المجازر الصهيونية التطبيق العملي لأوامر التوراة (3)
مصطفى إنشاصي
من أبشع المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية وأكثرها وحشية وأشدها نذالة أخلاقية، وتعتبر نموذجاً للتطبيق العملي لمعظم ما سبق ذكره عن أصول الإرهاب التوراتي: مجزرة دير ياسين أشهر المجازر اليهودية، وهي نموذج للخبث والغدر اليهودي وعدم وفاءهم بالعهود، ونموذج لمدي البشاعة والإجرام والإرهاب الصهيوني الذي يتكرر في جميع المجازر التي تُرتكب في حق أهلنا في فلسطين، للانتقام لما كانوا يتكبدونه من قتلى بأعداد كبيرة، نتيجة المقاومة العنيفة التي كانوا يواجهونها في المدن والقرى قبل احتلالها! كما أنها نموذج لرفض الفلسطيني ترك أرضه وبلده ودياره خشية من الموت وحرصاً على حياته وحياة أبناءه، وشاهد على ثبات أباءنا وأجدادنا وأنهم لم يبيعوا أرضهم، ولم يهربوا أمام همجية ووحشية ونذالة اليهودي الجبان! وفي الوقت نفسه نموذج للخذلان العربي الرسمي بأسوأ أشكاله، ذلك الخذلان الذي هو شاهد على تاريخ علاقة الأنظمة بفلسطين وقضية الأمة!

مجزرة دير ياسين في 9 نيسان (أبريل) 1948
دير ياسين قرية عربية تبعد حوالي 6 كم للغرب من مدينة القدس، وكما هو ثابت أنه كان بينها وبين المغتصبات الصهيونية المجاورة اتفاق بعدم الاعتداء على بعضهم، والذي دفع أهل دير ياسين إلى هذا الاتفاق، قلة عدد سكان القرية بالنسبة لعدد سكان المغتصبات اليهودية التي تحيط بها، فقرية دير ياسين لا يتعدى سكانها ثمانمائة نسمة، وهي محاطة بمستعمرات يهودية لا يقل سكانها عن مائة وخمسين ألف نسمة، أضف إلى ذلك عدم وجود سلاح كاف في أيدي سكانها. لذلك وقع اختيار عصابات الغدر اليهودية على هذه القرية ليرتكبوا فيها أبشع مجازرهم ضد المسالمين الآمنين، ليروعوا بقية القرى والمدن الفلسطينية ويضعفوا استعدادها للمقاومة والقتال، خوفا من مصير أبشع من مصير دير ياسين، فإن كان فعل اليهود في القرية المسالمة المهادنة معهم هكذا فكيف سيفعلون بالقرى التي ستقاومهم.
استغل اليهود انشغال المقاتلين وسكان القدس في تودع القائد عبد القادر الحسيني، الذي راح ضحية المؤامرة العربية شهيدا في قلعة القسطل القريبة من دير ياسين، يوم 8/4/1948، للقيام بهجوم مركز على قرية دير ياسين، وكان على دير ياسين – تلك القرية الصغيرة المسالمة- أن تجابه مصيرها بمفردها. ابتدأ الهجوم فجر الجمعة في التاسع من نيسان (أبريل)، وكان الهجوم مركز من ثلاث جهات بالمدفعية والدبابات تساندها طائرة حربية، وربما توقعت العصابات اليهودية أن يستسلم سكان القرية للغدر والوحشية دون قتال، خاصة وأن الشباب المسلحين في القرية كانوا حوالي ثمانين –لا أكثر- وسلاحهم لا يتعدى السلاح الخفيف. ولكن رفضت القرية الاستسلام.
استنجد رجال القرية بجيش الإنقاذ في عين كارم، وللعلم جيش الإنقاذ كان قائده فوزي القاوقجي ضابط قاتل مع الفرنسيين كان عميلاً جاسوساًـ، فضه القادة والأمراء العرب قائداً لثوراتنا الفلسطينية منذ عام 1936، فلم ينجدهم ولم يعطهم حتى العتاد! استنجدوا بالجيش البريطاني وبالبوليس الفلسطيني وبالصليب الأحمر الدولي، فلم ينجدهم أحد! وعلى الرغم من ذلك دافع السكان عن قريتهم دفاع المستميت، وكانت نساء القرية يشجعن المقاتلين على القتال، ويقدمن لهم العون، وقد كادت تحل الهزيمة بالعصابتين اليهوديتين اللتين أسندت إليهما العملية، الأرغون التابعة لمناحيم بيغن، وشتيرن التابعة لإسحاق شامير، لولا أن وصلها النجدات من عصابات الهاغاناه التابعة لدافيد بن غوريون، ولم تتمكن العصابات، الصهيونية من دخول القرية إلا بعد انتهاء ذخيرة المقاتلين القليلة تماما، الذين تمكنوا من قتل حوالي مائة يهودي.
