قصة قصيرة: (14) زلزال صامت !
قحطـان فؤاد الخطيب / العراق

لا أحد يجهل موقع القصر الفاره للحرفي الميسور (ع) في أرقى الأحياء بالمدينة. كما لا يجهل أحد موقع مطبعته العملاقة وسط المدينة كمعلم بارز. كانت ولازالت، بحق، أوسع المطابـع في عموم البلاد قاطبة، باستثناء المطابع الحكومية. يتقاطر عليها الزبائن من كل حدب وصوب طمعا بالجودة التي لا تضاهيها مطبعة أخرى، ودقة بالمواعيد التي تنفرد بها.
هذا ناهيك عن أن مالكها من عشاق التطوير والتغيير، بحيث لا يهمه ركوب البحر بحثا عن font واحد جديد ... ، ولا يمل السؤال أو الاستفسار ما دام يصب في خانة الإبداع والتمييز والشهرة والكسب الحلال.
إذن، المطبعة هي عرينه، ومصدر رزقه، والتي مافتئت تدر عليه الآلاف تلو الآلاف من الدنانير بشكل يومي روتيني لا يتطلب كبير جهد .

فجأة ، تزامن وجوده، أثناء رحلة عمل لأحدى دول الجوار، في أحد المواقع التجارية الخاصة بالمطابع. وقع بصره على يافطة كبيرة تفيد بما نصه (لدينا أحدث مطبعة ألمانية غير منصوبة للبيع لقاء مبلغ...... يورو نقدا كمقدمة، ومبلغ...... يورو بعد إتمام التركيب في بلد المشتري. المراجعة بواسطة هاتف(.......).
سال لعابه للعرض الفريد، وهرول نحو مكتب البيع أملا أن لا يسبقه
أحد. فالصفقة مغرية تتطلب سرعة متناهية. قبل الدخول فيها، نقر على رقم الهاتف الذي كان مثبتا على اليافطة كي يطمئن أنه في المكان الصحيح. وهذا ما حصل!
دخل المكتب الفخم مبهورا بديكوراته الساحرة، وبأنواره الساطعة. كان لا يجيد لغة بلد البائع، فاستأجر مترجمـــا يصاحبه حتى نهاية وضع الأحرف الأولى على العقد، وعلى نفقته الخاصة، لأن الصفقة بالملايين!
جرت المباحثات بشكل ودي لفتت نظر الحرفي (ع) . ثم أغدق عليه الطعام والشراب بحفاوة لا تضاهيها حفاوة إلا حفاوة علية القوم. ودنا الليل فإذا بهم يحجزون له سويتا بأفخم الفنادق. ثم تفاهموا على أدق التفاصيل. وتوصلوا إلى أن الحاجة الفعلية للشراء هي ست مطابع بدل واحدة. ولأن ما كان بحوزته يزيد قليلا عن ثلث المبلغ الكلي للصفقة، فقد سلمهم ما استقر بجيبه من نقود، فيما وعدهم بتحويل باقي المبلغ حال عودته إلى الوطن عن طريق المصارف.
ثم أردفوا قائلين "إننا نحرم التعامل مع المصارف. لكننا سنبعث إليك لاحقا السيد (ص) ، وهو متمرس بشــؤون التجـارة الخارجية وتحويل الأموال ! "
ولأنه اندمج مع الصفقة بكل جوارحه، نسي العودة إلى الفندق في الصباح التالي لتسديد فاتورته، ومضى إلى المطار متجها إلى مدينته، وفكره فريسة الحسابات: كيف يسدد الفواتير ! قفز إلى ذهنه بيع المطبعة ثم بيع الدار، ومع هذا فالحساب لا يتطابق مع أرض الواقع. هنا، ساورته فكرة إشراك إخوانه بميدان الاستثمار لقاء أرباح خيالية!
وصل المدينة، ودعا إخوته إلى مائدة عشاء مستديرة . وطرح موضوع المطابع الألمانية الست فأعجبوا بالفكرة لأنها سوف تنافس كل المطابع وحتى الحكومية منها. واتفقوا على بيع دورهم الثلاثة كي يغطوا مبلغ الصفقة، فيما سيكون مكتب عقار (....) هو المرشح للبيع لأنه الأسرع في تنفيذ مهام كتلك المطروحة، على أن يسلموا كل ما يتراكم لديهم من أموال أولا بأول إلى السيد (ص) في بحر أيام أقل من عدد أصابع اليد حال وصوله، بغية الإسراع في شحن المطابع.
نفذت الخطة بحذافيرها بلمح البصر وكان الموضوع سيناريو فلم يسهل فيه الحك والشطب والتعديل بجرة قلم . ثم وصل السيد (ص) وأخذ المقسوم وتوارى عن الأنظار فجأة كأنه ارتدى طاقية إخفاء. ساورهم الشك أن تكون عملية خطف وراء كل ذلك لاسيما أن المبلـغ المتحصل كان بمراتب عشرية عديدة ! سجلوا محضرا في مركز شرطة ، ثم شمروا عن سواعدهم بحثا عنه هنا وهناك دون جدوى.
مرت ألثوان والدقائق ثقيلة مملة كئيبة، متصلين هاتفيا بمكتب البيع خارج البلاد تارة ولكن لا رد مطلقـا، ومتشبثين بالمترجم تـارة أخرى بيد أنه لا رد أيضا. واجتمع الأخوة الشركاء بمعية خبراء غرفة التجارة، أصدقاء لهم، والذين استفسروا عن صحة صدور المستمسكات التجارية لدى الجهة ذات العلاقة في بلد البيع فجاء الرد عبر الهاتف كالأتي:
"
الشركة وهمية، تعيش على النصب والاحتيال، ولا قيد تجاري لها لدينا إطلاقا."
إذن ، وقع زلزال صامت ، جاء على الأخضر واليابس. هنا، تبددت الأحلام والطموحات. وعم الذهول، ولم تنطق الأفواه ببنت شفة. وغلف المكان ندم يدمع العيون، ويوجع القلوب ، ولات ساعة مندم ! بجرة قلم خسروا كل شيء .......غامروا دون تبصر بمصيرهم ومصير أسرهم........، هو الجشع ليس غير. هو الجهل المطبق وحسن النية التي ليس لها موقع من الإعراب في عالم التجارة. أضحوا في وضع بائس لا يحسدون عليه!
مضت الأيام والأمور تسير من سيء إلى أسوا ..... هذا يلوم هذا.... وذاك يعض إصبع الندم وثالث يقول "لقد أعميت أبصارنا آنذاك !" . مات منهم من مات بجلطة دماغية مفاجئة ...، وتفككت الأسر .. ، وتصدعت العلاقات، وتشردت النسوة والأولاد .......، ونزل الكل إلى الشارع يتسول ....فيما ذهب (ع) إلى المطبعة المباعة طالبا العمل فيها كعامل، إلا أن طلبه رفض !
وهكذا طفقت عيناه تدمعان متمتما مع نفسه:
"أرحموا عزيز قوم ذل ! "