قصة قصيرة: (13) قل وداعا ولا تقل إلى اللقـــــــاء !
قحطـان فؤاد الخطيب / العراق
(أ)
اعتصر قلب (نبال) ألما ومرارة حينما بارح فارس أحلامها منزلها دون ترديد عبارتــــه المألوفة: (إلى اللقاء) ، تاركـا إياها فريســـة الهواجــــــــس، وطعمـــــا للتأويـــــــــلات. مجرد عبارة لم تطلقها شفتاه أحالتهــــا إلى أسيرة للتشــاؤم، في خضم الوساوس التي
احتوتها من الجهات الأربـــع بإحكـــــــام !

نعتت يومهــا بالأربعــاء الكئيب، وكأنهـا عرفت ثمة ما يخبأه لها الغـــــد من مصائب سلفــــا بصورة دراماتيكية. ففي الصباح
نعت أصوات نحيب الجيـــران مصـرع فتـى السبعة عشــر ربيعـــا برصاصـــــة طائشـة عميـاء فقأت عينـه اليمنى بوحشية قاتلـة ،
واخترقت رأسـه الصغير المشبع بكــــــــل الطموحات والآمــال الكبيرة ، محيلــــــة إيــاه إلــى جثــة هامــدة في بحــر ثوان .

لقد كان وحيد أسرتـــه، على رأس أربـــع بنات، والذي فيه وضعت أملها المنشود، كونه فتى اجتمعت فيه كل الخصال الحميدة، المحببــة إلـى الله وعبـــاده: كله بر وورع وتقوى ومثالية..... ، تحلف نسوة الزقاق برأسـه حين يختلفن في أمر ما. كان أشبه بالقديس، إذ راق لنبال ذات يوم، خطيبا لولا صغر سنه ! فيما شـغل حيزا غير محدود في مخيلتهـــا، كابن جار لا يمل، لنقاء سريرته.

حقا، لقد استشهد، بيد أنــه لم يمت، تاركا خلفه شريطا لا ينتهـي من الآهـــات والحســرات الممزوجة بلوعــة تفطر الفؤاد، وتحطــم الأعصاب، وتدمع العيون.
والآن، تفاقم انفعال نبال لغياب سـر التواصل الحميم بينهمـــا جاء عن لسانـه:
"(إلى اللقـــــــاء)...............لمــــاذا ؟"
"هل كان يوحي أنهما سوف لن يلتقيا ؟" هزت المسكينة رأسها بهستيرية لا تحسد عليها وأردفت متسائلة بعصبية مفرطة :
"لماذا لم يتفوه بها ؟ وماذا قصد ؟"
ثم طفقت تواســي نفسها قائلة:
"ربما يكــون مشغول الذهن، أو ربما أزعجـه صدى اللطم على الخدود ، في الحي المنكوب، والنحيب الكئيب......................... ربما "!

تعوذت من الشيطـــان، وشرعـــــت تقـــــرأ التعاويـــــذ علها تعيد لها
سابق طمأنينتها، وتفـــــــك الأســــــر عن بسمتهــــــــــــا ."

صحيح أن جســـــدها كان يمارس وظائفـه علــى ما يـرام، بصـــــورة طبيعية، جيئة وذهابا، إلا أن فكــرها مافتئ غارقـــــا في معادلات حسابية معقدة لم يوفق بعـــد في حل رموزهــــا، وفـــك الاشــتباك بينها :
"كيف تنسى مصرع ابن الجيـــــران ، وكيف تفسر زلة لسـان نصفها الآخـــــــــر! ؟ "

استجمعت كـــــل طاقتهــــا، واستنفرت كل حواسها، بحثـا عن مخـرج من ورطتها، يعيد لها التوازن المفقود.

وما هي ســوى دقائق تعد بعدد أصابع اليد حتى أقفلت راجعة إلــــى منزل جدتهــــا، ذي الحديقــة الغنـــاء، بأشجــــارها الباســــــــقة , وورودها النادرة، ونباتاتهــــــــــا دائمــــــــة الاخضـــــــــــرار .هناك، الهدوء تام، والسكينة باسطة جناحيها باسترخاء، حيث لا منغصـــات كما هو رائج
في منزل والديها ، ولا نوائب!

