لا تزال أغنية اللاجئ الفلسطيني (أبو عرب) تتردد على مسامعنا منذ زمن وهو يصدح فيها بقوله: هدي يا بحر هدي طولنا في غيبتنا

ودي سلامي ودي للأرض اللي ربتنا

سلم سلم عبلادي تربة بيي وجدادي…

ولكنَّ الزمن قد مرَّ بعيداً وحمل معه ما حصل في تلك البلاد، وطالت الغيبة وانشغل أهل الأرض بالحوادث الجديدة حتى نسيَ من نسي وتناسى من تناسى. هذا الكتاب الذي بين أيدينا واحد من الكتب التي تعيد وضع حادثة النكبة في سياقها من جديد وتحيي فينا كل معاني الحزن والشجن والقهر. ونحن نقرأ أسماء المدن والقرى الفلسطينية المدمرة ولكن ليس من أجل تذكرها الأسماء فقط كما تعودنا ولكن الكتاب هنا يعيد إلى أذهاننا كيف تم تداول اسم هذه القرية والمدينة والحي على لسان من قرر تدميرها وطرد أهلها أو قتلهم ثمَّ استبدالها بمستوطنات أو غابات أو متنزهات تخفي تحت جمالها المصطنع آمال وأحلام وضحكات ودمعات حوالي مليون فلسطيني تم اقتلاعهم من أرضهم بلا سبب.

هذا الكتاب – برأيي – يجب أن يُقرأ من كل فلسطيني خاصةً وعربي من أبناء هذا الجيل الذي يُراد لثقافته أن تضمحل وذكره لوطنه وما فُعل به أن يُمحى، قراءة الكتاب والاستعانة بموقع (يوتيوب) الذي ساعدني كثيراً على التعرف المباشر على تلك القرى والمدن التي يتكلم المؤلف عن نكبتها يجعل من قراءة الكتاب ذات فائدة عظيمة فأنت حين تقرأ مثلاً: عن عين غزال قضاء حيفا وعن مقام الشيخ شحادة فيها ثم تجد له فيديو مصور فإن ذلك يربطك بشكل أعمق بالمكان حين يعيد الكتاب إليك التاريخ المجرد وتنقلك الصورة إلى ما بقي من ذلك التاريخ.

“ولا يساورني أي ظن في أن هذا الكتاب يمكن أن يغير واقعا يشيطن شعبا استُعمِر، وطرد واحتلت أراضيه ويمجد بالذات الشعب الذي استعمَر وطرد واحتل أراضي الشعب الآخر” (ص208) على قدر الألم الذي تخلقه قراءة تاريخ نكبة فلسطين عام 1948 وما رافقه من عملية قتل وتدمير وتهجير ونهب وحرق لوطن كامل بأرضه وشعبه وتاريخه وتراثه، ثم استبداله بشعب آخر فإنه من الضرورة بمكان أن يعود كل جيل من أجيال هذه الأمة إلى قراءة ذلك التاريخ، كي لا ننسى أن لنا وطنناً تمَّ محوُ آثاره من الوجود ليس لشيء إلا لأن مجموعة من البشر قررت أن هذه الأرض هي المكان المناسب لتقيم عليه وطناً خاصاً بها تحت حجج تم اختلاقها.

تنبع أهمية الكتاب الذي بين أيدينا كونه كتب على يد مؤرخ إسرائيلي من المؤرخين الإسرائيليين الجدد أولاً وأنه استخدم فيه الأرشيفات الصهيونية التي لا يسمح عادةً لأيٍّ كان الدخول إليها واستخدامها في الكتابة البحثية، هذا بالإضافة إلى اعتماده على مذكرات قادة ومؤسسي دولة الاحتلال كما استشهد بالكثير من الأحداث بالتاريخ الشفوي الذي حكاه لاجئون فلسطينيون، وهو ما جعل الكتاب مادة ثرية معلوماتياً معتمدة على مصادر أولية مباشرة في قربها من صناعة حدث النكبة.

