مات أبي "محمد للمختار" ماتت أمي
رحمهما الله وغفر لهما،وأجزل مثوبتهما.اللهم اجزهما عنا أحسن ما جزيت والدا عن ولده.
توفي أبي في15 / 7 / 1426هـ .. وتوفيت أمي في 8 / 11 / 1428هـ،ولم أكتب عنهما .. باستثناء الهامش الذي كتبته تحت عنوان "في رثاء الأمهات".
لعلها المرة الأولى التي أكتب فيها كما أشتهي .. أكتب لنفسي .. تقريبا .. قد أنشر وقد لا أفعل.
أكتب متذكرا قصة ذلك البخيل الذي قال أنه لم يشرب قهوة على مزاجه أبدا :
حين أكون في البيت أضع قالبا من السكر،وحين أكون ضيفا،أضع ثلاثة قوالب .. مع أنني أحب القهوة بقالبين فقط!
أنا أيضا حين أكتب .. أي سابقا .. تحاصرني مجموعة من الأفكار .. خشية الإطالة .. العنوان .. محاولة عدم الخروج من موضوع إلى آخر .. إلخ.
لكنني هذه المرة أكتب .. فقط.
كنت مع الإخوان أو الإخوة .. نتحدث فروى أحدهم قصة ..ذكرتني بالأحنف بن قيس. فرويت لهم قصة قرأتها ذات تسكع في "تقويم".
كان زياد بن أبي سفيان يصطفي الأحنف بن قيس،ويقربه،فلما مات زياد،وولي ابنه عبيد الله،أبعد الأحنف،وذات زيارة للخليفة سيدنا معاوية رضي الله عنه .. كان الأحنف في الخلف،فلما لمحه معاوية،قربه،وأكرمه. وفي المجلس ،أخذ "الوفد المرافق"يمتدح عبيد الله،والأحنف صامت،فسأله معاوية عن سبب صمته فقال : إن تكلمتُ خالفتهم.
فقال معاوية : أشهدكم أنني قد عزلت عبيد الله. وفي جلسة تالية،أخذوا يتشاورون في من يخلف عبيد الله ،فاقترحوا بعض الأسماء،والأحنف صامت،فقال معاوية : ما تقول يا ابا بحر؟
قال : إن كنت موليا أحدا من أهل بيتك فول عبيد الله . قال : قد فعلت. ثم انفرد معاوية بعبيد الله وقال له : كيف فرطت في رجل عزلك وولاك وهو صامت!!!
ثم دار الحديث عن ألئك الرجال العظماء،القامات الشامخة .. الممتلئة حكمة وعطاءً ..إلخ.
فحدثتهم عن قصة من قصص التراث .. ذكر صاحبها أنه أخذ منها درسا هو ألا يقدر الإنسان بملابسه،ولا بطعامه. قال الرواي،حدثت فتنة بين طائفتين،فاجتمع الناس للصلح،فذكر لي والدي اسم رجل،ومكان سكنه،وطلب مني أن أذهب إليه وأخبره بالأمر وأن القوم في المسجد ينتظرونه،فذهبت إليه،وأخبرته ،فطلب من جاريته أن تغديه،فوضعت له طعاما قليلا،فأكله وحمد الله،ثم قال : انطلق بنا. فاستصغرته .. ونقص في عيني. سرنا،حتى دخلنا المسجد،فما مر بجماعة إلا تفرقت له ... ثم صلى تحية المسجد،وأتى الحلقة التي بها والدي ،فسال إلى ماذا انتهيتم؟قالوا : اصطلحوا على مائة من الإبل. قال : هي عليّ .. وانصرف.
فعرف الراوي،أن الرجال لا يقاسون بمأكلهم،ولا بملبسهم.

(( قلة قلية من البشر هي التي تعمل وفقا لقانون الفضيلة،ولكن هذه القلة هي فخر كل إنسان)) : علي عزت بيجوفيتش.

قد لا يتطابق قول "بيجوفيتش"مع ما نتحدث عنه ،إلا أن الجامع بينهما "فخر الإنسانية".تلك الفئة القليلة،لا يخلو منها زمان .. ولكنها غالبا،مختبئة لا يعرفها أحد .. أو لا يعرفها إلا "قلة"من الناس أيضا.
