء فى شأن تفسير الغرض من الأهرام الى تفسيرات متباينة فرجح بعضهم أن الهرم يعكس نظام الحياة فى مصر القديمه الذى يعلوها الفرعون كقمة الهرم وذهب آخرون أن الهرم جاء كمقياس فلكى ولضبط المواسم والتوقيت واقترح الغالبيه أن هذا المبنى ما هو الا مجرد مقبرة بناها الفرعون لنفسه لتحميه من أيدى المعتدين وغلبه الدهور والأيام ، وان هذا يظهر بوضوح فى تصميمه الداخلى من وجود غرفة بها تابوت .
ان هذا المنطق المحدود يدفعنا الىاعتبارمشروعا رائدا كالهرم - أى هرم - بضخامته وعبقرية تصميمه وتكلفته والجهد والوقت الذى استنفده من تاريخ الشعوب وقدراتها ليس له من هدف الا ليكون مقبرة لفرد واحد وان كان هو الفرعون نفسه .
ان المنطق الصحيح يقودنا الى أن هناك مضمونا واهدافا أخرى غير هدا الهدف السابق حتى وان صح استخدامه كمقبرة فان هناك بالتأكيد أفاقا علا وبرنامجا تصميميا يحمل معنى قوميا قام عليه هذا المشروع وهذا ما استلزم تضافر مجهود شعب بأكمله أن يدفع به فى اتجاه الانجاز .
فمشروع مثل النصب التذكارى جل ما تهتم به الدول وتتعالى هاماتها بمضمونه كرمز للتضحية والفداء للوطن يضم كعنصر رئيسى فيه مقبرة لجندى مجهول ، فمن يأتى ليصف لنا هذا الصرح على أنه مجرد مقبرة فقد جانبه الصواب لا شك ، انه مبنى يحوى الرمز والمعنى ليس لفكرة الدفن المجرده وانما لمضامين وطنية وسياسية فى المقام الأول .
واذا اتجهنا للادلاء بدلونا فى هذا المعترك المنهجى فى محاولة الاجابة على السؤال القديم المتجدد لماذا الشكل الهرمى؟ فاننا فى طريقنا لتوضيح الاجابة لابد وأن نتساءل أولا عن منبع الفكر التصميمى له ؟ وعن هويته ؟ والعقيده التى قام عليها ؟ فذلك المصمم الذى استقى علمه من مدرسة تصميمية لاهوتية كمدرسة أون لابد وأن يؤسس برنامج ومرادفات تصميماته تأسيسا عقائديا نظريا يقدم الفكرة التى يِؤمن بها واذا كانت تلك الفكرة كيانا روحيا ومعنى مجردا لزم أن يأخذ بتلابيب الصيغ والمعانى والمرادفات التى توضح وتفسر تلك المفاهيم والعلاقات النظرية والمرامى العقائدية التى تدل على معانى مجردة ومفاهيم وأساطير يتداولها الكهنة والمتبحرين وأساسيات ديانة قامت علي تلك الأساطير أو تشتمل تلك الأخيرة ركنا تليدا فيها لا يتجزأ عن أساسياتها الرئيسية التى تقوم عليها ، فنرى أن ذلك المصمم أو المدرسة التصميمية القديمة قد أخدت المفهوم الكونى الثابت كقيمة فنية وعقائدية مرتبطان ببعضهما ، يتم بهما اظهار المعانى والمعتقدات ، بواسطة خليط من التجريد الفنى والواقعية المحسوسة دون تدخل شخصى بأحاسيس الفنان أو الارتباط بمكان أو بزمان سوى بالمعنى والعقيدة المجردة التى يعلمها ويعتقدها ويؤمن بها هذا الفنان الرصين .
واذا كان لنا أن نصف أو أن نبحث عن التدليل المنهجى لتلك العقيدة الشمسية التى سادت فى الحقبة الهرمية والتى لا شك أن فكرة الهرم قد قامت عليها وروجت لها .
فان الدلالة الاشعاعية لتلك العقيدة تكون هى الأوفر نصيبا فى الطرح وفى الفهم والادراك فعلة تقديس ذلك الرمز الشمسى - تكون بلا ريب لمدلول اشعاعها وثاقب ضوئها فاءن الانسان لا يضرب فى الأرض ويسعى لجلب قوته الا فى وجودها الضوئى المنير فان غابت واستقرت لاذ كل الى ملجأه ومسكنه يلتمس السكون والرحة فلا عمل هنا ولا انجاز الا اذا أذنت بذلك عند مشرقها ثانية وعودة الحياة بها الى سابق عهدها اليومى ودأبها المستمر ، دافعة لعجلة الحياة من جديد بعد أن آذنت بتوقف وسكون .
ان الوظيفة الاشعاعية للشمس هى سر الحياه ومكمنها ، وموضوع كاشعاع الشمس المنير يكون موضوعا خصبا للطرح الفلسفى والعقائدى لاسيما عند تشكيل العقيدة المرتبطة بها وتفاصيلها عند المصريين القدماء .
ولا ريب أن مراقبة هذا الشعاع المجرد من لحظة انطلاقه من حدقة عين الشمس حتى وصوله الى ساحة الكيان الأرضى كان عملا دينيا ومطلبا كهنوتيا فى المقام الأول عند القدماء .
