أصدقائي :
إن الرجل الظريف الذي كتبت عنه هذه المرة شأنه مختلف ، فقد استخدم ظرافته من أجل التهكم والسخرية والانتفام لا من أجل البهجة والمرح والابتسام . . .
كان لسانه سليطاً جداً ، لذلك فقد كان يهابه الجميع ، ويسير بين الناس محترماً مهاباً . . .
إنه المرحوم غسان الألشي الذي كان من طليعة الظرفاء في القرن العشرين .
وأنشر المقال هنا كاملاً مع الرابط . . .
أرجو أن ينال إعجابكم .

* * *
من ظرفاء دمشق في القرن العشرين
غسان الأشي

لسانٌ سليط ، وحجة نادرة . . . براعةٌ فائقة في صياغة أجوبة بليغة ظريفة تُفحِم الآخرين ، وتنتقم لصاحبها من كل ساخر ، وتقطع الطريق أمام كل متطاول . . .
غسان الألشي رجل ذو شأن عجيب ؛ يستحق سلوكَه التأملُ العميق ، تنتابك لتصرفاته دهشةٌ وتعتريك لوعة . . . يملك قريحة نادرة تجعله يقدم النكتة الفورية لكل موقف ، بل فقد تفيض قريحته أحياناً بما يسبق الموقف ويغلف الجلسة بإطار من الظرافة بديع . . . حباه الله ظرفاً ومرحاً ونكتة ظاهرة ، فأكسبه ذلك حضوراً متألقاً جعل مجالس الظرفاء تتخاطفه ، وسهرات الأنس تترقب حضوره . . .
وما غرابة شخصيته وندرة سلوكه تكمنان في ظرافته النادرة المتميزة فحسب ، بل إن مردَّ ذلك إلى أنه قد نحا بظرافته نحواً آخر .
إذ قد لا يخطر في بال المرء أنه وكما أن الظرافة سلاح لطيف يمكن أن يلطف الجو ويعطِّر النفوس ويضفي جو المرح ، كذلك فإنها يمكن أن تكون سلاحاً فتاكا يدفع على المشاحنة ويفضي إلى البغضاء .
كان غسان الألشي يعيش حياة مترفة غنية ، فقد ورث عن أبيه أموالاً طائلاً وأملاكاً عديدة ، دفعته إلى العيش ببحبوحة واضحة ، فقد كان يطيل السهر يومياً ، ثم يتأخر في الاستيقاظ ، شغله الشاغل هو ارتياد المقهى أو الدخول إلى مطعم فاخر ، وكثيراً ما كان غسان يشبِّه الرجل المتزوج بذلك الذي كُسِرت يده ، وتم ربطها بحبل إلى عنقه فإنه يستطيع تحريكها ؛ ولكن ضمن الحد الذي يسمح به هذا الحبل ، أما الأعزب فإنه يتمتع بتحريك يده كيفما شاء وفي كل الاتجاهات ، لذلك فقد آثر غسان الألشي ( حسب رأيه ) عدم الزواج ليبقى ينعم بطعم الحرية الدامغة التي أضفت على حياته سعادة غامرة . . . ولعل هذه السعادة الزائدة كانت سبباً في إذكاء نار الحسد ضده ؛ فكثرت حوله الكلمات الساخرة مما دفعه إلى استخدام ظرافته على نحو غريب غير مألوف ؛ وهو أن يجعل منها سلاحاً فتاكاً للانتقام ينال به من خصمه بحدةٍ تجعلُ هذا الخصمَ يفكر كثيراً قبل الدخول في جولة أخرى من التهكم والسخرية . . . لذلك فإن الكثيرين من الناس كانوا يسعون إلى كسب ودَّ غسان خشية من أن تصيبهم من لسانه لاذعةٌ على شكل طرفةٍ تجعلُ الآخرين يسخرون منهم ، أو جارحةٌ ظريفةٌ تنشر شيئاً من قصصهم المخفية أو تطيح بهم . . . كيف لا وغسان يملك لساناً يرفع الممدوح إلى أعلى عليين إذا شاء المادح ، ويهبط بالمذموم إلى أسفل السافلين إذا تطاول المذموم . . . لساناً حارساً أميناً يدافع ويهاجم بشراسة بالغة قلما أن تشوبَها حنكةٌ أو تخالطَها دراية ، لساناً أقرب إلى الجنون المتعقل جعل غسانَ غسان يسير وسط الناس جليلاً مهاباً يخشاه الناظرون وتبتسم له دوماً الشخصيات السياسية المرموقة . . .
إذن لم تكن ظرافة غسان تهدف فقط إلى الابتسام ، فقد استخدمها غسان للانتقام .

