الاستراتيجيات النفسية في الخطاب الإعلامي الإسرائيلي
عماد موسى
كاتب فلسطيني - رام الله
مما لاشك فيه ، أن منتجي الخطاب هم من يتحكم على عمليات الإنتاج ويسيطر عليه ، وهم من يحدد الاستراتيجيات ، ورؤيتها بقصد تحقيق الغايات والمقاصد التي وضعت لها هذه الإستراتيجيات ، وبلغة الاتصال فإن المرسل " يختار إستراتيجية الخطاب المناسبة للسياق ، وفقاً لما تقتضيه سلطته، إما بتفعيلها، أو بالتنازل عنها " 1.
و انسجاماً مع حالة التعبئة للرأي العام الإسرائيلي إزاء قضية ما، يعمد الخطاب إلى إحداث تغييرات سلوكية سواء أكانت على المستوى الفردي أم الجمعي، وهذا ما دفعهم إلى تبني إستراتيجية الفزع الجماهيري، لبثها بين الرأي العام ،ومن ثم دفعه للاستجابة لمواقف الحكومة،لأن الخطاب في هذه الحالة يعمل وسيطاً بين السلطة والرأي العام،ومهمة الوسيط؛ هو نقل الرسائل بصور مختلفة وباستراتيجيات مختلفة، ومن أبرزها :-
أولا:الفزع الجماهيري(Mass hysteria)
حيث وظف الخطاب الإعلامي الإسرائيلي إستراتيجية سيكولوجية هي إستراتيجية الفزع الجماهيري ، ويتم حصر معنى الفزع لغوياً وبحسب المعجم الوسيط في ثلاث معان أساسية وهي ( الخوف والذعر ، اللجوء ، الإغاثة )، وفي علم النفس يعرف على أنه " حالة أو شعور بالخوف المفاجئ " 2
ولتوضيح ذلك نستعرض خطاباً نموذجاً للفزع الجماهيري: (المضمون: الأسد على علم جيد بان إسرائيل التي تهاجم بسلاح غير تقليدي أو بسلاح يؤدي إلى دمار جماهيري ستستخدم كل الوسائل التي تحت تصرفها كي تعاقب سوريا. ومن شأن الضربة الإسرائيلية، من ناحية الأسد، أن تكون ضربة قاضية، ولهذا فليس له أي مصلحة بمهاجمة إسرائيل (3)
ويتابع الخطاب وظيفته في بث الفزع الجماهيري من خلال توظيف تكنيك السؤال الذي يدفع مستقبل مضمون الخطاب بأجوبة الخوف:" سيكون أم لن يكون هجوم أمريكي؟ هل سترد سوريا بإطلاق الصواريخ على إسرائيل؟ هل سيمطرنا الطاغية السوري بسلاح غير تقليدي؟ لماذا لا يوجد ما يكفي من الكمامات. هل الجبهة الداخلية محصنة بما فيه الكفاية؟ هل الجيش الإسرائيلي جاهز حقا للتحدي الذي يقف أمامه، إذا ما كان وعندما سيكون مطالبا بالعمل في سوريا؟ متى بالضبط سيهاجم الأمريكيون؟
كان يمكننا أن نواصل طرح المزيد، فالمزيد من الأسئلة في أعقاب الشكوك الذي تتراكض في وسائل الإعلام وبين الجماهير الإسرائيلية بالنسبة للحرب ضد الأسد. المشكلة هي أن ليس لأحد جواب حقيقي لكل هذه الأسئلة وكل لديه تخمين منفلت العقال يصبح مادة إعلامية، تدخل الناس في فزع زائد".
