( خارج المكان )



مذكرات المفكر العالمي : البروفيسور الفلسطيني الأصل إدوارد سعيد


صدر الكتاب عن دار الآداب – بيروت – 2000م ( الطبعة الأولى )
وهو كتاب من القطع المتوسط يقع في ( أحد عشر فصلاً )
المذكرات عندي ( فعل استذكار) وهي إلى جانب ذلك ( فعل نسيان )
هذا ما قاله البروفيسور في مذكراته
أو هي عملية استبدال اللغة القديمة باللغة الجديدة
مذكرات .. يعني ما مضى من أحداث ..
ومن أجمل المذكرات تلك التي نكون فيها صادقين مع أنفسنا
والأجمل منها تلك التي ترتبط بمكان ما .. حيث يكون للمكان تأثير على الانسان ومسير حياته وحتى على نمط تفكيره وسلوكياته .
مذكرات إدوارد سعيد تزامنت مع مرضه بالسرطان الذي دام خمس سنوات متتالية وهي نفس الفترة التي استغرقها في كتابة المذكرات
هذا المرض الذي عانى منه أشد معاناة وكان أكثر ما كان يعانيه من هذا المرض هو عدم القدرة على النوم .. فقد كان يعارك الأرق ويقارع الألم ويلاحق النوم ولا يستطيعه !!
فلم تكن مذكراته تعني ما مضى فحسب بل كانت تعني ما مضى مرتبطاً بآثاره التي تدور في تلك اللحظات التي رصد فيها هذه المذكرات
ولعل هذا أهم ما يميز خارج المكان
خارج المكان طريق حياة بقلم إدوارد وجاءت مترجمة بقلم الكاتب فؤاد طرابلسي ..
حتى أن الترجمة كانت موفقة جداً وكأن مترجم كلماتها ترجمها بإحساس
قبل أن يترجمها بموضوعية ..
وهذا سر آخر من أسرار نجاح ( خارج المكان )
أما العنوان ..
فللوهلة الأولى يعطي انطباعاً بأن صاحب المذكرات شخص مظلوم عاطفياً حتى بدا خارج المكان ..
ويبدو هذا التنبؤ وارداً من خلال النهايات لقصصه العاطفية المحدودة...
ويمكن لأن المكان كان سيد الموقف في كثير من تفاصيل المذكرات
ويمكن أن يكون التنقل البغيض من مكان إلى آخر وعدم الاستقرار في مكان محدد نظراً لأنه الفلسطيني ( إدوارد ) مسلوب الأرض .. مضاع الهوية .. فقد تنقل من فلسطين إلى مصر إلى أوروبا وأمريكا .. فكان ذا صوت مسموع في كل مكان من خلال المحاضرات التي كان يلقيها ومئات الألاف سامعين منصتين له .. فقد كان رسول الإنسانية حتى تجاوزت إنسانيته حدود الزمان وحدود المكان ..

كل هذا هو الذي جعل اسم هذه المذكرات ( خارج المكان )
أو ربما ومن وجهة نظر خاصة .. يبدو أن مذكرات المفكرين تختلف عن مذكرات الناس العاديين .. حيث بدأها بالحديث عن الطفولة وهذا شيء اعتيادي في المذكرات أن نبدأ منذ الطفولة
ولكن كانت المذكرات كالحلقة حيث أنهاها بالطفولة أيضاً .. فالقارئ للسطور كأنه يدور في فلك دائر ينتهي من حيث بدأ
وكأنه يقول للقاريء :
هذا أنا البروفيسور العظيم والمفكر الكبير أعود إلى نطقة البدء ولا بد من النهاية ومهما كان النجاح والتفوق لا بد أن ينتهي المرء إلى الموت ..
ومع ذلك ولأن تزامن كتابتها كان في فترة المرض كانت تحدياً للجسد المنهك وللمرض البغيض الذي أرهق الجسد وأتعب البدن .. فضاع النوم وغاب الهدوء النفسي وانقشع العطاء
وبدأ الجسم بالترهل .. وتقاطيع الوجه باتت تنذر بالضعف وكأنها تقول للناظر لوجهه : اقتربت النهاية .

