من الأدب الرمزي الحديث

قصة قصيرة: (24) غاليــــة المهــــــر

قحطـان فؤاد الخطيب / العراق

أفترض القاص (واتـــا)، الجمعية الدولية للغويين والمترجمين العرب، صبية أسطورية الجمال، تبهر الناظرين. كما أعتبر أباها، مؤسسها، (شيخ الناهضين)، عقبة في طريق عقد قران العريسين لمهره الخيالي المعجز. فلجأ إلى حكيم الأسرة،
(د. ألليثي)، و فاعل الخير، (محمد)، علهما يؤثران على قاضية المحكمة الشرعية، (هالة)،
صاحبة المعلقة الثامنة، إن لم يخطئ حدسي، كما بان من سيرتها الذاتية الشائقة، لتسجيل سبق، يخلدها بين المعلقات، ومن هنا نشب الصراع .................!


عقود مضت ، كلمح البصر وأنا أبحث عنكِِ ليل نهار، في بطون الموسوعات والكتب والمجلات والكراريس والصحف، واسأل الجيران، فلا أجد خيالك البتة. أقطع المسافات براً وجواً وبحراً، وأقفز فوق الدول والقارات وكأنني سوبرمان، أناجي القمر قائلاً :
" هل رأيت الحورية، (واتـــا) أيها البدر المنير ؟ "
يجيبني، كمّن أستلذ بهذا السؤال المطروق قائلاً :
" خاطب النجوم. فعندها الخبر اليقين. "
قلت له بتواضع " أنا لا أعرف سوى نجمة واحدة فقط، تدعى (راوية)، وهي بخلاف زميلاتها، تعيش فوق اليابسة! "
أجابني وقد انفرجت أساريره غبطةً.
" إنها كاتمة الأسرار. بح لها بقصدك وهي، كما أعتقد، تسهل مهمتك . "
مضت الأيام والأسابيع والشهور والعقود وكأنها مجرد ثوان، وقد ارقني الانتظار، وقضّت مضاجعي الهواجس. أمسيت حبيس الحلم اللذيذ : أنام على وقعه وأفيق. اختلط ليلي بنهاري، وصبحي بمسائي. أنين ......... شرود ...... ذهول ........ ترقب.......توقع............. .

طوقتني مئات المصطلحات السيكولوجية محاولة التعبير عن مكنوناتي، وأنا تائه أبحث عن حوائي في فردوسي المفقود!

" لم أعاني من هذه المواقف طيلة حياتي قط ". همست مع نفسي وأنا مشتت الأفكار. " آه، ربما السبب حب صبياني عابر، لا يرقى إلى مستوى العروسة. يبدو أنني أبحث عن المجهول في ليل حالك
الظلام ".


" ولكن، مهلاً ........ لم لا أتصل بحكيم الأسرة عله يداويني ويخفف عني ؟ "كان يبدو وكأن الموضوع قد راق لي. وسعيت لأخذه على محمل الجد، مدبجاً كلامي بأفكار الشاعر الإنكليزي شكسبير حين قال على لسان أمير المغرب وهو يخاطب الحسناء ، بورشيا بما معناه :
" سيدتي، لا تدعي لون جلدي يحول دون زواجنا، فتحت الجلد
هناك .........! "


ثبط عزمي حكيم الأسرة حين قال :
" مهرها غالٍ. وهي لا تزال غضة، بعمر الورود. وسيُحتفل بعيد ميلادها الــ ...... بعد أيام. فكيف ترضى بك زوجاً ؟ "
" على سنة الله ورسوله، يا حكيم. نحن نعيش عصر العولمة. فكل المفاهيم مقلوبة رأساً على عقب. ألا يموت يومياً المئات من الأطفال والنساء والشيوخ والطاعنين في السن الأبرياء ؟ ألا ترى المساجد والكنائس والأديرة ودور العبادة مستباحة في كل مكان ؟ إنها مفاهيم الألفية الثالثة. أنا لا أطلب سوى تسليط الضوء على هدفي كي يقتنع أبوها فقط، وعلي التفاصيل".
عدت خائب الأمل، محبطاً وكئيباً، مردداً طول الوقت
(واتــا) ....، غاليتي (واتــا). يجب أن أفوز بها.

