بين "المؤامرة" و "التخطيط المنطقي"
عندما أمرُّ بإحدى أضخم مكتبات مرسيليا ، يذهلني هذا العدد الكبير من الكتب الفرنسية التي تتحدث عن السياسة و الإقتصاد في العالم العربي .
كتبٌ اختصاصيةٌ عن سورية و الجزائر و المغرب و قطر ، لكُتّابٍ فرنسيين أو عرب يعيشون في فرنسا .
كتبٌ تزيد بعددها و نوعيتها عن تلك التي تصدر في البلدان العربية المعنيّة نفسها .
قد يقول قائل :" لماذا ينشغل هؤلاء بنا نحن العرب ؟ .. لماذا يكتبون عنّا ؟ ... ما الذي يدفع بصحفي فرنسيّ أن يخاطر بحياته ليزور المناطق الساخنة في سورية ؟ ما هدف صحفي آخر يدخلُ في تفاصيل الاقتصاد الجزائري بشكل دقيق و موثق ؟ و صحفي يفضح الاستخدام المهين للمال القطري في فرنسا ؟
أكاد أشعر و أنا أتصفح كل هذه الكتب أن هؤلاء الناس يعرفون عنّا أكثر مما نعرف عن أنفسنا ، و في ذلك إحدى أكثر القضايا جوهرية و حساسية .
من متابعتي للحياة الفكرية و السياسية الفرنسية ، اكتشف أن لكل دولة في العالم ، هناك مختص فرنسي يكتب عنها و يبحث فيها ، عن قوتها و عن ضعفها ، يفعل ذلك من خلال الجامعات و مراكز البحث و الصحف و المجلات المتنوعة المشارب ، و الأمر المثير للجدل و الاستغراب أن المعلومات في معظمها تُنشر علانية في كتب و مجلات و بحوث .
هل ما يفعله الغرب هو " مؤامرة" على العالم .؟؟ و كل ما يفعلوه الآن في هذه اللحظة هو مجرد معلومات ووثائق معلنة منذ سنوات بطريقة عالية الشفافية ؟.
من هنا أظن أن مفهوم المؤامرة هو مفهوم يحتاج لتحليل أكثر دقة و موضوعية .
فأنا أرى أن الغرب " يخطط" و يدرس كل شيء ، كل شيء بدون استثناء ، و يتعامل مع المحيط الكوني كاملاً كمجموعة متكاملة من العوامل المؤثرة ، يجب التعامل معها و بكل جدية ، مهما صَغُر حجمها أو خفَّ وزنها .
عندما يخطط الغرب لكل شيء ، سيبدو "متآمراً" في عيون الشعوب التي يقوده القدر و العبثية و لا تخطط لأي شيء ، هذا أمر طبيعي و منطقي .
عندما أكون منغلقاً على نفسي ، سأعتبر منها رويداً "مركزاً " لهذا الكون ، و سأؤمن بأفكاري و معتقداتي بطريقة لا تقبل النقاش و لا المساومة ، الأمر الذي يزيد من انغلاقي على نفسي حتى تصير أفكاري هي نفسها ذاتي و لا قدرة لي على النظر لها بمعزل عني . كل ذاك سيجبرني على التموضع بخانة المدافع عن النفس ما سيكرس أكثر و أكثر موقع الضحية .
الشعوب المتدينة ، المحافظة ، المنغلقة ، تصرف طاقاتها هدراً و عبثاً وهي تدافع عن صحة أفكارها بدون أن تظن ولو لحظة أن النقد الموجه لها قد يكون صحيحاً أو محتملاً كأبعد حد .
من هنا .. هل يمكن أن نلوم من يخطط لحياته أنه تدخّلَ في حياة الآخرين ، و النظام الكوني يمشي كما أتفق الجميع حسب مبدأ "البقاء للأقوى" ؟
هل يمكن أن نعتبر ذاك الذي يريد الحفاظ على قوته أنه متآمر علينا نحن الضعفاء الذين لا نسعى بجدية أن نكون أكثر قوة ؟
و السؤال الأكثر خطورة برأيي هو التالي :" لماذا لا نخطط .. كما يفعل الآخرون ؟
إننا لا نخطط لأننا لا نشعر بضرورة المستقبل ، فنحن قد حصلنا في الماضي على المعرفة الكاملة و نريد تطبيقها في الحاضر ، أما المستقبل فليس من شأننا .
الشعوب المتدينة ، تعتبر أن الحقيقة أمر مُكتمل و لا تبحث عن تطويرها و لا حتى معرفة أسرارها ، مشغولة بتطبيق مسلمات قادمة من الماضي ، بحد كبير من العماء الفكري الغريب .
البحث العلمي ، يعني أني قبلتُ تجاوز المسلمات و بدأت عصر الأسئلة . و عندما أبدأ هذا العصر يصير " التخطيط" ( المؤامرة بمفهومنا الشرقي ) جزءٌ من شخصيتنا و هويتنا و نصير حتى نحن ننتمي لعالم المخططين .
إن عصر الأسئلة هذا سينقلنا بلا شك و بطريقة لا شعورية من حالة " الضحية" إلى حالة " الندّ" و هي الحالة التي بدأتها دولٌ مثل الصين و الهند و البرازيل و إيران .
هي بلدان قبلت أن تتخلى عن الماضي كمرجعية نهائية و لجأت للعقل الإنساني الذي يعتاش تلقائياً على البحث عن الجديد و الممتع و المدهش .
قد تكون نظرية المؤامرة هذه هي إحدى وسائلنا لنبقى على الحياد مستمتعين بدور الضحية الذي لا يتطلب إلا بعض الندب و البكاء .
إذا فعلينا أن نختار اليوم بين عالمين :
عالم المخطِّطين الأقوياء أو عالم الضعفاء " المشغولين باللحاق بالماضي ".
و لنا وحدنا الخيار الكامل .
رفيف المهنا