عز الدين القسام: أنت باقٍ فينا نهجاً جهادياً وفكراً وممارسة
مصطفى إنشاصي
إلى عشاق الشيخ عز الدين القسام وتجربته، إلى الذين مازالوا على نهجه، إلى الذين يسمعون به ولا يعرفون حقيقة تجربته، إلى كل عشاق الجهاد والاستشهاد على نهجه ومازالوا لم يبدلوا، أكتب إلى ملهمنا ومعلمنا كلمات:
هي كلمات لك أيها الشيخ الفارس الذي ترجل منذ سبعة وثمانون عاماً وفياً للنهج الجهادي فكراً وممارسة ولم يُبدل؛ إنك ما زلت حياً فينا، وملهماً لنا، وما زلنا على النهج والفكر والممارسة ولم نبدل. هي كلمات لك أيها الشيخ الفارس الذي ألهمته التجربة التي شكلت وعيه وفكره، فاخطط لنفسه نهجاً جهادياً متميزاً ومتمايزاً عن غيره، صَدَّقت أصالته العقائدية والدينية الممارسة، وأثبتت صحته ونجاعته التجارب الفاشلة التي جاءت بعده ولم تأخذ به: (إنه جهاد: نصر أو استشهاد)، أي أن عدو الأمة اليهودي-الصليبي لا تنفع معه السياسة ولا المفاوضات، وأن المقاومة يجب أن تبتعد عن الأنظمة العربية ولا تعرف طريقاً لها، ولا تُعلق عليها أمل، ويجب أن تزهد في الدنيا وإغراءاتها، فما بالنا ومقاومينا اليوم لم يقف تعلقهم عند الأنظمة العربية فقط بل وتعلقوا بالصديقة أمريكا كما تعلق أسلافهم بالصديقة بريطانيا؟!
تأتي ذكرى استشهادك يا مولاي وأستاذي ومعلمي في زمن الانحطاط، زمن التخاذل والاستسلام، زمن التراجع والانهزام، زمن تكرار التجارب الفاشلة، في ظل شعارك: (إنه جهاد: نصر أو استشهاد)، بعد أن أُفرغ من مضمونه وجوهره وغدى لا حياة ولا صِدق فيه، بعد أن اتجهنا إلى مَنْ علمتك الدروس التي تعلمتها من تجارب مَنْ سبقك ودروس تجربتك ألا نتوجه إليهم، ولا نثق بهم (الأنظمة العربية)، فغدوا اليوم هم قبلتنا وأملنا!
تأتي ذكرى استشهادك في تشرين ثاني من كل عام لتجتمع الذكرى إلى مجموع ذكريات نكبات الأمة في هذا الشهر على طول تاريخها الحديث والمعاصر، يأتي تشرين ثاني من كل عام، ليذكرنا:
في بدايته بوعد بلفور عام 1917، وفي نهايته بقرار التقسيم عام 1947، وما بين الوعد المشئوم وقرار التقسيم كثير من الذكريات المؤلمة، بدء بذكرى استشهادك (20/11/1935)، التي على قدر ما فيها من الألم على قدر ما فيها من الرجاء، فأمثالك من الأوفياء للعقيدة والوطن، للفكر والمنهج، ذكراهم تبعث الرجاء ببزوغ فجر الأمة، فهم القدوة والنبراس الذي يهديها مهما أظلمت مراحل جهادها ونضالها ..
ما بين الوعد المشئوم وقرار التقسيم ذكريات كثيرة: ذكرى قرار مجلس الأمن رقم (242/1967) الذي حرمنا الحق في تقرير المصير والحق بدولة في وطننا مثل أي شعب، وجعل منا مجرد لاجئين نحتاج إلى بعض المساعدات الإنسانية، وذكرى القمة العربية السادسة في الجزائر التي جاءت بعد الانتصار العظيم في حرب رمضان/ أكتوبر 1973، لتأخذ الخطوة الأوسع نحو الانهزام شبه النهائي، وذلك من منطلق القوة، والأمة في غمرة نشوتها بالانتصار، حيث قررت فك الارتباط العربي بقضيته المركزية فلسطين، واعتبار منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني. وذكرى قرار مجلس الأمن رقم (338) بنفس العام، الذي أكد على ضرورة تنفيذ ما جاء في القرار (242)!
ما بين الوعد المشئوم وقرار التقسيم ذكرى القمة العربية الحادية عشرة في عمان 1980 التي قرر فيها زعماء الأمة: قطع جميع العلاقات مع أية دولة تعترف بالقدس عاصمة لـ(إسرائيل) أو تنقل سفارتها إليها. وها هم في تشرين ثاني هذا العام 2008 يعترفون ويُطبعون بالإجماع وبشكل غير مباشر، بـ(إسرائيل)، فيما يزعمون أنه (حوار أديان) في مقر الأمم المتحدة بنيويورك بتمويل وإشراف سعودي، بعد أن مضى على اعترافهم وتطبيعهم غير المباشر، من تحت الطاولة، عقود. وقد سبق أن فعلوا مثل ذلك في تشرين ثاني 2007 في أنابوليس حيث لم يكن وعد بوش التوراتي هو الأول بقيام الدولة الفلسطينية نهاية عام 2008، وها هو عام 2008 يشارف على الانتهاء؛ ليس فقط ونحن نفقد الأمل في تحقق وعد بوش التوراتي الكاذب في إقامة دولتنا العتيدة، ولا في ضياع أرضها وتراجع حدودها باغتصاب العدو التوراتي لها! ولكن وقادتنا يكرسون الانقسام تحت حراب الاحتلال، وأهلنا يفقدون الأمل في عودة الوحدة لشطري الوطن المحتل، وعودة اللحمة لأبناء الوطن الواحد، تأتي ونحن منشغلون بالصراع على ما زَهُدت فيه (الكرسي والمنصب) وقدس الأمة ومسرى نبيها وأول قبلتها و... تضيع من بين أيدينا وأمام أعيننا! ونحن لن يرحم التاريخ منا لا المشارك في ضياعها ولا الصامت والعاجز عن فعل شيء لوقف نزيفنا الداخلي من أجل اللحاق بما تبقى منها!
