محمد الحفري مادتي الجديدة في جريدة تشرين صباح هذا اليوم
الانتهازي في بعض النصوص المسرحية السورية


لو قمنا بجولة سريعة على بعض العروض والنصوص المنتجة حديثاً أو في السابق لوجدنا شخصية الانتهازي موجودة في أغلبها، ولمَ لا، فهو ابن المجتمع والبيئة التي يعيش فيها، وهو في النهاية منا، وهو متلون وقادر على التخفي، نراه بالعين المجردة، ثم نسمع عنه، وقد يغدو مع الوقت أسطورة المنجزات والنجاحات المتتالية ومفتاحاً للمستحيلات التي تستعصي على الحل، ولعل تلك الحالة من أهم الأسباب لتفشي الفساد والمحسوبية في المجتمع.
وفي المجال الفني مثلاً، نجد ذلك المستغل في شريط «مصطفى صمودي» حيث يبرز كجزء أساس إلى جانب الشر في مواجهة الخير مرتدياً طبائع اللؤم والخداع ليلوث بها البساطة والصفاء، وربما الحياة برمتها، إذ يحترق الفنان في معرض الشموع وهو ينتظر أن يسمح مدير الصالة بقص الشريط والسماح للجمهور بالدخول، وفي «الحجر لا يؤكل» لـ«فيصل خليل» يقتل الانتهازيُّ الفنانَ، ويستولي على منحوتته، وكان قد استغله لخدمته من قبل، وهذا لا يبتعد كثيراً عن مسرحية «إثنان» لخليل الرز الذي تحاول فيها شخصية الكاتب التفوق على الشخصية المكتوبة والتحكم بها واستغلالها حتى أبعد الحدود، لم لا والانتهازي أصلاً هو راكب الموجة وصائد الفرص يتعامل مع من يدفع أكثر، وقد يحرق المنزل من أجل بيضته، كما المثل العامي. 
وعلى الصعيد العلمي نجد الجنرال في «وردة تليق بالجنرال» لـ«حمدي الموصللي» يريد أن يقتل باختراعه العلمي أكبر عدد من البشر في سبيل مصلحته أو في سبيل وصوله إلى ما يريد، وفي هذا السياق يأتي نص «انتحار غير معلن» للمؤلف ذاته، حيث تترصد فيه الأيدي الغادرة من خارج البلاد لكل عالم مبدع وعبقري. وعلى الصعيد السياسي تندرج نصوص أخرى كـ«آخر العمالقة، والجرذان، والفرواتي مات مرتين»، جال فيها كتاب المسرح في سورية طولاً وعرضاً، ورسموا نماذج لا تحصى عن الفساد السياسي والشخصيات التي انتهزت المنصب لتحوله للكسب وتكديس المال، ورداً على كل من تشدّق بحرية الرأي والتعبير نقول بأن «كاسك يا وطن» و«غربة» وغيرهما لمحمد الماغوط هي سورية بامتياز فكراً ونصاً وعرضاً، وهي كذلك حتى النفس الأخير، ولا نبالغ إذ قلنا بأن أغلب ما كتبه سعد الله ونوس، كان سياسياً بحتاً أو يكاد، وقد عرض على أغلب مسارح سورية والوطن العربي فيما بعد، وربما هذا خط سار عليه ممدوح عدوان في الكثير من نصوصه ومنها حكي السرايا والقناع والكلاب التي تتألف من عدد من المسرحيات التي لا