فبعد أن حقق الخطاب غايته في بث الفزع في روح الجماهير حول استعمال الأسد للسلاح الكيماوي، وعبر أسئلة تثير الخوف ، يبدأ الخطاب بالتراجع كما لاحظنا في الفقرة السابقة، ولكنه تراجع فيه إيحاء اكبر بتفجير الفزع؛ لأنه تأكيد على المخاوف فالخطاب لا يريد طرح المزيد من الأسئلة التخويفية الوجودية لعدم وجود جواب ، ويؤكد على أن طرح مزيد من الأسئلة، قد " يصبح مادة إعلامية تدخل الناس في فزع زائد"
ويتابع منتج الخطاب بث روح الفزع "وحتى رئيس الوزراء وجد من السليم أن يبث رسالة مرئية للجمهور في إسرائيل كي يهدئ روعه، ويعد بان يفعل قادة إسرائيل كل شيء لحماية أمن المواطنين. فهل هدأ روع المواطنين؟ الطريق الأكثر أمانا وصحة للتهدئة وتبديد التوترات هو قول الحقيقة للجمهور. ولهذا فسأحاول بشكل عاقل تحليل الواقع ومحاولة استخلاص الاستنتاجات بناء على ذلك." نلاحظ كيف يستخدم الخطاب لغة تعبر عن الفزع ، عبر استعمال مفردات "يهدئ، هدأ ، روع، وكلمة مشكوك ،حماية امن ،والتهدئة..."
يستمر منتج الخطاب في تعزيز إستراتجية الفزع الجماهيري،"وحسب مصادر علنية وخبيرة في المجال، قرر أوباما أن لا مفر من هجوم في سوريا في ضوء استخدام السلاح الكيميائي من قبل الأسد ورجاله. لا يوجد تفسير مبرر لماذا قرر بالذات الأن الأسد اجتياز الخط الأحمر.
قبل أشهر عديدة كانت إسرائيل بالذات هي التي أصدرت الأخطار باستخدام السلاح الكيميائي. القرار تم والتراجع عنه غير معقول على نحو ظاهر. خطوة من هذا النوع ستضر بشدة بالمكانة الدولية للولايات المتحدة التي على كل ليست في أفضل الأحوال. مسألة التوقيت، لشدة الدهشة، ليست هامة بهذا القدر. المهم أن أوباما نجح في أن يخلق ائتلافا على ما يكفي من الجدية للعمل. ومن أجل الحصول على الشرعية للعمل، على الولايات المتحدة أن تعمل بشدة في المجال السياسي. قرار البرلمان البريطاني بعدم السماح لرئيس الوزراء بالخروج إلى الحرب إلى جانب الولايات المتحدة يجسد كم هي كثيرة العوائق. أوباما وحده هو الذي سيقرر متى الهجوم، وأغلب الظن، فانه لن يشرك وسائل الإعلام في تحديد الموعد والساعة الدقيقين.
لقد أعلنت الولايات المتحدة وشركاؤها (المتبقون) على الملأ بان ليس في نيتهم احتلال سوريا. ومعنى هذا التصريح هو أن العملية العسكرية ستتضمن هجوما جويا وإطلاق صواريخ من السفن الحربية. والأهداف التي اختيرت ستكون عسكرية فقط ولا سيما مخزونات السلاح الكيميائي. أما الأهداف المدنية أو رموز السلطة فلن تهاجم لان أوباما يفهم معنى ذلك. والتلميحات بذلك بارزة للعيان. غير أن الواقع يمكنه أن يتغير بين لحظة وأخرى. والخطط العسكرية لم تكن أبدا مآلها النجاحات فقط بل والإخفاقات أيضا."
وإذا كان كذلك، فان حكم الأسد ليس في خطر فوري، وبالتأكيد ليس في خطر أكبر مما يوجد الأن. ومن هناك يطرح السؤال، لماذا يخاطر الأسد بنفسه بفتح جبهة أخرى ضد إسرائيل التي هي قادرة حقا على تحقيق انهيار لحكمه؟ إن الأسد على علم جيد بان إسرائيل التي تهاجم بسلاح غير تقليدي أو بسلاح يؤدي إلى دمار جماهيري ستستخدم كل الوسائل التي تحت تصرفها كي تعاقب سوريا. ومن شأن الضربة الإسرائيلية، من ناحية الأسد، أن تكون ضربة قاضية، ولهذا فليس له أي مصلحة بمهاجمة إسرائيل. الأسد قادر على الخروج من الهجوم الأمريكي – الأوروبي وهو لا يزال الحاكم، ولهذا فان الفزع في إسرائيل زائد. الإعداد الدقيق لسيناريو اقل تفاؤل يستدعيه الواقع. ينبغي الأمل في أن يكون الجيش الإسرائيلي مستعدا للتحديات، إذا ما فرض علينا هجوم مفاجئ.