ولعلنا نلحظ أن صفات كبار الكهنة والمتبحرين القدماء انما توحى بالمهمة السابقة وهى مراقبة ورؤية الشعاع وأخد العبر والمرامى من تلك الرؤية ، ففى هليوبوليس "أون" كان الكاهن الأكبر فى معبدها يوصف بـ "الشخص الكبير الذى شاهد رع – تم" أو كبير الرائيين فى أون ورأئى أون ومن يرسر السماء وهكذا فلعل هذا الرائى قد شاهد منظر أشعة الشمس فى عليائها وهى تخترق السحب من فرجة بها ، فترسم بخطوطها المستقيمة المائلة صور مثلثات متراصة قاعدتها الأرض وقامتها السماء مكونة شكلا هرميا عملاقا يحوى فراغ السماء الشفاف ومادته من أشعة الشمس المضيئة ،واذا كانت الأشعة هى صنيعة الشمس فانها تشكل الهيئة والشكل الذى ألقت به الشمس على الأرض ، وربما أن تلك المشاهدة تجنح بنا بقوة الى التفسير البصرى الضوئى الذى حدا بالرائى القديم للتعرف على الشكل الهرمى باعتباره هو الكيان والشكل الأرضى الذى يدل على وجود الشمس فى عليائها ، أو هو التجسيد الذى اختارته الشمس على الأرض مستعينة فى ذلك بوحدة الشعاع المشكل لهذا الشكل الهرمى .
لقد تكونت التفاصيل النهائية للعقيدة الشمسية القديمة فى مدرسة أون وفرضتها بواسطة كهانها كدين رسمى للدولة ، واذا كانت مدرسة –أون-من القوة بحيث تستطيع أن تبلور ديانة رسمية لدولة محافظة مثل مصر وأن تحمل شعبا على الاعتقاد بها والايمان بها ، على الرغم من شخصيته الزراعية فى ذلك الزمان والتى نادرا ما تتقبل تجارب جديدة لاسيما فى الميدان العقائدى وذو منحى ثقافى لا يؤمن الا بالفكر الواحد المجرد ، نتيجة الاحادية التى فرضها النيل عليه كفكر واضح مبسط . فما هو المبحث العلمي والنظرى الذى استندت عليه ؟ ذلك هو السؤال .
لقد كانت تملك هذا النموذج الهرمى الرائد كرمز لها وتحيطه بكل تبجيل واحترام فما فحوى هذا النموذج وما سر تقديسه وما سبب وضعه كرمز لتلك المدرسة ؟
فاذا رجح القول السابق من أن الشكل الهرمى هو الشكل الذى اختارته الشمس من خلال أشعتها المصوبة نحو سطح الأرض ، وكانت الأهرامات الأرضية وضعت لتخليد هذا الشكل فان هدا المفهوم ليستقيم لو كانت تلك الأهرامات الحجرية الأرضية أهرامات من أشعة نورانية، أو كان النموذج الهرمى لمدرسة أون كان فعلا نموذجا من أشعة أو كان على النقيض تمثيلا حجريا لهذا المفهوم ، أى تمثال من حجر مادى لفكرة روحية إشعاعية .
ان الفكرة تقوم على حلول شىء مكان آخر ، أى نموذج منه ، سواء أكان تمثالا حجريا لشخص أو منظرا منقوشا على حجر ، فان ذلك فى اعتقادهم يملك كل المزايا التى للشىء الحقيقى الذى تمثله .
ويمكننا تمثيل تلك الفكرة بواسطة علم الضوء بطريقة “Geometrical” ، بدراسة نموذج هرمى مادته شفافة كشفافية هرم السماء بحيث لا تمنع ضؤا أن ينفذ وشعاعا أن يمر فاذا تلمسنا هذه التجربة بهرم من زجاج ليؤدى نفس الغرض وأردنا أن نمثل به تلك الفكرة الهرمية فاننا هنا سنتمثل هؤلاء الرائيين القدماء فى رؤيتهم البصرية ، فماذا رأوا وما هو هذا الشىء المرئى .
تعالى معى أيها الرائى الجديد ولتضع هرما كريستاليا شفافا على راحة يدك وارفعه الى مستوى عينيك على أن تكون مواجها لواجهة الهرم تماما فى وضع "elevation" المعمارى فماذا ترى ؟ من مجمل الانكسارات والانعكاسات الناشئة داخل الهرم الكريستالى يمكننا أن نرى بوضوح ذلك القارب المجرد القابع أسفل الشكل الهرمى وهو انعكاس جزء من القاعدة على واجهة الهرم المقابلة ان هذا القارب ليرقد أسفل الشكل الهرمى فى الوضع الطبيعى له عائما فوق مياه المحيط الأزلى _ الذى كانوا يعتقدون أن الخلق قد انبثق منه _ ذو اتجاهين متلازمين ويعطى معنى العودة والتكرار .
فاذا رددناه الى سطح عاكس كسطح مرآه مثلا ليمثل صفحة مياه ذلك المحيط الأزلى فماذا نرى من جديد فيه .