الجيتـو
حينما يكون العزل اختياريا!
فينيسيا من : سامى القمحاوى
تعتبر حارة اليهود أشهر الأشكال الانعزالية اليهودية في العالم, حتي أن لفظ الجيتو الذي هو عبارة عن حي أو عدد من الشوارع المخصصة لاقامة اليهود ـ أصبح يطلق علي سبيل التعميم عل كل شكل من أشكال الحياة اليهودية الانعزالية وسط الشعوب التي عاشوا بينها.
وقد كان الجيتو الأول في مدينة فينيسيا البندقية, تلك المدينة العائمة الجميلة التي تتكون من118 جزيزة و177 قناة و400 جسر وتقع في الشمال الشرقي لايطاليا علي خليج فينيسيا في نهاية شمال بحر الادرياتيك, وتعتبر مدينة تجارية وميناء مهما جذب اليهود الباحثين دوما عن المال إلي التجمع والعيش فيه, ونتيجة لجشعهم واستغلالهم وصراعهم مع البرجوازية الأوروبية تعرض اليهود المنتشرون في المدينة للاستفزازات, وهو ما جعلهم يطلبون عام1516 التجمع في حي خاص محاط بسور وبوابات وجسور تطوي خلال الليل, وقد عاش في ذلك المكان مائة يهودي كونوا أول حارة لليهود في العالم, وبعد خمس وعشرين سنة أضيفت إليها منطقة أخري تجمع فيها بصفة خاصة اليهود القادمون من الشرق, ومنذ ذلك الحين أطلق علي هذين الحيين المغلقين اسما موحدا هو الجيتو.
وقد ظلت هذه العزلة الاختيارية من قبل اليهود قائمة إلي أن اصدر البابا بولس الرابع نشرة بابوية في عام1555 توصي لأول مرة بعزل اليهود اجباريا, وفي التاسع من اغسطس وهو تاريخ له دلالة خاصة عند اليهود اذ يحتفلون فيه بذكري خراب الهيكل ويمارسون طقوس النواح والبكاء ـ اضطر يهود روما لنقل محل اقامتهم إلي الحي الجديد علي الضفة الشمالية من نهر التيبر, الذي أحيط علي الفور بسور لعزله عن المدينة, وبعد فترة قصيرة تم اتباع هذا الاستحداث في سائر المدن الواقعة تحت سلطة البابوية, واعتبارا من عام1562 أطلق علي هذه المؤسسة الجديدة بشكل رسمي الاسم نفسه الذي أطلق علي حي اليهود في فينيسيا الجيتو, ولم يكن معني هذا العزل الاجباري ان اليهود كانوا يندمجون مع الشعوب التي يعيشون بينها, بل العكس هو الصحيح فالعزلة اليهودية كانت قائمة علي مر العصور لأسباب دينية وطقسية, حيث تقول دائرة المعارف العبرية ان واقع وطابع حياة اليهود دفعا بهم دائما إلي التجمع والاقامة معا في شارع واحد أو في حي واحد لاسباب عدة منها: المحافظة علي الشرائع الدينية العدد الشرعي للصلاة المنيان والمقابر والمطهر بركة التطهير.
ولا أحد يعرف علي وجه الدقة مصدر اطلاق اسم الجيتو علي حارة اليهود, لكن المرجح هو أن مصدر تلك التسمية مصنع لصهر المعادن كان يقع بالقرب من المكان الذي يعيش فيه اليهود في فينيسيا وكان السكان المحليون يطلقون عليه جيتو أو جتو وحينما تجمع اليهود بالقرب منه أطلق السكان علي حيهم الأسم نفسه, وان كان الدكتور عبدالوهاب المسيري في موسوعته اليهود واليهودية والصهيونية يضيف إلي ذلك أن كلمة جيتو ربما كانت مشتقة من الكلمة الالمانية جهكتر أورت التي تعني المكان المحاط بالاسوار, أو هي من الكلمة العبرية جت بمعني الانفصال أو الطلاق حسب التلمود, وأخيرا ربما اشتقت من الكلمة الايطالية بورجيتو بمعني القسم الصغير من المدينة, وعلي أية حال فانه حسما لهذه الشكوك اصطلح علي أن التسمية تستخدم لا لتعبر عن الجيتوهات الاجبارية فقط, وانما لتعبر عن المجتمع الانعزالي الاختياري لليهود وقد تمتع اليهود في ذلك الجيتو بنوع من الاستقلال الذاتي حيث تركت الحكومات شئون ادارته للحاخامات.