( خارج المكان ) ..
بدأه إدوارد بالطفولة مستعرضاً خلالها حياته بالمدرسة والحي وعلاقته بالمحيطين المقربين من أب وأم وأقارب ..
وربما بالغ في الحديث عن أمه وعاداتها
ثم تحدث في الفصل الثاني عن ولادته حيث ولد في القدس المحتلة والتي كانت عام ألف وتسعمئة واثنين وثلاثين وتمت على يد قابلة من أصل يهودي .. ونظراً لأن سقوط رأسه كان في القدس في فلسطين فإن هذا ترك الأثر الكبير في نفسه وجعل لفلسطين حضوراً متميزاً في ذاكرته
وتمضي به الحياة سراعاً حتى وصل بذكرياته إلى حي الزمالك بالقاهرة
والتي قضى فيها معظم فترة المراهقة
وخلال فترة الحرب كان يتنقل ما بين القدس والقاهرة تلك الفترة مزعجة
بالنسبة له لأنه سادها الحرب والتنقل وعدم الاستقرار بذات الوقت .
ثم تأتي مرحلة الاعدادية التي تتزامن مع تغيرات في جسمه الذي بدت عليه علامات الرجولة .. ويوضح في الفصل الرابع تأثير والدته السافر في حياة العائلة وطبعاً بحنانها كانت تفرض ما تريده
لم يكن التدخل من جانب الوالدة فحسب بل يتذكر كم كان والداه يتدخلان في حياته وبكل ما فيها .. رغم أنه كان المراهق المدلل
ومن مدرسة الجزيرة إلى مدرسة أمريكية .. والذي كان يفتخر بها إذ أن والده رجل الأعمال الأمريكي .. وفي هذا الفصل تحدث عن هواياته المتعددة من رياضة وكتابة وو
وعشية وعد بلفور المشؤوم .. كان لا بد من العودة إلى القدس وفيها سجل في إحدى مدارسها .. ثم السفر إلى أمريكا بحراً وفيها تحدث عن الجولات السياحية الممتعة في نيويورك
وفي الفصل التالي يتعرض والده لانهيار عصبي فاضطروا للذهاب إلى لبنان لقضاء فترة الصيف هناك
في الفترات الماضية وحتى عام ألف وتسعمئة وواحد وتسعين تلك السنة التي اكتشف فيها المرض الذي أصابه .. كان لم يكن يفكر بزيارة الشرق بعدما غادر القاهرة عام واحد وخمسين ..
ولكن عندما وجد أنه مريض بالسرطان هذا المرض الخطير الذي لا ينجو منه أحد أدرك أهمية زيارته للشرق حيث مسقط رأسه وطفولته وشبابه
وفي عام ألف وتسعمئة وأربعة وتسعين بدأ عملياً بكتابة مذكراته هذه
أما عن علاقته بالمرأة .. فلم يتعرض لها بمذكراته كثيراً غير أن أمه هي أكثر النساء تأثيراً على حياته ..
وأخرى هي ( إيفا ) عربية الأصل التي كانت أكبر منه بسبع سنوات ولما عرض أن يتزوجها عارضت والدته على ذلك الزواج .. ولم تكن علاقته بإيفا علاقة قوية أصلاً .. وبعد حب دام خمس سنوات عاد إلى محور العائلة من جديد من غير إيفا ..
وبعد فشل علاقته بإيفا
في أمريكا لم يرتبط بعلاقة وثيقة بأي أمريكية تلك المرأة المراوغة والمتلونة وفي نهاية لقاءات عديدة بعدة نساء أمريكيات ارتبط بإحداهن برباط هش ولم يطل هذا الارتباط حتى انفصلا وعاد إلى صديقته
( برين ) فعاشت معه مدة ثلاثة عشر عاماً قصة حب وعشق وتواد
لكنها بعد طول هذه المدة تركته وراحت عنه إلى رجل آخر ...
وأخيراً
عاد للطفولة من حيث بدأ
وهكذا كانت
المذكرات عنده ( فعل استذ كار) وهي إلى جانب ذلك ( فعل نسيان كما كان يقول ..
وفي مرحلة من مراحل عمره

اكتشف انه كائن غير ناضج ومتردد ومتخبط ومتعدد الشخصيات، فهو العربي وعازف الموسيقى والمثقف الشاب والهامشي المتوحد والطالب المجتهد والمشاغب سياسياً
أشكركم ..

تحية ... ناريمان الشريف