حكى لنا أحد الإخوان .. الدكتور أحمد عبود .. قصة حصلت لأحد "أهلنا"كان شابا عصاميا،يدرس ،ويعمل في "دار الأيتام" – في المدينة المنورة – وكان محافظا على مظهره ،ثم مرض،فزراه بعض زملائه،وكان يسكن – مستأجرا - في حي متواضع،فلما عاد إلى عمله،استدعاه المدير،وسأله عن سكنه،فأخبره،فسأله إن كانت لديه أرض،وكانت والدته – رحم الله والديّ ورحمها – قد اشترت أرضا،بالتقسيط – من فاضل آخر – فقال له المدير : انظر كم يكلف بناؤها؟. وكرر عليه السؤال مرات .. ومرات .. فسأل "معلما" { الاسم المعروف للأشخاص الذين كانوا يقومون بالبناء،وقد امتدحهم تشارلز كوريا ،في كتابه "الشكل الجديد لمدن العالم الثالث" ،فكتب يقول :
(في معظم أقطار آسيا،كان هناك مشرف الموقع Mistri ،وهو نجار وبناء بالحجر،له خبرة واسعة،يساعد في تصميم السكن وإنشائه. (..) يذهب المالك ومشرف الموقع إلى الموقع،وباستخدام عصاة،يرسمان على الأرض مخطط البيت الذي يريدان بناءه.يحصل بعض الجدل حول الموقع الأفضل للنوافذ وبيت الدرج،وغير ذلك،لكن هذه الطريقة ناجحة لأن الرجلين كليهما يشتركان في النظرة الجمالية نفسها للأشياء.إن كليهما على الجانب نفسه من الطاولة.هذا النوع من التعامل هو،بالضبط،ما أنتج روائع العمارة في القرون الماضية من كاتدرائية شارترCharters إلى قصور الحمراء وفاتح بور شكري.( إذا لم يستطع المعماري الآن أن يقنع زبونا فهل كان بإمكانه أن يعارض إمبراطورا مغوليا قبل 300 سنة وأن يحتفظ بحياته؟){ ص 111- 112 ((الشكل الجديد لمدن العالم الثالث) من تأليف / تشارلز كوريا،وترجمة الدكتور محمد بن حسين البراهيم،والكتاب من منشورات جامعة الملك سعود،سنة 1420 هـ ( 1999م).} }
فأخبره أن البناء يكلف (12000) ألفا،فسكت،حتى أعاد عليه المدير السؤال،فأخبره .. وبعد أيام قدم له ظرفا به المبلغ المذكور،وألح عليه .. بل هدد بعدم السلام عليه إذا لم يأخذه .. ويرده في الوقت ،والطريقة التي يريد ..فأخذه ..وعمر به .. ثم سدده.
ثم حكى آخر .. الدكتور ناجي حين ..قصة عن الأستاذ الدكتور "محمد بن حمود الدعجاني" – من عتيبة – والذي كان يجلس عند عميد الكلية التي يدرس بها .. ومرة سأله إن كان يعرف سيارة"جيب"مستعملة .. ففزع الرجل،لأن الأستاذ كان قد اشترى قريبا سيارة جديدة – موديل العام نفسه – فزع الرجل،خشية أن تكون السيارة قد ذهبت ضحية حادث .. لا قدر الله.
وبعد إلحاح .. أخبر الأستاذ .. أن جارا أو قريبا .. طلب منه السيارة ليسافر بها إلى "الرياض"فلما أعادها له رفض أخذها .. وهبها له .. ليبحث هو عن سيارة "مستعملة" يستعملها في مشاوريه!!
ليس هذا فقط،بل إن الدكتور "ناجي"يروي عنه كرما .. متأصلا .. فيه وفي ولده. . لم يمت حاتم الطائي قطعا.
حكيت لهم أيضا قصة أخرى .. عن رجل كان يعمل في الأحوال المدنية .. اسمه إسماعيل الأفغاني .. كان إذا أقرض أحدا .. يطلب منه تحديد الوقت الذي سيسدد فيه المبلغ .. فإن أعاده بعد الموعد المحدد لم يقبله منه !!
حدثني الروي،أنه حين "عُين"في الأحوال المدنية،جاء زميل وذكر لهم أنه اقترض (4000) من "إسماعيل"و حين تأخر عن الموعد،رفض أخذها،وطلب منهم الذهاب معه إلى بيت الرجل،قال فذهبت معه – مع آخرين – فلما شربنا الشاي .. دفع له الزميل المبلغ .. فرفض أخذه وقال :
والله ما آخدو .. عرفت قيمتك أربع آلاف .. مازدا تسع وسبيعن أحسن منك ..بخمس آلاف!!
عود على بدئ ..