وأخيرا، سأتناول باختصار مسألة الكمامات. لم امتنع أبداً عن انتقاد الجيش الإسرائيلي عندما كان هذا مبررا، حسب أفضل فهمي. في موضوع توزيع الكمامات ليس الجيش الإسرائيلي هو المذنب الوحيد. المذنب هو ذات الجمهور غير المبالي والمستهتر الذي يمتنع عن التوجه إلى تغيير الكمامات عندما يستدعى لذلك. لا تلوموا الجيش الإسرائيلي بل لوموا قبل كل شيء أنفسكم"( 4)
ويمكننا القول: انه ربما قد تم توريط أو دفع طرف ما لاستعمال السلاح الكيماوي الذي خفض من مستويات الفزع الجماهيري إلى أدنى مستوى عبر استجابة سوريا السريعة لتسليم السلاح الكيماوي والالتزام بعدم تصنيعه،فهل حقق الخطاب مبتغاه، من خلال هذه الإستراتيجية؟
ثانيا: إستراتيجية الهستيريا الجماعية
الهستيريا في العلوم السيكولوجية "هي اضطراب في السلوك تتحول فيه الصراعات النفسية إلى أعراض جسمية، و يمكن تصنيف الأعراض في ثلاثة أنواع:
1-اضطرابات فيزيقية دون وجود أي مرض في العضو أو لأعضاء
2- مبالغة في الأعراض العضوية
3- أمراض عضوية ناتجة عن توتر نفسي".(5 )
مصطلح هستيريا المستخدم في عبارة"هستيريا جماعية" لوصف ردود أفعال،أي ذعر الجمهور وهي مهما اختلفت أسماؤها، مثل: هستيريا المجموعة أو مرض الجمهور ذو المنشأ النفسي أو السلوك الجماعي الوسواسي هي ظاهرة نفسية اجتماعية تتجسد في الأعراض الهستيرية نفسها في أكثر من شخص واحد.
من هنا وظف الخطاب أيضاً هذه الإستراتيجية؛ كمصطلح نفسي له أعراضه الواضحة، كما هو وارد في التعريف للتعبير عن حالة التردي النفسية، التي يرمي الخطاب إيصال الرأي العام إليها، كي تتوافق مع القيادة السياسية في قرارها بشأن ضربة عسكرية ضد مسببات الحالة الهستيرية، وضد التهديد الوجودي. لذا، جاء الخطاب معنونا " بصناعة الهستيريا" للتأشير على أن الأمراض النفسية أضحت صناعة، مثلها مثل صناعة الثقافة والمعرفة والإعلام. وللقول: أن هذا المنتج موجه من الخطاب الإعلامي ومرجعياته، نحو الداخل الإسرائيلي وليس ضد الآخر، من أجل التأثير فيه، وإقناعه، وإزاء هذه الحالة فإننا نستطيع القول أن التواصل بين المرسل ومستقبل رسالة الخطاب"هو فعل منتج للدلالة وليس مستهلكا لها".(6)
ونلاحظ كيف طور الخطاب الإعلامي الإسرائيلي من إستراتيجيته، ليتجه إلى تبني إستراتيجية الفزع الجماهيري ، التي اتخذت وسائل الإعلام الإسرائيلية من عملية التغطية "لإعلانات الجيش الإسرائيلي عن البدء في اختبار لنظام إنذار في البلاد، بواسطة الرسائل النصية لإبلاغ السكان في حال وقوع هجمات صاروخية، وسيتم إرسال رسائل باللغة العبرية، والعربية، والانجليزية، والروسية إلى الهواتف النقالة الخاصة، في مناطق عديدة منها: القدس وحيفا وتل أبيب ."(7 )

لذا، نجد أن إستراتيجية صناعة الهستيريا :هو تطوير لإستراتيجية الفوبيا وتحويل حالة الخوف الفردي إلى حالة من الفزع الجماهيري ويعني فزع جماعة من الناس لها قاسم مشترك فيظهرون علامات القلق في وقت واحد وعلامات القلق مؤشرات يمكن أن تتضمن أعراضاً جسدية هي الهستيريا الجماعية. إذ أنه وراء المقاصد الظاهرة للخطاب " يختبئ نوع من الخوف ولكأن أنواعاً من الحظر، وسدودا وعتبات،وحدودا دبرت للسيطرة على جانب من التضخم الكبير للخطاب، ولتحقيق الجانب الخطير من غناها، ولتنظيم اختلاله بصورة تتجنب معها، ما ليس فيه قابلا للرقابة."(8)