يحدد الكاتب هدفه من إعادة كتابة هذا التاريخ بقوله: “إنها القصة البسيطة والمرعبة لتطهير فلسطين من سكانها الأصليين وهي جريمة ضد الإنسانية أرادت إسرائيل إنكارها وجعل العالم ينساها، إن استردادها من النسيان واجب علينا، ليس فقط من أجل كتابة تاريخ صحيح كان يجب أن يكتب منذ فترة طويلة، أو بدافع من واجب مهني؛ إن ذاك كما أره قرار أخلاقي…”ص8

وهو هنا يريد أن يثبت من خلال الكتاب فكرة واحدة وهي أن الزعم الإسرائيلي بأن ما حصل في فلسطين لم يكن حرباً داخلية بين أعراق متصارعة عل الأرض وإنما خطةٌ منهجية واضحة المعالم في عقول مرتكبيها قرروا أن يعملوا على تطهير مساحة من الأرض عرقياً ومحو كل آثار أصحابها الأصليين العمرانية والثقافية حتى لا يطالبوا بالعودة إليها مجددا في يوم من الأيام. والكاتب يَعجَب –وحقَّ له – “ومن الصعب حقا أن يفهم المرء وبالتالي أن يفسر كيف أن جريمة ارتكبت في العصر الحديث، وفي فترة حاسمة في التاريخ… أمكن أن يتم تجاهلها كلياً على هذا النحو.!”ص17

جاء الكتاب في اثني عشر فصلاً بدأ فيه من حكاية الأحداث التي مهدَّت للنكبة خلال فترة الحكم الانتدابي، مروراً بعملية التطهير العرقي التي قضت على أكثر من 531 قرية و11 حياً مدنياً وهجرت أكثر من 800 ألف مواطن فلسطيني من أرضهم. يحكي خلال ذلك الكثير من التفاصيل المتعلقة بالحوارات التي دارت داخل دوائر صنع القرار في دولة الاحتلال التي قضت باحتلال هذه البلاد وطرد أهلها منها. وصولاً إلى مناقشة الحلول التي تم طرحها في تاريخ القضية الفلسطينية والتي يرى المؤلف أنها لا بد أن تصل في يوم من الأيام إلى حلٍّ يتعايش فيه الطرفان في دولة واحدة حسب رأيه.

في الفصل الثاني يناقش الكتاب فكرة الدولة اليهودية الخالصة التي أرادها الاحتلال وكيفية الوصول إليها، واعتبارهم للفلسطينيين جزءاً من عقبات الطبيعة التي يجب محوها كما الشجر والحجر من أجل تحقيق إقامة الوطن الذي اشتهته الحركة الصهيونية.( ص20) وقد عملت الحركة الصهيونية من البداية وفق مخطط مفصل من أجل حصر الوجود الفلسطيني وتوثيقه حتى تتم عملية التطهير العرقي لاحقاً بشكل منهجي يقضي على ما بقي من الثوار الفلسطينيين بعد ثورة 1936 ويهجِّر بقية السكان ويمحي وجودهم في البلاد. وهو ما عرف لاحقاً بالخطة (د) التي قضت بطرد الفلسطينيين بشكل نهائي منهجي كلي من أرضهم. (ص38).

وفي معرض حديث الكاتب عن المواقف المحلية والعالمية المرتبطة بحيثيات النكبة فإن الكاتب يرصد هذه المواقف كما يأتي:

موقف الأمم المتحدة الوليدة والتي تجاهلت كليا التركيبة الاثنية لسكان فلسطين، حيث لم يكن من حق اليهود مقارنة بعددهم في فلسطين في تلك الفترة 10% من الأرض لو كان هناك داعٍ لتقسيمها. (ص41). وعليه فقد اتخذت قرارات لا أخلاقية تمثلت في إعطائها أرضاً مسكونة من شعب آخر لمن لا يستحقها ولا يملكها بل هو يعلن منذ تأسيسه عن رغبته في إزالة عروبة فلسطين. (ص44).