كما قلت من قبل،لم أكتب عن والدي – رحم الله والدتي ورحمه – حرفا واحدا!! ربما لأنه لم يفعل ما فعل من أجل أن يكتب عنه .. وربما لأن جرحا نازفا لن يلتئم .. يلم بي كلما تذكرت أنني ضيعت فرصة كتابة "رحلته"إلى الحج... وقد طاف "شنقيط" قبل أن يلتقي بوالدتي .. وجدتي رحم الله الجميع ..{ عندما أقول طاف شنقيط،أتذكر "أمة"كانت تقيم بجوارنا،وكانت قد جاوزت المائة،تقريبا،فكان الوالد يصف لها بلادها،في أقصى البلاد ،فتقول ضاحكة : محمد أخبارك الهيه؟ فيرد : كنت انطلص أعظامي!! }
ثم توجه أهلي إلى الحج على الإبل .. وقد طال بهم الطريق،حيث أمضوا فترة طويلة عند أهلنا في "نيجيريا" – عند علم آخر من أعلام إكرام الضيوف : الداه ولد سيد إبراهيم - قطعوا تلك المسافات الشاسعة ... ركوبا على الإبل .. وعلى السيارات أحيانا .. ثم على الباخرة لقطع البحر الأحمر من السودان إلى جدة .. رحلة ثرية .. أضعتها .. ولكن عزائي .. قدر الله وما شاء فعل.
وصل "أهلي"إلى الحرمين تقريبا سنة 1365هـ،ومع أن والدي – رحم الله والدتي ورحمه – تلقى العلم في موريتانيا .. ولعله – إذا لم تخني الذاكرة – درس في محضرة "أهل العاقل : العلامة أحمد بن العاقل توفي سنة 1244هـ عن 90 سنة – كما رأيت في القسم الخاص بقبلية"الجكنيين" للشيخ المختار بن حامدو .. أن الوالد من أهل الحديث .. لم أسمع بذلك .. وإن كان الوالد كانت له ذاكرة "كمبيوترية"حسب تعبير الأستاذ محمد فاضل السادات – رحم الله الجميع – على كل حال .. لم تكن جهة "العلم" هي الجهة التي توجه لها والدي .. وإن كنت أعلم أنه دخل في نقاش حاد – وكان لا يسكت على وجهة نظره – مع الشيخ عبد العزيز بن صالح – رحم الله الجميع – القاضي وإمام الحرم النبوي الشريف – على صاحبه أفضل الصلاة وأتم التسليمات – ثم عرض عليه الشيخ "ابن صالح"العمل معه .. ولكنه اعتذر له..
نعم. لم يتوجه إلى العمل ولكنه توجه إلى شيئين :
عمل"بنكا" !! يودع أحدهم لديه نقودا .. فيأتي آخر فيقترضها .. فيأتي ثالث فيودع نقودا .. فيعطيها للأول إذا جاء يطلب نقوده .. إلخ. أليس هذا هو ما يقوم به البنك تقريبا؟
المهمة الثانية .. كان – رحم الله والدتي ورحمه – يعمل كهمزة وصل بين الأغنياء والمحتاجين.
قصة : ذكر لنا الأستاذ محمد فاضل السادات – في العزاء - أن أحد أهل الخير طلب من الوالد – رحم الله الجميع – أن يكتب له قائمة بأسماء المحتاجين ..ففعل،وسلمها للرجل .. وبعد فترة ..تقابلا،فسأله الوالد عن الأمر .. فقال له : الورقة فيها تكرار كثير .. فاطمة بنت عبد الله .. فاطمة بنت عبد الله .. فاطمة بنت عبد الله .. فاطمة بنت عبد الله .. فقال له الوالد ليس ثمة تكرار .. الأولى من قبيلة كذا .. ولديها أبناء من قبيلة كذا .. والثانية من قبيلة كذا .. ولديها كذا من الابناء .. إلخ.
أستطيع أن أقول أن الوالد قضى – في المتوسط – ستين سنة .. وهو يؤدي مهمتيه حتى تغير الناس .. أتذكر أن أحد الإخوان هاتفني طالبا مني أن أشهد لولده في"الأحوال المدنية" .. فجئته .. فأرسل معي السلام لوالدي .. وحين أبلغته السلام،بما حصل معي قال .. لي في ذمة ذلك الرجل ألف ريال من"سابع = عقيقة"ولده الذي شهدتُ له .. وكان قد جاوز العشرين !!
قضاها الرجل بعد ذلك.
قصة : عدة مرات وأنا أخرج من مسجد سيدنا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أقابل الشيخ الدكتور عبد الله بن الشيخ الأمين .. ومعه أشخاص فيقول لهم هذا ابن الشيخ محمد المختار .. وبعد أن يترحم عليه يقول .. الوالد كان لي"بنكا" .. ثم يعرض خدماته جزاه الله خيرا.
وقد ذكرني حديثه بقصة .. رواها لي الوالد .. فوجئ في إحدى الليالي بطرق شديد على الباب .. وحين فتحه،وجد أحد إخوانه،والذي رفض الدخول .. وذكر أن رجلا ذا مكانة من قبيلة بعيدة .. طلب منه "قرضا"وهو لا يُقرض أحدا – إلا الوالد - فهل تضمنه يا محمد؟
قال نعم.