وبمقدور الدارس أن يرصد هذا التطور في إستراتيجية الفوبيا، وانتقالها إلى إستراتيجية الفزع الجماهيري في الخطاب" عادت صديقتي من إجازة الصيف، وفور وصولها رفعت سماعة الهاتف وتلقت الرسالة : قيادة الجبهة الداخلية فحص جهاز الإخطار في الخلوي، في الأخبار التي أذاعها في نفس الوقت راديو السيارة العمومية جاء أن رئيس الوزراء يوسع صلاحياته، وفي التابلت الجديد الذي اشتريته ظهر العنوان"عندما تسقط الصاروخ الذي سيحرق الخليج" هكذا ينشأ الفزع الجماهيري" (9)
نلاحظ كيف توسل منتجو الخطاب في عملية بنائه على البناء الحكائي على السرد بقصد التأثير في المتلقين، فهو يسرد حكاية صديقته العائدة إلى إسرائيل من إجازتها الصيفية،والتي تعني هذه العودة، لحظة الانقطاع عن كل ذي صلة بالهدوء والمتعة والراحة،مع إحداث عنصر المفاجأة، ثم تتالى الأحداث داخل الخطاب،باستعمال الأفعال المضارعة (تلقت، تسقط سيحرق ، ينشأ) للتأكيد على التسلسل الحدثي المفضي تدريجيا، إلى تسلسل خوفي، وصولا إلى حالة الفزع الفردي (للعائدة) من رحلتها، لينتقل متسللا إلى المتلقين القراء، ليعيشوا الحالة ذاتها. وهذا ما يفعله منتجو الخطاب من خلال توظيف اللغة إذ" يمكن للكلمات أن تسبب الدمار والخراب ... لأن مثل هذه الكلمات تخلق التصورات والتخيلات الخادعة، تحدث الخوف، تؤدي إلى الهلع والرهبة أو ببساطة إلى تقديم عروض زائفة(10) ، ويظهر ذلك جليا في الخطاب "فإن إسرائيل تقف أمام خيارين بسيطين ومحتمين، هجوم فوري، أو تسليم بإيران نووية"(11)
إن لجوء الخطاب إلى افتضاح الخيارات التي تتطلب نوعا من الكتمان، إن لم تكن السرية المطلقة، يهدف إلى تحقيق غايات ومقاصد داخلية للتأثير في الجمهور الإسرائيلي وخارجية لممارسة شكل من أشكال الدعاية "البروباغندا" ضد حكومة إيران عبر تأليب شعبها عليها، لأن جزءا من المعطيات الدلالية التي يتضمنها الخطاب موجهة للشعب الإيراني وقيادته، إلا أننا نعتقد " أن الحرب التي لا تعتمد عنصر المفاجأة حرب مستحيلة".(12) ولهذا خرجت التهديدات إلى الإعلام لتحقيق المقاصد التي ذكرناه.
وهكذا يسد الخطاب النوافذ أمام أية خيارات أخرى، من أجل قتل الآمال، ليزيد من حالة التوتر العصبي لزيادة حالة الفزع في الشارع الإسرائيلي، فالحتمية الثالثة غير المدرجة في الخطاب والمبطنة فيه هي الفزع الجماهيري ، وبهذا يتمكن الخطاب بوصفه رسالة من تحقيق غايته في إحداث التأثير المطلوب في المتلقين،"أي أنه خطاب غرضي،يتم إنتاجه،وكذلك قراءته في ظروف مادية ومعنوية محددة".(13)
من هنا، يعمل الخطاب الإعلامي، على رفع مستويات الفزع الجماهيري، من خلال، توظيف العنصر الزمني، وربطه بالتهديدات والمخاطر، فيصبح كانون الأول عنوان زمني مرتبط بالمخاطر " كانون الأول القريب، سيوقف الإيرانيون العالم، أمام لعبة شطرنج مدهشة... ستغلق إذا في كانون الأول... لا يشيرون في إسرائيل وحدها، إلى الموعد النهائي، في كانون الأول، بين أجهزة استخبارية غربية في أنحاء العالم أيضاً.
