نتنياهو: نحن نبوءة إشعيا..الأمة البارة وليس أنتم (2)
مصطفى إنشاصي
أود لفت انتباه القارئ إلى: إن كل ما ورد في سفر إشعيا من نبوءات مستقبلية عن الأمة البارة وعن القدس وردت في أسفار أخرى في التوراة وفي الأناجيل ورسائل بولس، لكني رداً على إعلان نتنياهو لمستجلبي كيان العدو الصهيوني مطمئناً لهم بتلك النبوءة اعتقاداً منه ومنهم أنها تعنيهم قصرت ردي عليه من سِفر إشعيا فقط!

وعود الأنبياء في التوراة عالمية وليست قبلية
قد فسر علماء اللاهوت النصارى الموضوعيين والمحايدين وغير المتعصبين لليهود المختصين في الدراسات التوراتية الذين عارضوا تفسيرات اليهود بأن جميع النبوءات التي وردت في أسفار التوراة تشمل جميع ذرية إبراهيم ومنهم إسماعيل أبو العرب، وأن الوعد يختص بجماعة المؤمنين بإبراهيم ولا يختص بجماعة عرقية تنتمي لإبراهيم عرقياً. كما أنهم يؤكدون أن النبوءات لا تعني عودة اليهود إلى فلسطين، ولكنها تعني مملكة روحية للجنس البشري كافة ولجماعة المؤمنين، وفيما يخص عودة اليهود إلى فلسطين فإنهم يرون أنها قد تحققت بعودة اليهود بعد السبي البابلي:
يقول الدكتور (فرانتش شايدل) معقباً على نبوءة سفر (أرميا) بعودة اليهود إلى فلسطين بقوله: "لقد تحققت النبوءة إذ عاد اليهود من الأسر البابلي". والثابت تاريخياً أن جميع اليهود الراغبين في العودة قد عادوا أيام حكم ملك الفرس أرتحششتا زمن الإمبراطورية الفارسية.
ويؤكد الأُستاذ (ألفرد جلوم) أستاذ دراسات العهد القديم في جامعة لندن، بعد أن يعرض لنصوص التوراة حول العهد: "أن هذه الوُعُود قد أُعطيت لإبراهيم ولذريته... وهكذا يصبح لنسل إسماعيل كل الحق لأنهم يعتبروا أنفسهم من نسل إبراهيم ... وبالإضافة إلى أنه حين تم العهد ووُعِد إبراهيم بأرض (كنعان) كملكية أبدية بين الله وإبراهيم بالختان، كان إسماعيل جد القبائل العربية هو الذي "خُتِن" ولم يكن إسحاق قد ولد". وينتهي "جلوم" إلى القول: بأنه "من الواضح أن الوُعُود الإلهية إلى أولئك الأنبياء قد أُلغيت بسبب ردة الأُمة عن الدين، وعندما أجلى السبي الأشوري السكان عن السامرة والسبي البابلي الشعب عن يهودا، رأى الأنبياء في هذه المصائب تنفيذاً للعدل الإلهي في حق شعب عاصٍ جاحد. ولكنهم قالوا لشعبهم: أن بقية ستعود... وفعلاً عاد اليهود إلى يهودا وأعادوا بناء أسوار القدس، وأعادوا بناء (الهيكل)، وعلى ذلك فقد تحققت فعلاً نبوءات العودة، ولا يمكن لها أن تتحقق ثانية، ففي مجمل الكتابات المعترف بها دينياً، والمتعلقة بالعهد القديم، ليست ثمة أية نبوءة عن عودة ثانية من الرجوع من المنفى البابلي".
وعلى ذلك تكون النبوءات الواردة في أسفار التوراة ولم تتحقق بعد؛ خاصة بأُمة أُخرى غير اليهود، وذلك ما يراه كثير من علماء اللاهوت النصارى! يقول {الدكتور "وليام هـ. شتاينسبرج" أستاذ دراسات العهد الجديد –الإنجيل- والدراسات (السامية) في جامعة "ديوك" بولاية "نورث كاورلاينا" والكاهن في الكنيسة المشيخية: "ليس ثمة من أساس في العهد الجديد أو القديم يستند إليه أدعياء الصهاينة بأن إقامة دولة يهودية جديدة في فلسطين هو أمر مطلوب أو له ما يبرره في الكتاب المقدس أو نبوءاته، فالوعود الواردة في نبوءات الكتاب تنطبق على البشر كافة". ويرى أن الإشارات الواردة في الكتاب المقدس تنطبق "حسبما وردت في العهد الجديد، على الكنيسة (المسيحية) المثالية، أو على جماعة من المؤمنين حقاً، ذلك بالمعنى الديني للإيمان". ثم ينتهي إلى أن تلك الإشارات والعبارات في العهد القديم تشير إلى "مملكة روحية للجنس البشري كافة، لا إلى إسرائيل سياسية تحتل أراضي ومنازل مملوكة طبيعية من قبل شعب آخر".
