سؤال الحضارة في كتابات زكي الميلاد/ بقلم أ.د عبد القادربوعرفة
سؤال الحضارة في كتابات
زكي الميلاد
قرأت كتاب "المسألة الحضارية" للمفكر والباحث السعودي د. زكي الميلاد، وهو كتاب ذو متن عميق وطرح حكيم، يحمل رؤي مستقبلية واعدة عن مستقبل الحضارات والشعوب في ظل فلسفة تعارف الحضارات التي يُنظر لها كبديل لمقولات الصدام.
حاول الباحث من خلال نصوصه أن يزيل الرؤية التاريخية المتشائمة التي تحاول أن تفسر طبيعة وبنية الحضارات وفق مقولات الصّدام والصراع، واتجه صوب النزعة التفاؤلية التي ترى بأن الحضارات لا تتصارع ولا تتصادم وإنما يجب أن تتعارف فيما بينها لتشكل أمما متجاورة ومتحاورة، فالصدام هو نزعة عرضية بينما التعارف مبدأ وسنة كونية، وتستطيع فكرة " التعارف" تحسين الصور النمطية عن الآخر: " ما يضاعف من أهمية مفهوم تعارف الحضارات وقيمته، في عالمنا المعاصر، هو ما تشتكي منه كل حضارة من أن الصورة المتشكلة عنها، في أذهان الأخرين، هي صورة ناقصة أو مشوهة أو شديدة السطحية." (ص 159)
ينطلق زكي الميلاد من روح القرآن الكريم وفلسفته المبنية على فكرة سامية تحويها الآية القرآنية الأتية: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.} سورة الحجرات: 13.
يتبين من خلال النّص القرآني أن الغاية من الاجتماع البشري بكل أنواعه هو التّعارف لا التّناكر، وذلك لأجل تحقيق واجب التّجاور والذي يقتضي بدوره حضور واجب التّحاور، فالحضارات لم توجد لتتصادم وتتصارع فيما بينها بل لتتلاقح تلاقحا يفضي إلى التكامل البشري، فليست هناك حضارة مكتملة وكاملة بل كل حضارة إلا ويعتريها النقص.
لا ينفي مبدأ التعارف مبدأ الدفع أو التدافع (الصدام، الصراع) ذلك أن التعارف ينشأ في كثير من الأحيان بعد التّدافع والتّصادم (المغول والعالم الإسلامي)، والفرق بين مفهوم التدافع القرآني ومفهوم الصراع هو أن التدافع يحمل صفة الشرعية في استعمال القوة لدفع الظلم والجور والشر بينما مفهوم الصراع لا يفرق بين طرفي الصراع.
نعتقد في هذا السياق بأن الحضارات المتعارفة قد تتآلف إن وجدت المسوغات والحوافز والأطر الإنسانية الضامنة لعدم التمييز والتعالي السلبي، كما أن التعارف قد يؤدي في بعض الأحيان إلى التناكر فيحدث تدافع بينهما، وهذه الازدواجية حالة سوية في حركة التاريخ.
انطلق زكي الميلاد من سؤال مهم ورئيس: اتجاه المستقبل إلى أين؟؟؟ هذا السؤال المهم فرضته التغيرات العالمية المتسارعة، والثورة العلمية المتلاحقة، والتصورات الاستراتيجية والعسكرية الرهيبة التي يصنعها الآخر (الغرب وغيره) بينما العالم العربي والإسلامي يسير خارج حركة التاريخ ويعيش على هامش الحضارة:" في ظل هذه الانتقالات والتحولات الكبرى التي تأثر بها العالم في ملامحه وقسماته، أين نحن في العالم العربي والإسلامي من كل ذلك ؟؟؟ وبأي رؤية ننظر إلى هذه التحولات والتغيرات المتسارعة والمتعاظمة في العالم؟؟ وأين موقعنا؟ ... وهل ندرك فعلا إلى أين نحن نسير؟ وماذا عن المستقبل الذي يقترب منا بسرعة، فهل نحن نقترب منه بالسّرعة نفسها؟ وكيف نبدع مستقبلنا ونكتشف طريق الوصول إليه؟" (ص 14)
يبدو أن هاجس زكي الميلاد تملك أغلب المفكرين المعاصرين، فالعالم يمر بمرحلة جد صعبة وحرجة، فمقولات الصدام تمهد لإبادة الإنسانية جمعاء تحت مبررات إيديولوجية وآخري عرقية ودينية. ويعتقد زكي الميلاد أن فكرة حوار الحضارات فكرة إنسانية تحمل أبعادا حضارية راقية، حيث تحاول أن ترسم مستقبلا للإنسان العالمي لأجل التّعايش والسّلام المشروط بقيم التّجاور والتّحاور وليس وفق منطق القوة والهيمنة.
يركز زكي الميلاد على أن النزاعات لا يمكن حلها بالقوة بل بالحوار الذي يتأسس على مواثيق وعقود تتوصل إليها الأمم المتعارفة لتجعلها كمرجعية عامة لحل تناكرها واختلافها، ويجب أن نضيف ضرورة أن يتصل مفهوم التعارف بمفهوم قرآني آخر وهو إصلاح ذات البين، فالتقاتل قد يكون بين طرفيين متعارفين ومتجاورين ومتآلفين لطغيان سمة التناكر في لحظة تاريخية ما، مما يوجب الإصلاح.


يحمل كتاب المسألة الحضارية رؤية استراتيجية مهمة تهم العالم بأسره، وتهم المسلمين خاصة، لأنها تحاول أن تعيد تجديد علاقة المسلم بالمستقبل والغد، لأن المستقبل تصنعه الأمم فقط التي تؤمن بوجودها ومصيرها ورسالتها، فما أحوجنا اليوم لتأسيس مراكز بحث حول " تعارف الحضارات".