بادئ الرأي بالنسبة لإسرائيل، نافذة الفرص العسكرية للهجوم ، ولا يعني هذا،أن النافذة لا يمكن أن تفتح مرة أخرى في المستقبل، بعد سنة أو سنتين، إذا أحرزت إسرائيل قدرة عسكرية، لا تملكها اليوم، إن إيران ستكون آنذاك، إذا في مكان آخر في المجال الذري"(14) إن الزمن يصبح ركيزة أساس لخدمة إستراتيجية الفزع الجماهيري، من هنا "يختار المرسل(منتج الخطاب) استراتيجيه وفقا لما تقتضيه سلطته ".(15) ، وهذا ما يؤكد عليه الخطاب عندما يجعل من الزمن محددا تاريخيا لحالة الفزع الجماهيري،بهدف رفع وتائره.
" إن ما تصوره الأنباء المنشورة المعلنة عن البرامج الأمنية والسياسية والعسكرية- الموضوعة في كفة الميزان إلى كانون الأول هو أنه سيكون الهجوم من جهة عسكرية أسهل بعد تشرين الثاني" (16)
فالخطاب يمضي قدماً في توظيف عنصر الزمن، بقصد تحقيق الغرض ذاته، وصولا بالجمهور إلى حالة من الهستيريا،:" عندنا قلقون من التقدم المتواصل للإيرانيين باتجاه قدرة الحافة للسلاح النووي بهذا المفهوم نفذت إيران هذا الأسبوع خطوة مهمة في تفعيل أجهزة الطرد المركزي إلى النطاق المحصن أو نقل المادة النووية من نتناز إلى هذه التحصينات التحت أرضية فهذه ستكون إشارة واضحة على اقتراب المواجهة الكبرى".( 17 ) ،
فبقراءة ما ورد في الخطاب، نجد أن هناك معنى حقيقيا قابعا خلف المعنى المجازي،ويمكن أن يدرك من خلال التعامل مع العبارة، فمنذ البداية يضع الخطاب الذوات المتلقية الجمهور في دائرة القلق بقوله بلغة مباشرة( عندنا قلقون) فكلمة (عندنا) تشير إلى الجمهور،وكأنه يتكلم باسمه، لا بل تتحد الذات المتكلمة مع الذوات المتلقية، و كذلك تذهب في عملية إنذواب مع الذوات السياسية، والأمنية والعسكرية،بقصد تعظيم المشهد الهستيري في المجتمع الإسرائيلي، وصولا لاتخاذ القرار بالهجوم أو عدمه.
ولتحقيق ذلك، توسل منتجو الخطاب باستعمال الظرفية المكانية ،والضمير المتصل بهذه الطريقة، وفي سياق سياسي وإعلامي، يقصد من ورائه، خلق انطباعات سريعة، لدى الجمهور؛ بأنه ليس هو القلق وحده، بل يشاركه في ذلك القلق، والخوف، والفزع والهستيريا، قياداته كافة، لهذا يصبح القلق مبررا، لأنه؛ يأتي نتاج تقدم إيران باتجاه الحافة النووية، وللتأكيد على هذه المبررات ، يعمل الخطاب على ضغط الزمن، وعصره في وحدة زمنية وهي(أسبوع) لتبعث الإحساس باقتراب النهاية، (نفذت إيران هذا الأسبوع خطوة مهمة في تفعيل أجهزة الطرد المركزي، إلى النطاق المحصن من نتناز إلى هذه التحصينات التحت أرضية فهذه ستكون إشارة واضحة على اقتراب المواجهة الكبرى. ( 18)