أما الدكتور أوفدر سلزر أستاذ العهد القديم سابقاً، وعميد معهد "ماك كورمك" اللاهوتي، والكاهن في الكنيسة المشيخية المتحدة، ينتهي من تفنيده للادعاء اليهودي بأن إنشاء (دولة إسرائيل) جاء تحقيقاً لنبوءة الكتاب المقدس، إلى القول: بأن "المسيحي الذي يعتمد على الكتاب المقدس المسيحي، يستطيع أن يعتقد بأن كلمة (إسرائيل) لا تعني وحدة جغرافية أو عرقية أو سياسية، بل جماعة المؤمنين كافة}.

المسلمون هم جماعة المؤمنين (الأمة البارة)
يخبرنا إشعيا في رؤية أكثر وضوحاً وتبشيراً بالمستقبل، وأكثر انفتاحاً وتخلصاً من شعور العنصرية اليهودية والانغلاق، بصفاتها جماعة المؤمنين حيث تبشر بخروج أمة من القدس محبة للسلام وللأمم الأخرى، لا ترفع سيفاً ولا تتعلم الحرب: 2وَيَكُونُ فِي آخِرِ الأَيَّامِ أَنَّ جَبَلَ بَيْتِ الرَّبِّ يَكُونُ ثَابِتًا فِي رَأْسِ الْجِبَالِ، وَيَرْتَفِعُ فَوْقَ التِّلاَلِ، وَتَجْرِي إِلَيْهِ كُلُّ الأُمَمِ. 3وَتَسِيرُ شُعُوبٌ كَثِيرَةٌ ... لأَنَّهُ مِنْ صِهْيَوْنَ تَخْرُجُ الشَّرِيعَةُ، وَمِنْ أُورُشَلِيمَ كَلِمَةُ الرَّبِّ. 4فَيَقْضِي بَيْنَ الأُمَمِ وَيُنْصِفُ لِشُعُوبٍ كَثِيرِينَ، فَيَطْبَعُونَ سُيُوفَهُمْ سِكَكًا وَرِمَاحَهُمْ مَنَاجِلَ. لاَ تَرْفَعُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ سَيْفًا، وَلاَ يَتَعَلَّمُونَ الْحَرْبَ فِي مَا بَعْدُ". (إشعيا: 2/3،4).
تلك النبوءة لا يمكن أن يكون المقصود بها اليهود الذين لم ينصفوا يوماً شعباً من شعوب الأرض، أو أغمدوا لهم سيفاً أو كفوا عن الحرب، وهم أينما حلوا ولدوا الثورات والفتن وأجروا المذابح والمجازر، وخلفوا وراءهم الدمار والهلاك، إلى درجة يصدق عليهم فيها قول الرب لهم: "فَحِينَ تَبْسُطُونَ أَيْدِيَكُمْ أَسْتُرُ عَيْنَيَّ عَنْكُمْ، وَإِنْ كَثَّرْتُمُ الصَّلاَةَ لاَ أَسْمَعُ. أَيْدِيكُمْ مَلآنَةٌ دَمًا". (إشعيا: 1/15). وإنما هي جماعة المؤمنين، الأمة البارة، التي أخبر إشعيا أن القدس ستفتح لها أبوابها: "1فِي ذلِكَ الْيَوْمِ يُغَنَّى بِهذِهِ الأُغْنِيَّةِ فِي أَرْضِ يَهُوذَا: لَنَا مَدِينَةٌ قَوِيَّةٌ. يَجْعَلُ الْخَلاَصَ أَسْوَارًا وَمَتْرَسَةً. 2اِفْتَحُوا الأَبْوَابَ لِتَدْخُلَ الأُمَّةُ الْبَارَّةُ الْحَافِظَةُ الأَمَانَة"َ. (إشعيا: الإصحاح 26/1-2). فهل هناك أمةٌ بارَّةٌ وحافظةٌ لأمانة الله غير أمة محمد صلَ الله عليه وعلى آله وسلم؟!