ما بين الوعد المشئوم وقرار التقسيم ذكرى القمة العربية الثانية عشرة في (فاس) 1982، التي كشفت حجم الوهن العربي عندما رفض المجتمعون اعتماد "مشروع الرئيس بورقيبة" الذي "استند إلى القرار رقم 181/1947 بشأن تقسيم فلسطين، واعتبره "يمثل النص القانوني الدولي الوحيد الذي يعترف بالدولة الفلسطينية كدولة ذات سيادة كاملة وبمحتوى ترابي محدد. واعتمدوا مضمون قرار (242)؟!
ما بين الوعد المشئوم وقرار التقسيم ذكرى وثيقة إعلان الاستقلال وإعلان الدولة الفلسطينية في المنفى في دورة المجلس الوطني التاسعة عشرة المنعقدة في الجزائر 1988، تلك الدولة التي تأتي ذكرى إعلانها وقد مزقت شطريها أيدينا في الصراعات على الكراسي والمناصب إلى ...
ما بين الوعد المشئوم وقرار التقسيم ذكريات كثيرة قد لا يكون آخرها ذكرى قتل الرئيس الراحل ياسر عرفات بالسُم 2004 ولم يُعرف قاتله حتى الآن، لأنه رفض مثلك المساومة على مبدأ هو آمن به وجعله هدفاً له بغض النظر عن اختلافنا معه فيه أو في تقييم مسيرته وممارسته النضالية، ولكنه ضحى بحياته من أجل الحد الأدنى الذي آمن به من الحقوق الوطنية الفلسطينية، في وقت كثير مِمنْ يرفعون شعارك الذي أحييت به نفوسنا وقلوبنا ووعينا (إنه جهادك: نصر أو استشهاد)؛ للأسف باعوا الدين والقضية والجنسية وغلوا مئات الملايين بل مليارات واشتروا جنسيات أخرى وتحولوا إلى رجال أعمال واستثمار وسماسرة، ولم تتوقف رسائلهم السرية والعلانية إلى هذا وذاك تؤكد أنهم يقبلون بأقل مما عُرض على الراحل عرفات ورفض القبول به، وفضل الاستشهاد على أن يجلس ملكاً أو رئيساً على كرسي العار والهزيمة والاستسلام! ..
ومما يؤسف له في الصراعات الفلسطينية-الفلسطينية بعد أن تم تمزيق الوطن المحتل إلى دول سيادية تحت الاحتلال بين هذا وذاك؟، وما لا أتستطيع تفهمه لا أنا ولا غيري من أبناء الوطن مِمَنْ ربيتهم يا مولاي وأستاذي ومعلمي على تقديم وحدة الوطن على أي شيء، وعصمة دم المسلم مهما بلغ منه الأمر، وذلك أتعلمه من آخر أمر أصدرته لإخوانك قبل استشهادك عندما بدأ هجوم المحتل الإنجليزي عليكم، ووضعوا في مقدمة الهجوم عناصر الشرطة الفلسطينيين، فأمرت إخوانك: ألا يطلقوا النار على الشرطة العرب، ولكن على الإنجليز فقط! أصبحنا نقتل بعضنا بعضا بلا رحمة، ونمارس القمع والتعذيب و... أشد من الأنظمة الدكتاتورية ...!
مولاي ومعلمي وأستاذي: أيها القسام، أنا مازلت لم أبدأ في الحديث عنك! وما كتبته أعلاه لم يكن حاضراً في ذهني كتابته وأنا أمسكت قلمي لأكتب عنك، عنك أنت وحدك، ولكن يبدو أنه يصعب بل يستحيل أن يكتب أحد مِمَنْ عشق تجربتك وتمثلها وعياً ومنهجاً، فكراً وممارسة، قولاً وعملاً، وتغنى باسمك ورقص قلبه طرباً به، وكنت فخراً له أن ينتمي إلى مدرستك، وأن يقول عن نفسه بكل اعتزاز وفخر وشرفً: أنا قسامي، صعب أن يكتب عنك وحدك دون أن تبعث ذكراك وتجربتك فيه كل آلام وذكريات الوطن، وأنت مدرسة في حب الوطن والوطنية والتضحية في سبيله، وأنت الذي كنت مثالاً حياً ومازلت بعد استشهادك في صِدق الانتماء للأمة والوطن، والإحساس والشعور بالواجب تجاههما في أي مكان، وصفاء السريرة والفكر والوعي، والالتزام بكل ما آمنت به وتطبيقه وممارسته منهجاً وواقعاً، في تبني قضايا الأمة كلها والدفاع عن أجزاء الوطن في كل مكان، ولا أقصد هنا بالوطن، الموطن ومسقط الرأس، ولكن الوطن الإسلامي الكبير من المحيط إلى المحيط ..
ونحن ضاقت صدورنا على أن نقبل بأبناء الموطن الصغير ومسقط رؤوسنا، أي حدود سايكس-بيكو التي تجاوزتها في مسيرتك الحياتية والجهادية بصورة لا مثيل لها، أرأيت إلى أين وصل بنا الحال بعدك؟!
مولاي وأُستاذي إن الحديث عنك يطول، وأنا لم أبدأ بعد، فاسمح لي أن أُعيد الكتابة عنك ثانية!