ثم يستخدم الخطاب مصطلحا ثانيا، وهو(النطاق المحصن) للإيحاء النفسي، بأنه إن لم توجه إسرائيل ضربة عسكرية ضد إيران، فسيكون التهديد الوجودي حقيقيا، لأن إيران ، قد وصلت إلى مرحلتي الحافة النووية، والنطاق المحصن، ثم يستخدم لغة عسكرية شاع استخدامها في الأدبيات العسكرية التاريخية، وهي (المواجهة الكبرى) ليبقي الجمهور في حالة فزع هستيري جمعي مريعة، فالذي يخبرهم بهذه المخاطر، هو تلك المصطلحات المدروسة بعناية، وليس الذات المتكلمة التي تتوارى خلف الحدث الخطابي، لتتركه يتحرك في الذهنية الجمعية بحرية لتعمل على بناء تصوراتها القادمة وفقا لمنظومة معرفية تحمل متصورات عن الحرب النووية وما تخلفه من دمار شامل، وكارثة مستدامة،لأن الجمهور ليس خبيرا نوويا ولا عسكريا ، بل هو جمهور لديه مرجعية تاريخية وهي: هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين اللتين قصفتهما أمريكا بالقنابل النووية ،من هنا، يتجرع جرعة الفزع بسهولة كبيرة.لأنه "كلما كانت مجموعة العناصر أكثر تقاربا، فهي تدرك على أنها تنتمي إلى مجموعة واحدة ،وهذا يسهل عملية تخزينها وتذكرها لاحقا."( 19)
ثم يمضي الخطاب الإعلامي في بث الهستيريا، من خلال توظيف المعلومات ، وقيام منتج الخطاب بدور المؤول بدلا من أن يترك للمتلقين حرية التأويل في فضاء الأحداث الخطابية التي احتضنها الخطاب، من أجل تسطيح المعاني والدلالات لإحداث التأثير في الجمهور(القراء)، لذا؛ نجدنه يؤول كلام الوزير"إن كلام وزير الدفاع الأميركي ليون بانيتا، لا يفهم على وجهين وقد قدر إن إيران تنوي، ’ وهي قادرة على إنتاج قنبلة ذرية في غضون سنة أو اقل من سنة، وأعلن أن هذا بالنسبة للولايات المتحدة خط احمر وأنها ستوقف إيران بكل طريقة ممكنة." (20)
فلننظر كيف اعتمد الخطاب على شخصية نافذة ومؤثرة وهامة وصاحبة سلطة،وذات موقع في دولة حليفة، وأية دولة، إنها أمريكا ،فلذلك ،احتاج خطابه إلى التأويل بخطاب (إن كلام وزير الدفاع الأميركي ليون بانيتا)، من هنا "لا يفهم كلامه على وجهين، ولننظر إلى الخطاب ،كيف قام بتأويل أقواله ،أو قام بتقويله شيئا لم يقله.لذلك عمد الخطاب"إلى فك شفرة النص(أقوال وزير الدفاع) بالتعرف على ما وراءه من افتراضات."(21)
ويرمي الخطاب إلى ترويج إستراتيجية الفزع الجماهيري عبر تصويره للخطر النووي الإيراني عبر تقليص المسافة واختزال الزمن للمواجهة الكبرى مع إيران، فهي ستكون حربا دولية ،على غرار التحالف الدولي ضد العراق، دون مشاركة إسرائيلية، لذا حمل الخطاب هذه الدلالة بقوله:" إن المعركة القريبة على البرنامج الذري الإيراني بقيادة أمريكية، وشراكة دول أخرى، هي ليست حرباً عنها مناص، فمن غيرها، سيزداد التوتر في منطقة الشرق الأوسط، إلى مستوى لا يطاق ،إن حصر عمليات الاغتيال في علماء الذرة، فيه رسالة مزدوجة إلى النظام الإيراني"(22)
إن منتج الخطاب يمارس سلطته إلى أبعد الحدود حتى وإن كان لا يمتلك هذه السلطة واقعيا وموضوعيا، ولكننا نتحدث عن سلطته داخل الخطاب واستحواذه عليه لينصب ذاته،جهة مقررة قادرة على ترسيم السيناريوهات للمواجهة وشكلها، مع أنه يدرك – حسب اعتقادنا- أن "فعالية التهديد تعتمد على سرعة تصديق الطرف الآخر، وكما أن التهديد لا يكون فعالا، ما لم يكن بإمكان المهدد أن يعيد ترتيب دوافعه أو ترتيب عرضها، بحيث يستطيع أن يبرهن أنه سيكون- لديه على نحو ارتجاعي- دافع للتنفيذ"( 23) ، في سياق " الفضاء الذي تتم فيه الأحداث الخطابية إلى واضحة النهار... يعني أننا نريد أن نبيح لأنفسنا،، وصف مجموع العلاقات داخله وخارجه".(24)
