الغرب والإسلامأهمية شرق الأردن العسكرية لحماية (إسرائيل) (19)مصطفى إنشاصيأصبح واضحاً أن الاختيار لفلسطين لتكون مركز الهجمة على الأمة والوطن لم يأتِ عبثاً، ولا عشوائياً، فإضافة إلى البُعد الديني لدى اليهود والغرب جاء بعد دراسة وبحث سنتان، استحضر فيه الدارسون كل تجارب الماضي والحاضر، واستشرفوا احتمالات المستقبل القريب والبعيد الذي يمكنها أن تشكل تهديداً للحضارة والسيادة الغربية، ولازالوا إلى اليوم وغداً حريصون على استحضار تلك الاحتمالات، ووضع الخطط والمشاريع لإفشالها والقضاء عليها في مهدها، أو تأخير نضوجها واكتمال بنائها وقوتها.قلنا أن المسلمين أثناء الحروب الصليبية أدركوا أهمية حصني الكرك والشوبك "الأردن" إلى جانب فلسطين في توطيد دعائم الوحد بين شطري الوطن الإسلامي الآسيوي والإفريقي، خاصة مصر وبلاد الشام وأن الأردن هي العمق الإستراتيجي والجغرافي والعسكري لتأمين الجسر الأرضي "فلسطين" وحمايته الذي يربط بين شطري الوطن الإسلامي، وكذلك أدرك الصليبيون أهمية حصني الكرك والشوبك في تأمين حدود إمارة بيت المقدس التي ستحافظ بدورها على الوجود الصليبي في وطننا، وتحفظ تماسك بقية الإمارات الصليبية المتناثرة آنذاك في أكثر من مكان في وطننا.ذلك الدرس بعد صدور وعد بلفور عام 1917م الذي تعهدت فيه بريطانيا بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وبعد صدور قرار عصبة الأمم بالوصاية البريطانية على فلسطين من أجل تهيئة الأوضاع لتنفيذ مقررات تقرير كامبل بنرمان وتحقيق الفصل بين شطري الوطن الإسلامي، وزرع القومية الغربية في قلب الأمة النابض، بدأت بريطانيا تدرس كيفية تأمين حدود آمنة لهذا الكيان الغريب (الإسفين) من خطر الدول المحيطة به، فعقدت "مؤتمر في القاهرة لدرس موضوع إمبراطورية (الشرق الأوسط) حضره كبار الاستعماريين البريطانيين المشتغلين في شئون البلاد العربية، وبعد بحث الموضوع رأى المؤتمرون ضرورة الاحتفاظ بالحماية البريطانية في مصر وتأسيس إمارة شرق الأردن لتكون سوراً بدفع خطر البادية عن فلسطين التي هي خط الاستعمار البريطاني لتثبيت قدمه فيها بواسطة قضية الوطن اليهودي".وعندما اندلعت الثورة في فلسطين عام 1936م وعجزت بريطانيا عن إخمادها وبدأ يلوح في الأفق الخطر الذي يهدد ويعرقل تنفيذ مهمة إقامة الوطن اليهودي، رأت أن ترسل بعثة للتقصي أسباب الثورة وتنظر إلى وجهة النظر العربية وكأنها تجهلها، لكن كانت محاولة لتهدئة الأوضاع وامتصاص النقمة الإسلامية العارمة وكسب بعض الوقت لصالح المشروع اليهودي، فأرسلت لجنة برئاسة اللورد "بيل"، وهذه اللجنة أوصت بتقسيم فلسطين إلى دولتين يهودية وعربية.ثم أرسلت بريطانيا بعثة أخرى لتعيين الحقائق الواردة في قرارات لجنة بيل، ووضعت هذه اللجنة تقريرها الذي جاء فيه عن مسألة الدفاع عن الدولة اليهودية التي جاءت في التقسيم الصادر عن لجنة بيل، وقدر جاء فيه ما يلي: "إن الرأي العسكري يدل على أنه يتعذر تقسيم بلاد صغيرة كفلسطين، وتكون لحدودها خطاً عسكرياً مرضياً، ولا يمكن اعتبار أي حد لأي نوع من أنواع التقسيم صالحاً لضمان السلامة الكافية".أما عن الضمانة الوحيدة لسلامة الدولة اليهودية المقترحة فقد جاء: "والضمانة الوحيدة لأي جزء منقطع من فلسطين هي أن يعيش مع الجزء المجاور له بسلام وصداقة بغير هذا لا يمكن الدفاع عن الدولة اليهودية إلا بقوة هائلة دائمة يتعزز على أي دولة استبقاؤها". لذا شرعوا في تأسيس مملكة شرق الأردن المرتبطة بالغرب ارتباطاً وثيقاً لتكون هي ضمانة السلام مع الدولة اليهودية الموجودة حالياً.