ذهلت الجدة لعودة حفيدتها على جناح السرعة. وتمنت أن لا يكون قد حدث ما لا تحمــد عقباه. ظلت عيناهــــا شاخصتين في احتواء ما مرسوم على وجه الأخيـــــــرة التي لم تنبس شفتاها بكلمة، حتى قطــــــع المشهد طرق على الباب خاله حدس نبال السائق، إذ تعودت على مثـــــــــل هـــــذا السلوك منه. لعل حدسهــــا خاب هذه المرة، إذ كان الطارق يافعا مبعوثا من قبــــل أمه كي ينذر الحاجـــة، أم سارة، بأن هناك
شائعة بغيضة مفادها: أن البناية التي تبعــــد أمتارا عن منزلهــــا مرشحـة للتفجيـر فــي أية لحظة ! فيما هناك مركبة مفخخة تحوم حول المكــــان، وعليها الاحتراز وفتح الأبواب والنوافـــــــذ، وإلا فإن المجهــــول طبعا إن لم نقل الفنــــاء تحديدا هو بانتظارها !
انتشــــــر الخبـــــر أسرع من البرق، فيمــا دبت الحركــــة فـــــي الحي البائس، على غيــر عادتهــا في ساعات القيلولة تلك، كحركـــة النمــــل قبل دنو موسم السبات. الكــــل سكــارى، ولكنهــــم غيــــر سكــــارى، يجهلــون ما ستؤول إليـــــه الأمــــور. اختلــــط الحابــل بالنابـــل، والجد بالهــــزل، وأضحــــى الموت قاب قوسين أو أدنــــى منهــــم. فلغـــــة الانفجــار بشــــعة لا تطـــاق. ومن لم يقــــض بالبارود قضى بغيــــــره. "تعــــددت الأسباب والموت واحد". تلك حكمة إلهية لا يجــــادل فيها اثنان.

كانت نبال غير مخيرة في السباحـــة عكس التيار. إذن، ما هــي النتائــــج المحتمــلة التــــــــي كانت في انتظارها ؟!
لعل الموت ليس غير أو على الأقل الإصابات البليغة هو الجواب الأرجح .

هنا استذكرت موقف خطيبها، وخيل لها بأنه حمل رسالة نهائية حاسمة من غير عالمنا حينما قال:

"وداعا ولم يقل إلى اللقاء"!!!

وصدق في مقولته. فقد انفجر صهريج للمياه الثقيلة كان يقوم تمويها بسحبها من دور المواطنين، مساويا سطوح المنازل بالأزقة، مجيبا على أسئلة نبال، ومجهزا على حياة جدة نبال وعشرات إن لم نقل المئات من سكان ذلك الحي السكني الآمن بين قتيل وجريح !

رســــــالة من تحت الأنقاض......!
(ب)
طويت صفحة الشهيدة (نبال) وكأنها تراث من الماضي السحيق، كما طويت صفحات أخرى لشهداء وجرحى ومعوقين آخرين ، طالهم العنف والهمجية والقسوة، بينهم أطفال بعمر الربيع، أضحوا فاقدي البصر، ومنهم من بترت أيديهم أو أرجلهم أو انغرست في أجسادهم شظايا من كل الأصناف ، لأسباب يجهلون كنهها!

تحول الحي السكني الهادئ إلى ورشة عمل صاخبة، تشعرك بأن زلزالا عنيفا، بدرجة يجهل السكان المحليون رقمها، على مقياس ريختر، لعدم توقعهم الحاجة له يوما ما بتاتا .
وتحول الجو المعطر بعبق الورود والرياحين إلى آخر فيه كل روائح الاسمنت والرمل والحصى وغاز ثاني أكسيد الكربون المنبعث من آليات البناء والمركبات.

كل هذا طبيعي ومتوقع في لحظات غياب سلطة القانون، بيد أن رجال الإنقاذ كانت لهم رؤية أخرى. فقد تناهى إلى سمعهم وجود أسرة تتكون من أربعة أفراد اعتبرت في عداد المفقودين، إذ تقدم ذووهم بشكوى إلى المسئولين طالبين البحث عنهم. وبعد (س) و (ج) وأخذ ورد توصل الكل إلى مخرج أخير لعله يميط اللثام عن ملابسات هذه المصيبة المأساوية ويضع النقاط فوق الحروف لمعرفة مصيرهم. إنه الهاتف النقال. ولكن هل عرفوا الرقم بالضبط ؟ ذلك هو الإشكال الوحيد الذي لا حل بدونه .

مضت الدقائق والقلوب تخفق، وجلة مضطربة، خوفا من المجهول. وبذل كل شخص جهدا مضنيا خاصا به. فماذا أثمرت الجهود ؟

امتلك طفل صغير رقم هاتف أبن عمه. وأخذه الجد على الفور ثم بدأ الأخير ينقر على أزرار الهاتف وهو في الرمق الأخير إلى أن
جاء الفرج عبر الحوار التالي :

-
"غ، هل تسمعني ؟ أنا أبوك. أين أنت ؟"
"-لا أعرف. بعد الزلزال انقطع النور عنا."
- "يا ولدي، اطمئن. سوف نسعفك ."
- "ولكن، أين زوجتك وطفلاك ؟ "
- "معي."
-"في أية حجرة أنتم الآن ؟"
هنا انقطع الاتصال لنفاذ شحن الهاتف النقال، كما يبدو. ومع هذا انطلق الكل نحو الدار المنكوب، فماذا وجدوا ؟
السقف قد سوي مع الرصيف. كما عرفوا بان الضحايا كانوا راقدين في قيلولة بسرداب الدار لحظة حدوث الفاجعة.
إذن هم الآن، حسب الرسالة من تحت الأنقاض، في انتظار من يمد لهم يد العون. ولا أحد يستطيع ضمان بقائهم أحياء إلا بعد رفع الأنقاض !
فهيهات أن يبتسم القدر في مثل هذه اللحظات العصيبة !
وهذا ما كان !!!!!