هنا نلاحظ كيف عمل الخطاب على الترويج لاقتراب الضربة العسكرية لإيران،لأنها حربا حتمية لإسرائيل. ولذلك يجعل الخطاب هذه الحتمية مرتكزا أساسيا في تصوراته القابلة للتحقق ،لأن إسرائيل لها مصلحة وجودية في إزالة التهديد قبل وقوعه،إلا أن هذه المعركة رغم حتميتها، فهي ليست إسرائيليه. بل، أميركية ودولية ضد طهران، وقد لا تكون، وربما قد تكون إسرائيل شريكا فيها،أو تقوم إسرائيل بشنها لوحدها ، ولكن استخدام الخطاب لملفوظ (القريبة)، تفجر طاقات الخوف، والفزع لدى الجمهور، فالحرب الدولية المرتقبة التي صاغها منتج الخطاب، لكي تثير" الانتباه، مما يتيح للفرد اكتشاف خصائص الأشياء، وتمييزها، ويسهل عليه عملية استرجاع الخبرات، المرتبطة بها، الأمر الذي يساعد في سهولة إدراكها(25)
الأمر الذي يفضي أيضا إلى مضاعفة مستويات الفزع الهستيري عند الجمهور، لأنه يدرك طبيعة مخاطرها، نظرا لامتلاكه تجارب سابقة مع الحرب الدولية على العراق، وفي الحرب على حزب الله، بالإضافة إلى خبراته المعرفية المتراكمة في هذا المجال.
الأمر الذي عمل على زيادة وتيرة الفزع الجماهيري،هو تأكيد الخطاب على" أن الأسرة الدولية..أي القوى العظمى الغربية والولايات المتحدة على رأسها،سلمت بمبادرة الحرب الإسرائيلية- ولأن إيران بتعبير اقتصاد السوق ثمن.
لقد خلقت الأسرة الدولية الظروف المثالية لعملية إسرائيلية، ضد إيران .والآن،على نتنياهو الوقوف عند كلمته، ويطلق طائرات القصف إلى مقاصدها في إيران."(26) ، فاللغة تزداد الظهور المباشر، بقصد تحقيق الوضوح والمصداقية، لخلق حالة من الترقب،والانتظار المصحوب بالترقب القلق، من خلال قول الخطاب" مشكلة إيران مشكلة حقيقية،ومن يقترح عدم حلها بهجوم إسرائيلي، يجب أن يقترح كيف يمكن حله."(27)
لذا، فإن الأحداث الخطابية في الخطابين السابقين، إذا ما أعيد تشكيلهما، فإنها تحيل إلى موضوع خطابي واحد، هو توجيه ضربة عسكرية إسرائيلية إلى المنشآت النووية الإيرانية، وهذا يجعل مهمة الخطاب في سياق إنتاجه ليست إدانة الشر"الذي يسكن كل ما هو موجود. بل أن يستشعر الخطر الذي يكمن في كل ما هو مألوف ، وأن يجعل كل ما هو راسخ، موضع إشكال".(28)، وذلك من أجل أن يحدث الخطاب تطفيفا في حالة الاتزان السيكولوجي الجمعي، ولكي يتمكن من زحزحة الرأي العام عن مواقفه، حتى يتسنى له، أن يتسلل عبر النتوءات، والشقوق النفسية، والفكرية ، من أجل تمرير مواقفه تجاه القضية المطروحة. لذلك، يمكننا ويمكن لأي دارس ، أن يكتشف دوافع تبني الخطاب لهذه الاستراتيجيات السيكولوجية.
مراجع الدراسة
1- عبد الهادي الشهري،استراتيجيات الخطاب،مقاربة،لغوية تداولية.دار الكتاب الجديد المتحدة،ط ،2004،ص222.