نكاد نفرق فيها بين المعدمين والفقراء. والمسرح جزء من الحرية، أو منه ينفتح باب من أبوابها، والتي كما يراها صاحب مسرحية «الثمن الفادح» اختيار عن تدبر وروية، وهي تصميم وعزم يدفع إليه مسوغ عقلي أو باعث عاطفي أو الاثنان معاً، وهنا لابد من ذكر «فرحان بلبل» الذي حاول جاهداً ألا تمتد نصوصه إلى هذا المجال، ولكنها امتدت في (الجدران القرمزية وعريس وعروس ويا حاضر يا زمان ولا ترهب حد السيف)، مؤكدة مقولة الطيب الصديقي بأن كل حركة مسرحية هي حركة سياسية، وذلك ربما يكون متوافقاً إلى حد ما مع فكرة نجيب محفوظ بأن ليس هناك حدثاً فنياً وحدثاً سياسياً بل حدث سياسي بقالب فني، ولعل شخصية «قشقو» في «مدينة من قش» لعبد الفتاح قلعه جي هي الأبرز للسياسي المستغل، فهو الوزير والقاضي والمستشار الذي يقلب الحق باطلاً، ويحاول أن يبتلع في كرشه الكبير مدينة بأكملها بالرغم من محاولة «جحا» أن يكون معادلاً له على صعيد الفعل لفضحه وتعرية تصرفاته، ولعل «فانتازيا الجنون» لا تقل أهمية في طرحها حيث تستدعي الكثير من الشخصيات التاريخية بقالب يناسب عصرنا الراهن ومنها شخصية «أنطونيو» ذلك المستغل والمغرور في الآن ذاته والذي يظن بأنه يستطيع أن يطلق النار على كل من يعارضه، ويقف في طريق هيمنته وبطشه، وهو كما يقول حرفياً: يستطيع أن يدمر أي مدينة في هذا الكون «طوكيو، روما، بغداد» وغيرها، وهذا ما فعله «لؤي عيادة» في «الأرض مرة أخرى» والطريقة المنهجية في تعليم الوصولية وسر المغارة أو علي بابا والأربعين حرامي، ولم يبتعد عنه كثيراً نص «بين القلعة والسور» لعلي سلطان.
وقد جاءت نصوص كثيرة حاولت استعادة التاريخ أو محاكاته لتعيد أنتاجه من جديد منها «الصولجان» «والسلطان يا مولاي» لمحمود جميل حميدان، و«السؤال الأول يحاصر جلجامش» لمؤلفه أنور بيجو و«مأساة روما» لعباس منعثر، وهنا نستثني النصوص التي حاولت أن تأخذ حرفية التاريخ. وفي النص الشعري المسرحي، وبالرغم من شفافية الشعر، نلاحظ ذلك المستغل عند خالد محي البرادعي في الزهرة والسيف، وغيرها من نصوصه، وفي «تحولات عازف الناي» لعلي عقلة عرسان الذي بذل جهوداً كبيرة عن طريق نثره الجميل، والنصوص السورية خاصة استفادت من الموروث الديني والثقافي والاجتماعي ولحظ العادات والتقاليد، ولا نبالغ إذ قلنا استفادت من كل شيء، وقد يتحول الانتهازي إلى عامل نفسي أو يصبح ذلك الوقت المقيت والممل الذي يقتلنا انتظاراً وترقباً، وهذا ما فعله «سمير المطرود» في «آدم وحواء»، وإسماعيل خلف في «سوناتا الانتظار».