وقد اعترف الإرهابي مناحم بيغن قائد عصابات الأرغون بشجاعة هذه القرية، فقال: أن المهاجمين اضطروا إلى قتال سكانها من شارع إلى شارع ومن بيت إلى بيت، وكانوا يهدمون البيوت التي يحتلونها على رؤوس ساكنيها. وسقطت القرية في الثانية والنصف بعد الظهر من اليوم نفسه، ثم كانت المجزرة الوحشية التي أعلنت الوكالة اليهودية إدانتها لوحشيها وبراءتها منها (إلا أنه ثبت بعد سنوات أن الوكالة اليهودية كانت مسئولة عنها ولم تكن منظمة شتيرن متفردة بالعمل).

همجية توراتهم تظهر في شهادات الناجون
ويروي الناجون من المذبحة شهاداتهم، قائلين: إن عائلات كاملة تم إيقافها بجوار الحائط ثم أطلقت عليها النيران من البنادق، بنات صغيرات تم اغتصابهن، امرأة حامل تم ذبحا أولا ثم بقروا بطنها بسكين جزار، حاولت فتاة صغيرة أخذ الجنين من بطن المقتولة فتم إطلاق النار عليها، بعض أعضاء الأراغون أحالوا الجثث إلى قطع بسكاكينهم، وتم قطع أو جرح أيدي النساء وآذانهن لسرقة أساورهن أو خواتيمهن. وكان العروسان في حفلتهما الأخيرة أول الضحايا، فقد قذفا قذفا وألقي بهما مع ثلاثة وثلاثين من جيرانهم، ثم ألصقوا إلى الحائط وانهال رصاص الرشاشات عليهم وأيديهم مكتوفة.
وتقول حليمة عيد، امرأة شابة في الثلاثين من عمرها، ومن أكبر أسر قرية دير ياسين: رأيت رجلا يطلق رصاصة فتصيب عنق زوجة أخي خالدية، التي كانت موشكة على الوضع، ثم يشق بطنها بسكين لحام. ولما حاولت إحدى النساء إخراج الطفل من بطن أحشاء الحامل الميتة قتلوها أيضا، واسمها عائشة رضوان. وفي منزل آخر، شاهدت الفتاة حنة خليل "16 عاما"، رجلا يستل سكينا كبيرا ويشق بها من الرأس إلى القدم، جسم جارتنا جميلة حبش، ثم يقتل بالطريقة ذاتها، على عتبة المنزل جارنا فتحي.
وتصف صفية وهي امرأة في الأربعين عاما، كيف فوجئت برجل قد فتح سرواله وانقض عليها: روحت أصرخ وأولول ... وحولي نساء يكرهن على مصيري ذاته. وبعد ذلك انتزعوا ثيابنا وجردونا منها ليلامسوا نهودنا وأجسامنا بحركات لا توصف. وقد بلغت عجلة بعضهم في انتزاع الأقراط من آذاننا أن تمزقت وتقطعت. وكانوا يلقون بعض الضحايا في بئر القرية.
ويصف كولونيل احتياط مائير باعيل الضابط في عصابات الأرغون ما رآه بعينيه، فيقول في صحيفة "يديعوت أحرونوت" الصهيونية عددي 4 و20 نسيان أبريل 1972: ... وقامت بذبح جميع السكان المتواجدين في القرية، والبالغ عددهم (254) نسمة. وألقى الصهاينة بالجثث في قبر جماعي بعد أن مثلوا بها. وأبقوا على بعض النساء أحياء وجردونهن من ثيابهن، وطافوا بهن عاريات في شاحنة في شوارع القدس الغربية، وعم الفرح والسرور نفوس اليهود في شوارع القدس الغربية. وبعد ذلك "قتلنا الأسرى لاحقا بدم بارد". وأخذت مكبرات الصوت تنادي العرب بوجوب مغادرة منازلهم والتوجه إلى البلدان العربية المجاورة، وإلا فإن المصير الذي ينتظرهم سيكون كمصير أهالي دير ياسين. ويعترف: (بدأ رجال "إتسل" مذبحة مخجلة بين السكان، الرجال والشيوخ والأطفال دون تمييز، أوقفوهم بجانب الجدران وفي الزوايا داخل المنازل ... لقد كانت دير ياسين مذبحة، كانوا ينتقلون من بيت إلى بيت وهم يذبحون ويقتلون). وقال أنه يملك صور ولكنه لم يتم الكشف عنها في أرشيف الحكومة إلا بعد وفاته.