وبعد أشهر.. قال له : الرجل لم يسدد فسدد يا محمد. . فوعده الوالد .. ثم أحضر له المبلغ.
وبعد أشهر قال له : الرجل لم يسدد فسدد يا محمد .. قال الوالد .. سددتك وتفصيل المبلغ كذا وكذا .. إلخ { ولن ترى مني ريالا،"ألين تشوف حفرت قظابتك"! : نقرة قفاك! .ثم وجد المبلغ .. داخل كتاب .. جاءت الصلاة فوضع الرجل المبلغ في الكتاب الذي كان بين يديه ..ثم أعاده إلى المكتبة ونسي الأمر.
كان المبلغ (5000) ريال،غزاني هاجس بعد ذلك .. وهو أن الوالد – رحم الله والدتي ورحمه - لم يخبرني إن كان الرجل قد سدد له المبلغ أم لا؟ فأخبرت أختي – حفظها الله – القصة .. وأن نبرئ ذمته .. احتياطا .. ففعلنا.
ولدينا "قاعدة"اتخذناها منذ أن توفي الوالد .. وبحوزتنا "دفتر"مليئ بالديون .. من طلب "السماح"سامحناه .. وهناك أشخاص طلبت أمي رحمها الله ورحم أبي .. أن نسقط ديونهم دون أن يطلبوا .. ففعلنا .. ومن لم يطلب "السماح"وتوفي "نسقط الدين من ذمته" ..
آخر شخص سدد .. كان العام قبل الماضي!!
قصة : هذه أعتقد أنها للشاب أكثر من كونها للوالد!!
كنت أصل رحم قريبة لنا .. فوجدت معها ولدها .. وكانت – جزاها الله خيرا – تكثر من مدح الوالد الوالدة – رحمهما الله – فأخبرتني أن الوالد أرسل نقودا لولدها .. لأن سيارته قديمة ..ليشتري أخرى .. وفي السنة التي توفي فها الوالد .. حج الشاب وأهدى ثوباها للوالد رحمه الله ورحم أمي.
لا أعتقد أن نقودا أيا كانت تكافئ "الحج"جزاه الله خيرا.
على كل حال .. يقال رب ضارة نافعة .. حين أزال مشروع توسعة الحرم منزلنا – في باب الكومة – وأخذ والدي التعويض .. سدد (180) أو (200) ألف كانت في ذمته من ديون لم تُقض.
حين توفي والدي .. قال عمي السيد أحمد عبد الصمد – رحم الله الجميع – اليوم تيتم الشناقطة .. نظرت للكلمة بعقلي "البارد"على أنها كلمة من التاريخ .. فقد تغير كل شيء .. ولكنني بعد ذلك . لا ليس سنة وفاة الوالد .. بل حتى اشهر مضين .. أقابل أشخاصا .. حين يرونني يكاد أحدهم أن يجهش بالبكاء .. كأنه سمع نعي الوالد قبل قليل .. لا قبل أحد عشر عاما!!
أمي .. وما أدراك ما فاطمة بنت الطلبة .. رحمها الله ورحم والدي .. أتذكر كلاما لأحد الأقرباء .. مفاده أو "ترجمته" أن الوالد والوالدة "وافق شن طبقة" !!
يكفي أن أذكر أنني منذ أن وعيت على هذه الدنيا،لا أتذكر أنني رايتها ترتدي "قرطا أو أسورة "من الذهب .. فضلا أن تحتفظ بها .. وحين حاولت بعض أخواتها الاحتيال على ذلك بإهدائها "ذهبا" و"حبسه"عليها – والحبس هو الاسم المستعمل عندنا للوقف – رفضت قائلة :
ما لا أستطيع أن أهبه ... لا أريده!!
سبحان الله .. ورثت أختي – حفظها الله – عنهما سخائهما .. أما أنا فسبحان من جعل هذه القرآن حمال أوجه .. حمال تفاسير .. أو لنقل .. سبحان من يخرج الميت من الحي!
هنا أتذكر قول أحد زرق العيون "نعترف بعيوبنا أمام الآخرين .. لينفوها عنا" إذا فهذا "فخ"يجب التنبه له!!
رب اغفر لي ولوالديّ رب ارحمهما كما ربياني صغيرا.

أبو أشرف : محمود بن محمد ولد المختار الشنقيطي

ملاحظة / ذكرت اسم الوالد لأحد الأشخاص فلم يعرفه .. فقلت له : رجل من تجكانت"برشقتو": طويل،كان يقرض الناس!! قال لي : لو قلت لي "محمد للمختار"لما جهلته!!