قصة قصيرة: (16) خواطـــــــــر مبعثرة !
قحطـان فؤاد الخطيب / العراق

)أ) من تداعيات الحروب

ويلات الحروب وتداعياتها تعصف بالملايين هنــا وهناك دون هوادة. تأتي على الأخضـر واليابس، كما تأتي على الحرث والنســـل، قالبة الأمور عاليها سافلها، آتية بمفاهيم ما كنا لنسـمع عنها لا في قديم الزمان ولا حديثه، كأننا نعيش أضغاث أحلام في عصور ما قبل التأريخ!

صور وأفكار منوعة، أعمق مما يمكن احتواءها، مســـتلة من أرض الواقع، هنا وهناك، معروضة للبيع بالمجان، تصلح لعوالم سيناريو القص والروايات. ومع هذا يهيم القاصون في دياجير الوهم والخيال بحثا عن حبكات روائية، تلفت نظر المتصفحين. فلو كنت قاصا لآثرت الحديث عن هذا المانشيت السقيم على سبيل المثال لا الحصر:

) ب) عندما يتوقف نبض الكهرباء !


أبرياء كثيرون يعثرون بالمواقد، إن كان فيها ثمة محروقات، وتحترق أجسادهم الغضة في بحر ثوان تاركة فيها تشوهات بليغة، تلازمهم لحين انتقالهم إلى الرفيق الأعلى......، حوامل، مرضى، مسنون، شيوخ، معوقون يتدحرجون من على السلالم، مضرجين بالدماء، بعظام مكسرة، ونفوس وجلة محطمة، لاعنين حظهم العاثر لتزامن مرورهم مع فخ انقطاع التيار الكهربائي .

في الثلاجات أدوية تفسد، وأطعمة تتلف، وسوائل ســــرعان ما تغدو سموما، ومقتنيات منزلية سريعة العطب، ولحوم بيضاء وحمراء وبكافة ألوان طيف الخطــر المحدق: البرتقالي والأحمر والأخضر، تتسابق نحو التفسخ السريع….. يجلس المرء القرفصاء في العتمة متأقلما، سـارحا، هائما، مذهولا، والأنين قد أقض مضجعه متسائلا:
"أما لهذا الليل من انبلاج ؟"
في الشـوارع المظلمة تهاجمك الكلاب المنفلتة من عقالها بغتة، تاركة فيك ما لا تحمد عقباه من هواجس ومخاوف وجروح، وتنتظرك حفر الدروب التي نخرتها القذائف العمياء، وكأن لسان حالها يقول :
"أيــــــــــــــن المفــــــــــــــــــر ؟ "

وفي صالات العمليات الجراحية، يندهش الجراح وهو يرى مريضه الراقد ، وقد أفلت من قبضة التخدير بمعجزة، مطلقا صرخة مدوية :
"هذا جناه أبي علي وما جنيت على احد."

صور أليمة تدمع العين، وتفطر القلب لأن جل دافعي الثمن هم أبرياء، لا ناقة لهم بكل ما جرى ويجري ولا جمل!

مناظر تبتر الأوردة والشرايين، وتشل عمل الذاكرة كي لا تؤدي وظائفهـا . لم يسلم أحد من تداعيات هذه المشاهد المفزعة مهما امتلك من مواصفات الصمود. فقد أضحت جزءا من سلوكنا الروتيني المعتاد بحيث غدونا نحس بأن عودة الكهرباء هي ضيف يفسد علينا خلوتنا!!!

) ج) مولد ابن الجيران !

دخل (س) غرفته والابتسامة تعلو محياه، فيما تراقصت علامات الاستفهام بكثافة في ذاكرته، وكأنها تواقة لان تبوح بسر دفين أينع قطافه: غدا، آخر موعد، تتم فيه مناقشة أطروحتي بعد إسدال الستار على أشهر من السهر والمتابعة والمعاناة.