في مجلس أديب الشيشكلي عام 1953 :
من المعلوم أن تعليقات الألشي في ميدان الساسة والسياسة لاذعة وجارحة ولكنها في الوقت نفسه ظريفة ، وكان غسان من أصحاب العقيد أديب الشيشكلي في الخمسينيات الأولى من القرن الماضي ، فكان العقيد يدعوه إلى مجلسه في نادي الضباط القديم على طريق الصالحية كل ليلة ، فتدور بينهما مسامرات ومحاورات لم تكن تخلومن بعض الهمز واللمز ، وذات ليلة بعد أن طالت جلسة السمر والمرح ، تناول الشيشكلي والد غسان 0 جميل الألشي الذي كان رئيساً للوزراء أيام الانتداب الفرنسي بكلمة نابية . . . فانزعج من ذلك غسان وتوجه بالكلام للعقيد الشيشكلي قائلاً :
ـــ لماذا تشتم والدي يا سيدي ؟ إن أبي لا يُشتم وقد كان رئيساً لمجلس الوزراء ووزيراً في عدة وزارات ، ولم يكن بائع قنابـيز .
كان والد الشيشكلي بائع قنابيز ، ( والقنابيز هي نمط من أنماط اللباس القديم وهو القمباز ، وقد كان والد الشيشكلي تاجراً في سوق الحميدية ) فسكت الشيشكلي على مضض ، وانسحب في نهاية السهرة دون أن يعاتب غساناً على كلامه ، ودون أن يظهر عليه غضب من تعريض غسان بوالده بائع القنابيز ، لكنه أمر باعتقال غسان لمدة أربع وعشرين ساعة وإطلاق سراحه في اليوم التالي على باب النادي ، وعندما وصل غسان إلى منزله في منطقة القيمرية تم اقتياده إلى السجن حسب التعليمات . . .
وفي اليوم التالي أمر الشيشكلي بإحضار غسان إلى نادي الضباط ، وإخلاء سبيله عند مدخل النادي ، وبسبب هذا الاعتقال المؤقت وصل الألشي متأخراً إلى موعد النادي ، وكان العقيد الشيشكلي في انتظاره وقد عاتبه على تأخره قائلاً :
ـــ لماذا تأخرت يا غسان ؟ انشغل بالنا عليك .
فأجاب غسان :
ـــ والله يا سيدي لقد فوجئت أمس بأمر جلل ، اضطرني إلى أمضي طول النهار أتشاجر مع الناس ووزارة المعارف ـــ التربية ـــ لأنها تغش الجيل وتزور التاريخ ، وذلك بأنها تقول للناس إن الخلفاء الراشدين أربعة فقط : أبوبكر وعمر وعثمان وعلي ، وأنا أقول لهم هذا غير صحيح ، لأن الخلفاء الراشدين خمسة .
وهنا قال الشيشكلي مدهوشاً : ومن الخامس . . . يا غسان ؟
فأجاب غسان بمنتهى الجد : والد سيادتك حسن الشيشكلي .
فابتسم الشيشكلي وضج الحاضرون بالضحك العميق .

السؤال عن المرحوم أبيه :
بعد غياب طويل اجتمع غسان الألشي بأحد أصدقائه ، وسلم عليه بحرارة وسأله عن والده وأحواله وصحته فأجابه بأن والده قد مات فأبدى صديق غسان حزناً شديداً ، وأخذ يعدد صفات المرحوم الوطنية والحسنة , وطيبة قلبه , وقد بالغ في ذلك الحزن العميق مما دفع بالألشي إلى أن يقوم هو بالتخفيف من آلام صديقه ومواساته ، ومرت أيام . . . ورأى غسان صديقه ثانية ، فعاد الصديق يسأله : كيف الوالد أن شاء الله بخير فأجابه غسان : والله لساتو ميت .
في جلسة سهر :
أن الألشي كان في جلسة سهر ، يتجاذب مع ندمائه أطراف الحديث ، فقال أحد الحضور إن غسان كان طيارا حربيا أثناء حرب فلسطين ، فطلب الحاضرون من غسان أن يحدثهم عن حرب فلسطين وما جرى معه فيها ، وعلى الرغم من أن غسان لم يكن طياراً قط لكنه أخذ يتحدث ، وينسج قصصا من خياله الواسع ، فقد صار يروي لهم قصته ومخاطراته ، ويطنب في وصف الغارات التي التي كان يشنها على العدو , وبعد أن سرد لهم عدة حوادث , وجد ما وجد نفسه إلا وهو ينهيها بأن طائرته وقعت مرة وقضي عليه ، فقال أحدهم متعجبا : يا أستاذ غسان كيف تقول إنك مت وهلأ أنت عايش وقاعد معنا عم تحكي القصة ؟ فأجابه غسان : أنا عايش . . . ؟ ليش هي عيشه ؟ .
كان غسان متلافا مبذارا لكل الأموال التي ورثها عن أبيه ، ولعله قد صاغ من حياته طرفة بليغة ضمَّنها فلسفة خاصة جعلته يعيش سعيداً .



نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي






غسان الألشي.. قريحة تسبق الموقف ونكتة حاضرة … أسكت الشيشكلي على مضض…
ALWATAN.SY