أما الفلسطينيون فقد غابت عنهم القيادة الفعلية وكما يقول المؤلف: “فإن المجتمع الفلسطيني من جميع النواحي كان شعباً بلا قيادة ” (ص134). حتى أن الصهاينة لم يناقشوا ردة فعلهم لعلمهم بانهيار قيادتهم عقب الحرب العالمية الثانية وما نتج عنها من موازين قوى لم تكن في صالح الشعب الفلسطيني. (ص35) (ص91). بل إنهم انزعجوا من ردة الفعل الفلسطينية الضعيفة على المواقف والهجمات الصهيونية لأنها أفقدتهم -أحياناً- المبرر لمزيد من الإجرام بحق الفلسطينيين. كما يذكر المؤلف العديد من المسائل المتعلقة بطبيعة النخبة الفلسطينية حينها والتي هرب وجهاؤها عام 1947إلى مناطق خارج فلسطين حتى تهدأ الأوضاع.(ص63). أما المقاومة العسكرية الفلسطينية فكانت تعاني من ضعف التسليح والتدريب والدعم، وغياب التخطيط، وكل ما كانت تقوم به ردات فعل غير منظمة على العصابات الصهيونية ومع ذلك فإن الكاتب يذكر العديد من الأمثلة لقرى صمدت حتى نفاد مخزونها من السلاح أو استخدام الطائرات في تدميرها كاملة. “كانت الأغلبية من السكان تصمد بشجاعة إلى أن تطرد بالقوة” (ص210). كما يتحدث عن قتل حوالي 400 يهودي مع نهاية شهر 1 عام 1948، مقابل أكثر من 1500 فلسطيني استشهدوا خلال القصف والهجمات الصهيونية. (ص82).

الموقف العربي انقسم حينها بين موقفٍ متآمر متخاذل يريد تحقيق أهداف ذاتيه توسعية على حساب الشعب الفلسطيني، وبين غير مقدِّر للواقع الجديد الذي كانت ترسمه الحركة الصهيونية وبالتالي غير قادر على التعامل معه.(ص43). فـ “في نهاية نيسان 1948فقط قررت (الدول العربية) إرسال جيوش إلى فلسطين. وذلك بعد أن كان تم فعلا طرد ربع مليون فلسطيني وتدمير 200 قرية، وإخلاء عشرات المدن.” (ص130). وحيث تظهر المواقف العربية المتخاذلة المتآمرة يظهر في ثنايات الكتاب حديثٌ مختلفٌ عن الجيش العراقي الذي ساعد بشكل ملفت العديد من القرى والمدن الفلسطينية على الصمود في وجه العصابات الصهيونية، كما يظهر في أكثر من مكان حديثٌ كذلك عن دور متطوعي الإخوان المسلمين الذين جاؤوا من مصر لقتال العصابات الصهيونية.

أما موقف بريطانيا والتي كانت حينها قوة الأمر الواقع والتي تملك ما يقارب من 75 ألف جندي في فلسطين ساعة النكبة وقد كلِّفت من الأمم المتحدة بتنفيذ قرار التقسيم، فقد تخلت بشكل متدرج وتام عن مسؤوليتها تجاه الفلسطينيين بل كانت في كثير من الحالات مجرد عنصر تخدير وخداع للنخب الفلسطينية التي حاولت التعامل معها كقوة محايدة ولكن الواقع أنها تخلت عن جميع مسؤولياتها تجاه الفلسطينيين وبذلك كانت شريكاً أساسيا في عملية التطهير العرقي التي حصلت للشعب الفلسطيني. (ص137) بل قامت بتدريب العصابات الصهيونية مثل “الهاجاناه” خلال الحرب العالمية الثانية التي كان تحت تصرفها عشية النكبة أكثر من 50 ألف جندي نصفهم قد تدرب على يد القوات البريطانية (ص98). بالإضافة إلى أدوار مساعدة بشكل فج في عملية التطهير العرقي كما حصل في طبريا. (ص103).

