ارحمُونِي!!
وصَلَتْ إلى درجةٍ من الإحباطِ لم تعْهَدْها من قبلُ؛ فالحربُ أتتْ على الأخضرِ واليابسِ, الخوفُ تملَّكَ الجميعَ، الطائراتُ ما برِحتْ تُلقِي بحِمَمِها في كلِّ مكانٍ, بيتُها القابعُ بطرفِ مدينةِ حلَب الشَّهباءَ التي لوَّنَها السَّوَادُ, الليلُ أرخَى سدائلَهُ, والظلمةُ سَيِّدَةُ الموقفِ, شمعةٌ حزينةٌ رأسُها الملتهبُ يتراقَصُ يُمنةً ويُسرةً كالذبيحةِ, لا تدري كيفَ خطَرَ ببالِها تلكَ اللحظةَ المشحونةَ بالخوفِ والألَمِ أن تُمارِسَ هوايتَها في الرَّسمِ, تَذَكَّرَتْ ذلك العصفورَ الجميلَ الذي كانتْ زقزقَتُهُ مصدرَ سعادتِها كلَّ صباحٍ وهوَ يشدُو بسُموفنيَّةٍ تُطرِبُ الآذانَ, قرَّرَتْ أنْ تَرْسُمَهُ, بدأتْ بِمِنقارِهِ الورديِّ وهوَ يشدُو فغلَبَها النُّعاسُ، في الصَّباحِ سمعتْ صوتًا مُزلزِلًا, الطائراتُ تُحلِّقُ في السَّماءِ, زُلزِلَتْ الأرضُ وتَفَجَّرَتْ المنازلُ, كانَ هناكَ صوتٌ غريبٌ يستغيثُ بِقُوَّةٍ: ارْحمُونِي, أرجُوكُم أطلِقُوا سَرَاحي؛ لا أستطيعُ العيشَ هكذا في هذهِ الظروفِ, تَتَبَّعَتْ الصوتَ... كانَ العصفورُ يرتَجِفُ كوَرقَةٍ في مَهَبِّ الرياحِ، عيناهُ تكادُ تخرُجُ من مِحجرَيهما وهو يستغيثُ, تَأمَّلَتْهُ عن قُرْبٍ، كانَ يُشيرُ لجناحَيْهِ المَفقودَيْنِ, أسرعتْ لِرِيشتِها فَرَسَمَتْهُما علَى عَجَلٍ؛ فخَرَجَ مُسرِعًا من النَّافذَةِ وهوَ يَصيحُ: هذهِ جَهَنَّمُ!! فأينَ الجَنَّةُ التي عَهِدْتُها؟... يا ليتَني بقيتُ ذكرى فلم ُأرسَمْ؛ فما يُشهَدُ لديكُمُ إلَّا التوَجُّعُ!!... كانَ اللهُ في عونِكُم.