أبواب الأجر في الأيام العشر

إننا إذ نتفيّأ ظلال الأيام العشر من ذي الحجّة ، فتوطئة لحديثنا عنها وتمهيداً ، تعالوا نطوّف بوعي ودراية حول قوله تعالى لنبيّه موسى عليه السلام ( وذكّرهم بأيام الله إنّ في ذلك لآيات لكلّ صبّار شكور ) ( إبراهيم 5)
وكلّ الأيام أيام الله ، لكن المقصود هنا أن يذكرهم بأيام مخصوصة ، قد تكون أيام نعمة ومنحة ، أو أيام نقمة ومحنة .
وسرّ ختم الآية بقوله تعالى ( إنّ في ذلك لآيات لكلّ صبّار شكور ) أنّ هذه الأيام أيّامَ الله تعالى إن كانت أيام محنة وبؤس فذا يستدعي الصبر ، وإن كانت أيام منحة ونعمى فذا يستوجب الشكر .
بمعنى يُدال للناس في أيام فتكون لهم أيامَ ظفر ونصر وعز وتمكين ، تستخرج منهم الشكر ، ويُدال عليهم في أيام أخرى فتحفهم ظروف عصيبة تستدعي منهم الصبر والتجلّد والممانعة والمراغمة ، وعليه : فالصّبار الشكور هو الذي يدرك هذه الآيات ! ويدرك مغزى هذه الأيام فيلبس فيها لكلّ حالة لُبوسها إما نعيمها وإمّا بؤسها !
وليس الصبر هو احتمال الأذى والعذاب والاضطهاد وكفى ، لكن الصبر هو احتمال العذاب بلا تضعضع إيمانيّ ولا هزيمة روحيّة، واستمرار العزم على الخلاص منه والانفكاك عنه ، والاستعداد للوقوف في وجه الظلم والطغيان ، وإلا فما هو بصبر مشكور ولا محمود بل هو عندئذ محض ذل واستسلام !
إذا علم ذلك : فإنّ من أيام الله تعالى ، أيام المنحة والنعمة أيامَ العشر من ذي الحجّة ، هي أبواب للأجر ، فتحها الله تعالى ، يلجها كلّ مؤمن حريص ، فتلكم أيام عظيمة هي أفضل أيام الدّنيا أخرج البزار بسند حسن، وأبو يعلى بسند صحيح -كما قال المنذري في الترغيب والترهيب- عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل أيام الدنيا العشر -يعني عشر ذي الحجة-" قيل: ولا مثلهن في سبيل الله؟ قال: "ولا مثلهن في سبيل الله، إلا رجل عفر وجهه بالتراب".
فيها يوم عرفة الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: ((ما من يوم أكثرَ من أن يعتق الله فيه عبداً أو أمة من النار من يوم عرفة)) ( أخرجه مسلم في صحيحه ) خاتمتها يوم النحر الذي قال فيه النبي صلى الله عليه ( أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثمّ يوم القر ّ) رواه أحمد وأبو داود والحاكم وصححه الألباني..
ويوم القّر هو اليوم الذي يلي يوم النحر ، ويوم النحر هو يوم الحجّ الأكبر وهو يوم عيد الأضحى .
والأعمال الصالحة في هذه الأيام من تطوّع صلاة وصيام ونفقة وذكر وتسبيح وتحميد وتهليل واستغفاروغيرها من أنواع القربات لها شأن عظيم عند الله تعالى ، فقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم ((ما من أيام العمل الصالح فيهنّ أحبّ إلى الله من عشر ذي الحجّة)) قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله) خصّوه بالذكر لأنه ذروة سنام الإسلام ، ثم استثنى عليه الصلاة والسلام حالة مخصوصة فقال : ( إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء)) ( أخرجه البخاري في صحيحه ) يا له من موسم يُفتح للمتنافسين فاستبقوا الخيرات، وإياكم والتواني والتثاقلَ عن الطاعة ، فقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم: ((التؤدة في كلّ شيء خير إلا في عمل الآخرة)) رواه أبو داود والحاكم بل في عمل الآخرة الاستباق والمسارعة ، وقال سبحانه ( فاستبقوا الخيرات ) ( سور البقرة 148 )
ومن جهة أخرى : فإنّ من أيام المحنة ما يمر به أهل فلسطين وأهل الشام وأهل بلاد الرافدين وأهل اليمن المنكوبون المكروبون ، والحقّ أقول : إذا ما أردنا الاستئناس بتلك الحقيقة الإيمانيّة حقيقة أيام الله تعالى في واقعنا المعاصر ، فإنّ أيام أهل فلسطين القداسة وعراق العراقة وشام الشهامة ويمن اليُمْن والبركة هي أيام محنة ومنحة ؛ أيام محنة لأنه قد انطفأ فيها وهْج الحميّة الإيمانيّة والغيرة الإسلاميّة في نفوس كثير من حكّام أمّة العرب والإسلام ، وغدا لكلّ منهم منسك هم ناسكوه ، ومنهجٌ هم سالكوه ، ووجهة هو مولّيها لكن ليس شطر قضايا الشعوب المظلومة لرفع الضيم عنها ، فقد بات هذا لا يعنيها ، ففي هذا الميدان ميدان النصرة لكشف الغمّة عن المكروبين المكظومين لا تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا ! فقد أسلموا البلاد والعباد لنوائب الزمان ، ومطارق الظلم والطغيان ، في حين الانشغال بذا هوخيرما يقرّبهم إلى الله زلفى في غضون هذه الأيام !
وإنها لأيام منحة : لأنه قد أثبتت الوقائع في جنبات هذه البلاد أنّ لأجيالها قضيّة قدسية هم ناسكوها ، لها أحرارُها ممّن تقاسموا بالله أن لا يَغفُلوا عنها أو يُغفِلوها ، وتعاهدوا على أن لا يفرّطوا في شيء منها أو يضيّعوها ! بل يظلّون ينسجون مواقفهم على منوال نصرتها ومؤازرتها ، ورفعة شأنها وعلوّ منارتها ، وتراهم مضوْا يتوارثون هذا الحمل الثقيل الجليل ،كلّما قضى نحبه جيل تلقّف الرّاية من بعده رعيل ، فبات هذا المسلك ، مسلكُ نصرة البلاد والعباد ورفع الضيم عنهم ميراثاً إيمانيّاً تتوارثه العقول النيّرة ، وتطوّف حوله المشاعر الخيّرة فما تزيد الأيام هذا الميراثَ إلا توهّجاً حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا ( وإلى الله ترجع الأمور ) آل عمران 109 .