ويسعى المؤلف خلال كتابه جاهداً إلى إثبات الحقيقة التي تفنِّد الرواية الصهيونية للنكبة التي تؤكد على خروج العرب من فلسطين استجابة لنداء القادة العرب قبل الحرب حيث أنه: “بين 30/3/1948 و15/5/1948 احتُلَّت 200 قرية وطرد سكانها. وهذه حقيقة يجب تكرارها لأنها تقوض الخرافة الإسرائيلية بأن العرب هربوا عندما بدأ “الغزو العربي”. إن نصف القرى العربية تقريباً كان هوجم قبل أن تقرر الحكومات العربية أخيراً وعلى مضض كما نعرف إرسال قواتها وسيتم محو 90 قرية أخرى بين 15/5 و 11/ 6 لعام 1948. عندما وضعت الهدنة الأولى أخيراً موضع التنفيذ.” (ص116). كما يؤكد المؤلف على حقيقة التآمر العالمي على الجريمة التي حصلت حيث: “يبدو أن أياً من المراسلين الأجانب لم يكن يجرؤ على أن ينتقد علناً ما كانت تفعله الأمة اليهودية بعد مرور مجرد ثلاثة أعوام على الهولوكوست” (ص121).

من القضايا المهمة التي يثيرها المؤلف أيضاً مسألة الطوائف العربية التي خضعت بل وشاركت في جهود التطهير العرقي سواءً من القبائل البدوية أو الدروز الذين أصبحوا _حسب المؤلف_ الأداة الرئيسية بأيدي اليهود لتنفيذ التطهير العرقي في الجليل. (ص127) بالإضافة إلى الشركس الذين انضم 350 من أبنائهم إلى العصابات الصهيونية. (ص127).

في الفصل التاسع يناقش الكاتب وجه الاحتلال القبيح وأفعاله الإجرامية فيذكر العديد من الجرائم التي اقترفتها العصابات الصهيونية من قتل مارسه الجنود من جميع الرتب العكسرية وبدون سبب مباشر سوى القتل. يتحدث عن حالات الاغتصاب، السجون التي وضع فيها أكثر من 9 آلاف معتقل فلسطيني قاموا بأعمال شاقة لصالح دولة الاحتلال. ويناقش كذلك مسألة أملاك الفلسطينيين التي جمعت وقسمت بين الدولة ومواطنيها. حيث أصبح 17% من السكان الفلسطينيين الذين لم يخرجوا من أراضي عام 1948 يعيشون فقط على 3% من أرضهم التي استولى عليها الاحتلال. (ص250).

في الفصل قبل الأخير يناقش المؤلف مسألة مشاريع السلام التي بدأت من نقطة إنكار النكبة وبالتالي حكمت على نفسها بالفشل من أول لحظة حين تنكرت لتاريخ طويل من القتل والإبادة والتطهير العرقي ومحو أثر شعب كامل عن وطنه.

في خاتمة الكتاب يشير المؤلف إلى حالة: “الاندهاش الشديد من كون هذه الجريمة نسيت تماماً ومحيت من عقولنا وذاكرتنا، غير أننا الآن نعرف الثمن، ونعرف أن الأيديولوجيا التي أدت إلى طرد نصف الفلسطينيين عام 1948، ما زالت حية ومستمرة في اتجاه طرد لا رحمة فيه أحيانا غير مرئي لأولئك الفلسطينيين الذين لا يزالون يعيشون في وطنهم ” (ص289).

بعد رحلة مؤلمة تعيد إلى الأذهان بعضاً من صورة الجريمة التي حصلت بحق الشعب الفلسطيني والتي لا تزال آثارها مستمرة حتى اليوم، يخلص المؤلف إلى ضرورة استخلاص العبرة من التاريخ وهو يدعو زملاءه السابقين في أقسام الجامعات الإسرائيلية إلى اتخاذ نفس الموقف الذي اتخذه هو من الجريمة الصهيونية في اغتصاب أرض فلسطين وتهجير شعبها، ويدعوهم إلى تذكر أن جامعاتهم التي يتحركون فوقها أقيمت فوق مدن وقرى وبيوت ومقابر لشعب آخر تم طرده بالقوة، ويجب أن يكون لديهم من الشجاعة ما يكفي للاعتراف بهذه الجريمة لكي يبدأ العمل على حلِّها بشكل صحيح ومقبول.

للتحميل من هنا

المصدر : مركز برق للأبحاث و الدراسات