وفي بيان نشره عام 1982 في صحيفة "يديعوت أحرونوت" الصهيونية زفي أنكوري، آمر وحدة الهاغاناه التي احتلت دير ياسين بعد المجزرة، قال: (دخلت من ست إلى سبع بيوت. رأيت أعضاء تناسلية مقطوعة وأمعاء نساء مسحوقة. طبقا للإشارات على الأجسام، لقد كان هذا قتلا مباشرا).
أما عن الرحيل الذي سببته المجزرة وعن النتائج السياسية والاقتصادية التي جلبتها لكيان العدو الصهيوني، فيقول: (أصيب العرب بعد أخبار دير ياسين بهلع قوي لا حدود له، فأخذوا بالفرار للنجاة بأرواحهم. وسرعان ما تحول هذا الهرب الجماعي إلى اندفاع هائج جنوني لا يمكن كبحه، أو السيطرة عليه، فمن أصل 800.000 كانوا يعيشون على "أرض إسرائيل" الحالية لم يتبق سوى 165.000 فقط. إن الأهمية الاقتصادية والسياسية لهذا التطور لا يمكن المبالغة فيها مهما قيل).
إن مذبحة دير ياسين لم تكن المذبحة الوحيدة التي ارتكبتها القوات اليهودية المسلحة تجاه العرب. ولم تكن حدثا استثنائيا قام به مجموعة من المتطرفين أو المجانين وإنما أصبح جزءً أساسيا من العقيدة والأسلوب الرسمي لإسرائيل في التعامل مع العرب لترحيلهم ومصادرة أملاكهم وأراضيهم لإقامة إسرائيل الكبرى وفرض الهيمنة الصهيونية على الوطن العربي. فالصهيونية تستهدف الأرض العربية، من دون سكانها الأصليين، لذلك لجأت إلى العنف والإرهاب والعنصرية والمجازر الجماعية والحروب العدوانية.
وذكر الكاتب اليهودي المعروف هاري ليفين هذه المجزرة في كتابه "القدس في المعركة" ووصفها بأنها عمل فظيع ضد قرية لم تقترف إثما، فقد كانت إلى ذلك الحين مسالمة.. كما أن قائد الهاجاناه دافيد بن غوريون وصف الحادث بأنها مجزرة في غاية التهتك والفظاعة. أما دوف جوزيف وزير "عدل" صهيوني سابق، فقد صرح أن المجزرة كانت: "متعمدة وهجوم غير مبرر".
وقد فاخر الإرهابي مناحم بيغن بالمجزرة، معتبرا أنه لولاها ما قام كيانا للعدو الصهيوني، بقوله: (المذبحة ليست مبررة فقط، لكن لم يكن من الممكن أن توجد دولة إسرائيل بدون النصر في دير ياسين).
ويشير إيغال ألون وآرثر كوستلر إلى هذه الحقائق، يقول إيغال ألون: (إن العملية قامت على خطة – ويقصد بذلك مجزرة دير ياسين – قوامها إلقاء الرعب في قلوب الجماهير العربية في الخليل فأخذ العرب بالهرب بالآلاف، كان ذلك قبل خمس أيام من إعلان الدولة اليهودية). ويقول آرثر كوستلر: (كان حمام الدم في دير ياسين عاملاً نفسياً حاسماً في نزوح الجماهير العربية من فلسطين).
ويقول الكاتب الصهيوني ميخائيل: (إن مذبحة دير ياسين كانت مقصودة ومدبرة لإرهاب العرب وحملهم على ترك قراهم). ويقول المؤرخ اليهودي أرييه يتسحافي وهو باحث في الجيش الصهيوني: (إذا أجملنا الحقائق ندرك أن مجزرة دير ياسين كانت إلى حد بعيد طابعا مألوفا لاحتلال قرية عربية، ونسف أكبر عدد من المنازل فيها، وقد قتل في هذه العمليات الكثير من النساء والأطفال والشيوخ).