اضطررت إلى مفاتحة قارئي الفنجان، وعرجت على الدراويش والعرافين وقراء الكف. لقد لمسوا اضطراب نفسيتي، وتبلبل أفكاري، إذ تعاطفوا مع مأساتي. هذا يقول: " أبشر ...... أنا أرى طيراً أبيض يحلق في أعلى فنجانك. أنظر إليه إنه يصرخ ....... جائزة نوبل للأدب ستكون لك هذه الأيام ؟؟؟!!! "وذاك يقول، وقد التقط حاجة مني كي تبات معه طول الليل. وإذ عدت إليه فإذا به يقول: " أفلاطون زعلان عليك. لماذا لا تبشر بالحب الأفلاطوني بين البشر؟!" وثالث يقول: "إن الحروف الأربعة، يا سيدي، (و) (أ) (ت) (أ) هي ليست أسم حورية، بل أعمق وأعمق وأعمق من ذلك بكثير. إنها ليست مجرد أربعة حروف متراصة. إنها عمق ..... إنها جذور طاعنة في باطن الأرض. لا أستطيع البوح لك بأكثر . إنها أكبر من أن تتصور ! "

عدت إلى منزلي مترنحاً ومتأملاً أقوال هذا النفر أو ذاك حتى جاء صوت طرق على الباب، ليضع حداً لشرودي وضياعي. فإذا به أديب موصلي شاب. جمعتني وإياه طاولة الترجمة. كان أستاذاً جامعياً
ألمعياً، يعشق المتابعة والبحث. لا يكل ولا يمل. يقرأ ليل نهار. يتفاعل مع الآخرين، ليس عبر شبكة الإنترنيت فحسب بل على
أرض الواقع كذلك.

ومن محياه تدرك بأنه أوربي السحنة، ومن خلال محاورته تنساب الرقة ودماثة الخلق والأصالة. وحسبك أنه ينتقي مفرداته بدقة قبل النطق بها. كان شفافاً متعاوناً اجتماعياً، إضافة إلى نبوغه في فن الترجمة وتدريس اختبار التوفل. وكلي يقين بأن جامعته فخورة بكونه أحد كوادرها.
لقد جمعتني به محض الصدف ...... جالسته دقائق معدودة فقط ، لكنني خرجت بعدها بسيل جارف من علامات الاستفهام !
ترى .......
كيف تمكن وهو بهذا العمر اليافع، الإلمام بكل هذا الكم من الأدب والترجمة واللغة ؟ إذن، لابد أن وراء نجاحه سراً.
لقد كان كالبلسم على جرحي البليغ. وقد احتوى معاناتي وأعطاني على الفور العلاج: باختصار، أعطاني عنوان الغالية، ووضع حداً للأرق، واعداً إياي بالحديث مع والدها كي يقلل المهر إن لم نقل يلغه.

إن أباها، لاشك، يدرك بأن البشرية تعوم على 30% من اليابسة مقارنة بوجود 70% من الماء. إذن، نظرة واحدة، ونخرج بنتيجة أن الإنسانية في أية لحظة معرضة للفناء لأسباب طبيعية. وهذه حقيقة علمية لا يجادل فيها اثنان. فكيف إذا كثف الإنسان جهوده لتدمير الإنسان، وهو يتباهى بأنه من أبناء الألفية الثالثة ؟

فوجئت وصعقت بهذه الثورة المعلوماتية والسرعة الخارقة للاتصالات، وسط هذا الخضم المتلاطم من المتغيرات المذهلة ليس في الحقائق والثوابت فحسب بل حتى في القيم والمعتقدات !

لقد أدركت بأن القطار قد فاتني، وأني طويت بمحض إرادتي عقوداً من حياتي حافياً أمشي بحثاً عن السراب. إلا أن (محمد)، وكأن القدر قد بعثه في الوقت المناسب ليضع النقاط على الحروف وليوجه المسار نحو الهدف المقدس المنشود بشكل يتجانس مع نبضات قلب
(شيخ الناهضين) وتطلعات أفراد أسرته المستميتين على التمسك بالهوية قبل أن يجرفها تيار العولمة البغيض.


إذن ، نجا الغريق، في اللحظة الأخيرة، من الغرق بمعجزة. وعادت الابتسامات إلى المُحيا. ونسى الكاتب حتى تاريخ ميلاده حيث قال:
" وها أنا ذا ولدت من جديد ..... تالله، لست نادماً على ما مضى من سالف الأيـــــــــام."