أمام اللجنة سأكون خطيبا مفوها، محاورا لبقا يجيد، بمهـــارة فائقة، انتزاع إعجاب الحاضرين ....... بعدها سأكون ضمن الكادر التدريسي في كلية ...................... فكل شيء جاهز الآن .
أجري التدقيق اللغوي والعلمي عليها، وتم ضبط الهوامش والترقيم وكل ما يتعلق بالـ . finishing touches وجيء بعدة النشر من ورق وأغلفة ولولبيات مطاطية يابانية الصنع وباقي المستلزمات الضرورية .
"إذن،" ردد مع نفسه، "الحاسوب جاهز ليلفظ صفحات الأطروحة الـ 217مـع الرسوم والمخططات والصور. لا أحتاج سوى الضغط على مفتاح print وينتهي كل شيء. ستأتي القهوة والملحقات ..... أنا في ليلة العيد. أحمدك يا رب. بعد سويعات ستغدق علي الهدايا والتهاني وووووووووو "...
وأخيرا أزف وقت الضغط على المفتاح بيدين مرتجفتين من فرط الفرح. وشاء حظه التعيس أن يتزامن ذلك مع انطفاء غير متوقع للتيار الكهربائي آنئذ. هنا قامت الدنيا ولم تقعد. ضرب كفا بكف، صارخا، لاعنا ، مغلوبا على أمره مناجيا:

"رباه ............... ! ما هذا ؟ لقد ولى التيار الكهربائي الأدبار ! الساعة الآن التاسعة مساء .حظر التجوال سار الآن. ماذا أفعل ؟ وأين أذهب ؟"

بدأ يهذي ويتفوه بكلمات سوقية كأنه أمي لا يقرأ ولا يكتب من وطأة الانفعال ! عم السكون المكان. وفجأة سمع دوي سقوط كؤوس على الأرض وهي تتكسر. وساوره الظن أن زوجته أحضرت له القهوة والملحقات. الظلام يلف المشهد المأساوي. فجأة، يسمع صراخا آتيا من الداخل. أدرك بأن الزوجة عثرت، لا محالة، بســـبب الظلام. اكتمـل المنظـر البانورامي. فامتزج الصوتان المنكوبان، وطفقت عيناه تدمعان، كأنها قطرات مطر ربيعي، تدحرجت على شاربه، جاعلة منه طفلا صغيرا انتزعت منه مقتنياته قسرا .... أطلق هو الآخر صرخة، وكأنها حشرجة الموت، يستنجد بمن يسمع صوته، في الأروقة والحجرات، أن ينير المكان فورا .

بقدرة قادر، هرع حفيده نحوه، في خضم الظلام الدامس، مشــعلا عود ثقاب. مضى الاثنـان، بصعوبة، نحو الفانوس وأشعلاه. فبان الدمع وقد طلا شاربه. وتملكته حالة هستيرية لا فكاك منها، ضاربا أخماسا بأسداس. ثم التفت حفيده إليه مهدئا من روعه قائلا :
"لماذا لا نجلب مولد جارنا، (ع) ونحل كل الإشكال ؟"
"ولكن الوقت، يا حفيدي، ليس معنا الآن. حضر التجوال قائم، ولا مبرر للمجازفة. أنت تعلم أن إطلاق النار هنا على أي مخالف للتعليمات أسهل بكثير من شرب فنجان قهوة ."
"أنا، يا جدي العزيز، لا أهتم. المهم أننا جئنا إليك لنساعدك ليلة مناقشتك أطروحتك. وأمامك ساعات محدودة لإنجاز المهمة."
مضى الحفيد بسرعة البرق إلى دار الجيران ثم طرق الباب مع عبارة : "أنا حفيد ................ أريد المولد على الفور ".
أجابه صوت من الداخل، وهو يرتعش من هول المفاجأة .
"لك ما أردت. مهلا ."
كان مشهدا دراميا يتعذر وصفه بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. وبعد مناورات بطولية تفوق التصور، جيء له بها بمعاونة الجار، سالمة لبيته ، مع توصية بتعبئتها بالوقود وتغير المقبس الكهربائي.

وصل المولد, وتفرغ الكل لتشغيله. مضت 90 دقيقة كأنها
90سنة . ثم بدأ تشغيله وسط زغاريد أدهشت الجيران. توزع
النور في كل مكان. وتجمهر الكل حول الحاسوب وهم يرددون
التعاويذ والبسملة كي يعيد البسمة إلى شفاههم، ويمكن صاحب
الأطروحة من انجاز أطروحته قبل طلوع الخيط الأول للفجر.
فماذا كانت النتيجة ؟

تلف كامل لجميع الملفات دون استثناء.
وهنا انطلقت مراسيم اللطم على الخدود، والبكاء على الحليب المسكوب ،
والعويل تحت أنوار.................................مولد ابن الجيران !!!