كما أن زكريا حدد صفات فاتح القدس بأنه الخليفة العادل عمر بن الخطاب الذي يأتي راكباً على حمار: "9اِبْتَهِجِي جِدًّا يَا ابْنَةَ صِهْيَوْنَ، اهْتِفِي يَا بِنْتَ أُورُشَلِيمَ. هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي إِلَيْكِ. هُوَ عَادِلٌ وَمَنْصُورٌ وَدِيعٌ، وَرَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ وَعَلَى جَحْشٍ ابْنِ أَتَانٍ. 10وَأَقْطَعُ الْمَرْكَبَةَ مِنْ أَفْرَايِمَ وَالْفَرَسَ مِنْ أُورُشَلِيمَ وَتُقْطَعُ قَوْسُ الْحَرْبِ. وَيَتَكَلَّمُ بِالسَّلاَمِ لِلأُمَمِ، وَسُلْطَانُهُ مِنَ الْبَحْرِ إِلَى الْبَحْرِ، وَمِنَ النَّهْرِ إِلَى أَقَاصِي الأَرْضِ". (زكريا: 9/9). وتنبأ أنه بفتح القدس ستتصل أمم كثيرة بـ(الرب): "10تَرَنَّمِي وَافْرَحِي يَا بِنْتَ صِهْيَوْنَ، لأَنِّي هأَنَذَا آتِي وَأَسْكُنُ فِي وَسطِكِ، يَقُولُ الرَّبُّ. 11فَيَتَّصِلُ أُمَمٌ كَثِيرَةٌ بِالرَّبِّ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، وَيَكُونُونَ لِي شَعْبًا". (زكريا: 2).
تلك الأُمة البارة، جماعة المؤمنين، ستجعل القدس والمسجد الأقصى بيت عبادة وصلاة لجميع الأُمم كما أخبر (إشعيا): "لأَنَّ بَيْتِي بَيْتَ الصَّلاَةِ يُدْعَى لِكُلِّ الشُّعُوبِ" (إشعيا: 56/7).
ويعلق رجاء جارودي على نص سفر إشعيا عن الأمة التي تجعل القدس منارة روحية لكل الأمم، بقوله: "تلكم هي رؤيا إشعيا للمستقبل وهي أيضا رؤيا الأنبياء، وهي تجعل من أورشليم، لا عاصمة شعب، بل منارة روحية لأمة دينية تمتد على تخوم العالم".
نعم فهي تأتِ منسجمة مع العهد الذي قطعه الله لإبراهيم عليه السلام بأن كل شعوب الأرض ستتبارك فيه: "1وَقَالَ الرَّبُّ لأَبْرَامَ: «اذْهَبْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ أَبِيكَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُرِيكَ. 2فَأَجْعَلَكَ أُمَّةً عَظِيمَةً وَأُبَارِكَكَ وَأُعَظِّمَ اسْمَكَ، وَتَكُونَ بَرَكَةً. 3وَأُبَارِكُ مُبَارِكِيكَ، وَلاَعِنَكَ أَلْعَنُهُ. وَتَتَبَارَكُ فِيكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ". (التكوين: 21).
ومن نسل إبراهيم من ابنه إسماعيل عليهما السلام أخبر إشعيا أن الرب سيرسل عبداً ليكون نورا للأمم وليس لـ(لشعب المختار)، وذلك دلالة على عالمية الرسالة "فَقَدْ جَعَلْتُكَ نُورًا لِلأُمَمِ لِتَكُونَ خَلاَصِي إِلَى أَقْصَى الأَرْضِ". (إشعيا: 49/6). فكان محمداً صلَ الله عليه وعلى آله وسلم نبي الأمة البارة الذي أرسله الله رحمة للعالمين إنسهم وجانهم، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ {الأنبياء:107}.
لذلك يمكننا التأكيد بكل ثقة أن "الأُمة البارة" التي بشر بها العهد القديم والجديد هي أُمة محمد صلَ الله عليه وعلى آله وسلم. هذه الأُمة هي التي حققت نبوءات التوراة في جعل مدينة بيت المقدس والمسجد الأقصى رمزاً لشمولية العهد لنوح والوعد لإبراهيم عليهما السلام لجميع شعوب الأرض، ورمزاً للسلام والوحدة العالمية، من خلال جعلها القدس بيت عبادة وصلاة لجميع تلك الشعوب.