وإذا نظرنا إلى خريطة إمارة بيت المقدس الصليبية التي قامت عام 1100م وقارناها بخارطة الكيان الصهيوني في فلسطين، وخصوصاً من حيث قيام هذان الكيانان وتحقيقهما لعزل المشرق الإسلامي عن المغرب الإسلامي، وإقامة حاجز يمتد من خليج العقبة إلى البحر المتوسط، أدركنا وحدة الهدف اليهودي – الغربي، ووحدة المخطط رغم اختلاف العصور والملابسات ورغم اختلاف أدوات التنفيذ لهذا المخطط وتلك الأهداف. وإن كان الصليبيون طلبوا حصني الكرك والشوبك إضافة لما عرضه عليهم الملك الكامل من التنازل عن بيت المقدس و... لإنهاء الصراع؛ فإن العدو الصهيوني عطل المفاوضات بعد حرب أكتوبر لإصرار على مطلبه من مصر الاحتفاظ بشريط حدودي يمتد بطول ساحل خليج العقبة الغربي إلى شرم الشيخ جنوباً، يمتد من أم الرشراش (إيلات) إلى شرم الشيخ، وبعمق عشرة كيلو مترات داخل سيناء، وذلك يؤكد عمق المخطط وأهمية تلك القطعة من الأرض في المشروع اليهودي - الغربي لإحكام عملية الفصل بين شطري الوطن الإسلامي لإحكام العزل أكثر مما حاول الأولون، وجعل الوحدة الأرضية للأمة الإسلامية مستحيلاً، لكن مصر رفضت. كما أنه حرص في اتفاقية كامب ديفيد على أن تَبقَ سيناء أرض منزوعة السلاح، وتحديد عدد الجنود فيها وتسليحهم. الآثار التي ترتيب على ضياع فلسطينبعد ضياع فلسطين وإحكام عملية فصل الأراضي بين أجزاء الوطن بإقامة الدولة اليهودية أدرك العرب والمسلمون أبعاد المشروع الغربي، وأهمية فلسطين للوصل بين شطري الوطن، ولذلك بدءوا يفكرون في وسيلة توصل بين أراضي الوطن العربي والإسلامي بعد أن قطعت إسرائيل بوجودها على الجسر الأرضي تلك الوسيلة، ففكروا في إنشاء جسر على خليج العقبة يربط بين مصر والأردن وبقية أجزاء الوطن الشرقية، وكذلك فكروا في حفر نفق أرضي تحت الخليج لكنهم بعد الدراسة وجدوا أنها مشاريع غير عملية، وصعب حمايتها إذا ما وجهت إليها إسرائيل ضربة جوية، كما أن هذا التفكير جاء بعد فوات الأوان.وما حدث بعد احتلال العراق للكويت كشف أهمية فلسطين للوحدة الأرضية بين شطري الوطن، وما توفره هذه الوحدة من جهد ومصاريف مادية ومعنوية فيما لو كانت بأيدي المسلمين، عندما بدأت عودة الموظفين والعاملين المصريين من الخليج العربي والكويت والعراق على إثر تلك الحرب، وكانت الأعداد كبيرة وقد أدى ضعف وسائل النقل البحرية بين مصر والأردن عبر خليج العقبة إلى تكديس أعداد كبيرة من العائدين على الضفة الشرقية لخليج العقبة انتظاراً لعبورهم إلى الضفة الغربية، ما أدى إلى إصابة الكثير بالأمراض، والأزمات النفسية، ووفاة بعضهم ... إلى غير ذلك من المشاكل.ومهزلة هذا الموقف تمثلت في عرض العدو الصهيوني فتح حدوده مع الأردن عبر رأس خليج العقبة لتدور حوله عربات العائدين إلى مصر مسافة ستة كيلو متر فقط بدل من الانتظار، وما يترتب عليه آثار نفسية وجسدية، إلا أن البرلمان الأردني وكان أكثر أعضاءه آنذاك من الاتجاه الإسلامي رفضوا العرض الإسرائيلي، هذا الموقف يكفي لإظهار أهمية فلسطين لوحدة الوطن الإسلامي.وهكذا تتضح أهمية فلسطين الجغرافية والإستراتيجية بالنسبة للوحدة العربية والإسلامية، وإعادة مجد خلافة الإسلام ونهضته، وأخذ لدوره الحضاري وأدائه لرسالته العالمية، وكما رفض الصليبيون عرض الملك الكامل أن يتنازل لهم عن بيت المقدس و... لإنهاء الصراع والحرب ورفضوا، وبعدها هزموا وخسروا العرض وتم القضاء على وجودهم في فلسطين، مثلهم العدو الصهيوني اليوم الذي كم من مشاريع التسوية الظالمة لنا عُرضت عليه منذ عام 1948 لكنه يرفضها، وسيبقى يرفض لأن تلك الكيانات الطارئة التي لا تعِ سنن الله في خلقه، سنن التاريخ، تحمل بذور زوالها في جيناتها وجينات عقائدها ومشاريعها الظالمة، ومصيرها القضاء المبرم التام ورحيلهم كما رحلت إمبراطوريات كبرى كثيرة!