2- المعجم الوسيط
3- almasdarone.com/index.php/ar/2013-06-0
4- تشيلو روزنبرغ" فزع زائد" معاريف - 1/9/201
5- د.خليل أبو فرحة،الموسوعة النفسية،دار أسامة للنشر والتوزيع،عمان،ط1، 2000.ص80-81
6- د. حميد لحمداني، القراء وتوليد الدلالة،المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء،ط 1، 2003،ص70
7- مرجع سابق، تشيلو روزنبرغ" فزع زائد"
8- ميشيل فوكو، جينا لوجبا المعرفة،ترجمة أحمد الساطي وعبد السلام بعبد العالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، ط، 2،2008،ص،27
9- الدكتور ايتسيك، عنوان المقال: "صناعة الهستيريا" معاريف، الاثنين، 13/8/2012، الأيام، الثلاثاء14/8/2012
10- بيير بورديو،التلفزيون وآليات التلاعب بالعقوق،ترجمة ،درويش الحلوجي، دار كنعان للدراسات والنشر والخدمات الإعلامية،ط،1،2004،ص،50
11- رون تيرة، عنوان المقال" الهجوم الفوري أو التسليم بإيران نووية" صحيفة إسرائيل اليوم،31/8/2012.
12- مرجع سابق،امبرتو ايكو،ص33 .
13- د.محمد شومان،تحليل الخطاب الإعلامي،أطر نظرية ونماذج تطبيقية،الدار المصرية اللبنانية القاهرة،ط1،2007،ص 1
14- اليكس فيشمان، عنوان المقال" ستغلق النافذة في كانون الأول" يديعوت احرنوت، الحد، 12/8/2012، الحياة الجديدةالاثنين13/8/2012
15- عبد الهادي الشهري،استراتيجيات الخطاب ، مقاربة لغوية وتداولية،دار الكتاب الجديد المتحدة ،بيروت ، ط1،2004،ص، 222
16- الحياة الجديدة،الأربعاء،2012،القدس المحتلة،أ.ف.ب.
17- نداف ايال، عنوان المقال"أسبوع ملئ في إيران"معاريف،الجمعة،13/1/2012، الحياة الجديدة ، 14/1/2012
18- نداف ايال، عنوان المقال"أسبوع ملئ في إيران"معاريف،الجمعة،13/1/2012، الحياة الجديدة، 14/1/2012
19- د. رافع الزغلول،ود. عماد الزغلول،علم النفس المعرفي، الشروق،ص89
20- عينار شيلو، عنوان المقال" سنة طيبة... اعدوا الملاجئ" هارتس الأربعاء، 28/12/2011، الحياة الجديدة،الخميس29/12/2011،
21- أحمد زايد، صور من الخطاب الديني المعاصر،دار العين للنشر والتوزيع،2007، القاهرة،ص،21-22
22- أمير اون، عنوان المقال" رسالة مزدوجة إلى طهران" هارتس، الخميس،12/1/2012،الحياة الجديدة، الأربعاء ، 11/1/2012
23- توماس شيلينج، استرتيجية النزاع، نزهت طيب، وأكرم حمدان،الدار العربية للعلوم،ناشرون،الجزيرة للدراسات بيروت؟،ط1، 2010.ص 47.
24- ميشال فوكو،حفريات المعرفة، ترجمة سالم يفوت،المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء،المغرب، ط3،2005،ص28-29
25- مرجع سابق، د. رافع الزغلول،ود. عماد الزغلول،علم النفس المعرفي، الشروق.ص189
26- ألوف بن ،عنوان المقال، (الأميركيون والأوروبيون،يشجعون نتنياهو على ضرب إيران) هارتس ‘الاثنين، 13/8/2012،الأيام الثلاثاء ، 12/8/2012
27- أري شبيط،عنوان المقال( خطاب أوباما الذي لم يلقه بعد)هارتس، الخميس،2/8/2012،الحياة الجديدة، الأربعاء،1/8/2012
28- ميشال فوكو، نسابية الأخلاق،حوار مع هيبوبرت دويفوس،وبول رابينوف،ضمن كتابهما فوكو- مسيرة فلسفية(تعريب جورج أبي إصبع) ،بيروت، مركز الإنماء القومي،ص 204