وعلى صعيد الحكاية تأتي مسرحية «مالكو يخترق تدمر» لأحمد يوسف داود لتكون مثالاً على أبشع استغلال يتعرض له بطل المسرحية الذي دخل متسللاً المدينة باحثاً عن زوجته، وهذا بالضبط ما فعله محمد أبو معتوق في (المهلهل وبعد الليلة الأخيرة والواوي) وكذلك سهير يوسف ديوب في «مطهى الألوان»، ونصر يوسف في مشاهد من (محاكمة الشيطان ونداء الغابات)، والعارفون في المسرح يدركون معنى أن نقول بأن مسرحية فلان هي حكاية، وفي هذا السياق نذكر كلمات المسرحي فرحان بلبل عندما سئل عن الفرق بين مسرح هذه الأيام ومسرح الذين سبقوه، فقال: «لقد تفوقتم علينا بالتقنيات وتفوقنا عليكم في الحكاية»… وهذه الحكاية السورية تتجذر في أصل الحضارة التي تمتد إلى مهد الإنسان ليكتب السوري عن الإنسان وهمومه ومتاعبه وحتى هواجسه في كل مكان من هذا العالم، يتجلى ذلك في «أوروبة» أميرة صور، والخفاش ونورا، والأميرة والناسك وغيرها لوليد فاضل، وكأس سقراط الأخير لموفق مسعود و«حكاية المولود الجديد» لجوان جان ففي الأخيرة يستغل الأب ابنته بداية، لنكتشف استغلال التاجر، ومن بعده بائع اللحمة والصحفي والمذيع، من ثم سلسلة لا تنتهي تعرض الظلم الذي يقع على كثير من البشر، بدءاً من قرية صغيرة إلى أكبر مدينة في عالمنا المضطرب والقائم على تحكم قوى كبرى بمصائر الناس، وما جنون البقر في النص سوى جنون أصاب عقول بشر هذا الزمان رافضين السلم والتعايش والاستقرار، خاصة في مجتمعات صغيرة وهشة لا تعرف كيف تدافع عن نفسها وعقليتها سهلة الاختراق من قوى تعرف خيوط اللعبة جيداً، وتعرف كيف ومتى تحركها. وفي النصوص المشهدية التي تألقت وأصبحت تستهوي بعض من يشتغلون في المسرح، خاصة الشباب، فهي تعتمد التكثيف وتتيح الفرصة للكثير من الطروحات، وقد تبرز عمل الممثل بشكل أكثر حسب رأيهم، صحيح بأنها ترتبط بخيوط قد تكون غامضة وليست سهلة الفهم، لكنها في النهاية تقدم ما يقدمه المسرح والذروة والحل قد تأتي في كل مشهد على حدة، ونذكر هنا بعض الأمثلة منها الطوق وسجن الرؤوس لمحمود الورواري، وكركوز وست الحسن لمحمد جهاد الكاتب، والمستشار الأعظم لعبد الكريم ناصيف، وحريق اللون وحريق الروح لمحمد قارصلي، وفي هذه الأخيرة تأتي المشاهد على شكل ذكريات على طريقة الرواية، وتبدو مشتتة في ترتيبها، وقد يحسبها بعضهم لعدة أشخاص بينما هي لشخص واحد، تطرح معاناته وما وقع عليه من جور من وجهات نظر مختلفة.
ومن خلال متابعة المسرح في سورية، نصاً وعرضاً، نلاحظ بأنه كان مميزاً رغم كل ما يقال، لأنه من الطبيعي أن تواجه أي عمل المعوقات والمتاعب حتى في أرقى بلدان العالم، وما قدمه المسرح في بلادنا على زخمه وتنوعه يعتبر نموذجاً حقيقياً، ومثالاً يحتذى شمل أدق التفاصيل وأكثرها حساسية في مجتمعنا، ونحن هنا ذكرنا أمثلة بسيطة لا تتعدى غرفة خاطفة من بحر المسرح.
وعوداً على ذي بدء، لابد من القول بأن الانتهازي حالة لم يقتصر مسرحنا عليها، بل هي واحدة من حالات كثيرة قدمها كتاب المسرح، وسلطوا عليها الضوء، لكنها تبقى الأبرز ذلك لأنه يعتبر طرفاً أو جزءاً من أطراف الصراع التي تحدث على خشبة المسرح كما الحياة، وإذا كنا نعترف بقوته فلابد أن نقر بضعفه ووهنه فهو في النهاية يعيش كعلقة أو نباتات طفيلية تأكل خيرات غيرها، وربما الفرار يكون سبيله الأوحد لو حصلت المواجهة، ومهما قيل وما تم التشويش به لتسويد بياضنا، وتعكير مياهنا الصافية النقية، فلن يكون ذلك سوى زوبعة تمضي من دون أن تهز قلاعنا التاريخية السامقة والممزوجة بعشق تراب هذه الأرض وحجارتها، وسيبقى المسرح والأدب والفن السوري عموماً بصمة واضحة، وسلوكاً حياتياً لا يستطيع كائن من كان أن يمحوها أو يغيرها
نقلها الأديب محمد فتحي المقداد -عن مجموعة فرسان الثقافة في الواتس.