رسائل الطاحونة
(الرسالة الثالثة )

سرّ المعلّم كورني


للكاتب: ألفونس دوديه
• عربها: فيصل الملوحي


تحضرني اليوم ذكرى مأساة شهدت طاحونتي أحداثها قبل عشرين عاما، رواها لي معلّم النفخ في المزمار فرانسي ماما ، في أمسية من الأمسيات التي كنّا نتنادم فيها ونحن نحتسي قدحين من الشراب المعتّق. لقد جعلني ذلك الرجل الطيّب أُشغف أيّما شغف بهذه القصّة، فهو يأسرك بأسلوب سرده، بل بأسلوب حياته كلّها! فهل يسرّكم أن تستمعوا إليها؟

تصوّروا - أعزّائي القراء – أنّكم حظيتم بالجلوس فترة إلى معلّم للنفخ في المزمار ينادمكم، وأمامكم دنّ من الشراب تنتشون بعبيره المتفرّد قبل أن تتذوّقوه!

لا يخدعنّك– سيّدي الكريم- ما تراه اليوم، فما كان بلدنا خامل الذكر قديماً على هذه الشاكلة، بل سوقاً تجاريّاً مزدهراً، يُحمل إليه القمحَ من عشر مناطق تُحيط به ليُطحن فيها. كانت الطواحين الهوائية على التلال تحتضن القرية، وأجنحتها تحرّكها ريح الشَّمال حين تمرّ بأشجار الصنوبر، وأرتال الحمير تحمل أكياس القمحَ صاعدة هابطة على الطريق خلال الأسبوع كلّه، أمّا في العلوّ فما كان ألذّ سماع دويّ السياط وأصوات أُجَراء الطحّانين( دي – حا) تحثّها على السير.

في ذلك الزمان كنّا قد ألفنا أن نذهب إلى الطواحين أيّام الآحاد زُمَراً زمراً، فيكرمنا الطحّانون بشرابهم ( ذي الرائحة الممسكة، والمذاق الحلو)، والطحّانات برؤيتهنّ وهنّ يتجمّلن ّبخُمُرهنّ المخرّمة وصلبانهنّ الذهبيّة - كأنهنّ الملكات. كئت أجيء بمزماري، وأراقص السمّار رقصة الدبكة إلى آخر الليل البهيم.

كان لتلك الطّواحين فضل كبير على بلدنا في أنّها أسعدت أهله، وجعلت أفئدة الناس تهوي إليها وأجرت على أجنحتها رزقهم من الثمرات!

ألا تأسفون على أهل باريس الذين أقاموا طاحونة يشغّلها البخار في درب تاراسكون!! لا شكّ أنها جميلة حقّاً، جديدة كلّ الجِدّة!! فألفوا أن يرسلوا قمحهم إلى الطحّانين، وأراحوا أنفسهم من عناء حملها، أمّا الطواحين البائسة التي يدوّرها الهواء فقد أقفلت أبوابها بعد أن قاومت حقبة من الزمان، ولكنّ البخار كان الأقوى فغلبها، فاضطرّت أن تتوقّف عن العمل..

اختفت أرتال الحمير بأحمالها من القمح، وباعت الطحّانات صلبانهنّ الذهبيّة، وحُرمنا شرابهنّ ورقصة الدبكة معهنّ، و تلقّت ريح الشمال طعنة نجلاء، فما عادت تتمكّن من تدوير الطواحين..

ها هي النهاية، لقد أذعنت القرية، فهجرت ما ألفته، ورضيت بأن تقيم أوَدََها بالزيتون وعنب الكروم وتعتمد عليهما في حياتها.

..اللهمّ إلا طاحونة واحدة صمدت رغم كلّ ما أحدثته الكارثة، و ظلّت تعمل بكلّ جرأة تحت أنظار الطحانين وملء أسماعهم! إنّها طاحونة المعلّم كورني، حيث نقضي سهرتنا الآن.

* * * * *
كان المعلّم كورني من أقدم الطحّانين، يعيش منذ ستين عاماً في الطحين، متذمّراً من هذه الحياة. وحين بُنيت الطواحين البخاريّة صار أشبه بمجنون ، وظلّ ثمانية أيّام يسعى في القرية من هنا إلى هناك يحرّض أهليها بأعلى صوته قائلاً: انظروا، إنّهم يريدون تلويث البروفانس بطحين الطواحين. إيّاكم أن تذهبوا هناك ، فلن تجدوا غير اللصوص، وما البخار سوى أُحبولة الشيطان، أمّا أنا فلا أعمل إلا مع رياح الشَّمال التي هي من روح الله.. لقد تدفّقت الكلمات على لسانه تمجّد الطواحين الهوائيّة، لكنّ أحداً لم يسمعها.

فلم يجد من سبيل له سوى أن يغلق عليه باب طاحونته، ويحيا منعزلاً بعيداُ عن الخَلْق كأنّه بهيمة مستنفرة، حتى إنّه أبى أن يتكفّل بتربية حفيدته فيفيت في ربيعها الخامس عشر، وهو الوحيد الذي بقي لديها في هذا العالم بعد وفاة أبويها. فاضطرّت أن تتكفّف رزقها، وتسكن في بيت ريفيّ، وتكسب أقلّ القليل في الحصاد وجمع دود القزّ وقطاف الزيتون، رغم أنّ جدّها كان يُبدي نحوها حبّاً شديداً، ويذهب ليراها حيث تعمل في الريف، فيقطع مسافات طويلة يمشيها على قدميه، وتحت أشعّة الشمس المحرقة، أمّا إذا كان قريباً منها، فكان يقضي ساعاتٍ وساعاتٍ ينظر إليها وهو ينتحب!

لقد أنكر أهل البلد بشدّة هذا التصرف من الطحان الشيخ، ورأَوْا أنّّ الطمع دافعه الوحيد ، فهل من المروءة أن تترك بنيّة فتتشرّد في المزارع، تعرض خدمتها على البشر المتوحشّين؟! كان المعلّم كورني الرجل ذائع الصيت محترماً قبل هذا، فما أشنع أن يتحوّل إلى بوهيميّ يتسكّع في الأزقّة حافياً، بقلنسوته المثقّبة، وقميصه البالي. أمّا في يوم الأحد فكان الشعور بالخزي يتملّكنا – نحن كبار السنّ مثله- حين نراه لا يجرؤ على الجلوس في صفّتا على مقاعد الكنيسة، ويكتفي بالوقوف في مؤخّرة الكنيسة في صفّ الفقراء، حيث جرن الماء المقّدّس.

كنّا نعجب من أمر كان غامضاً في حياة المعلّم كورني. لم يكن أيّ رجل من القرية يأتيه بالقمح لطحنه، ولكنّ جنيحات الطاحونة كانت كالأيّام السالفة تلفّ بلا توقّف في النهار.. ثمّ تلقاه في المساء على قارعة الطريق يقود حماره المحمّل بالطحين في أكياس ضخمة.

- كان الفلاحون يصيحون بملء أصواتهم: قدّوس، قدّوس، مازالت الطاحون تعمل، وتعطيك من خيرها؟!

- ويجيبهم الشيخ رابط الجأش: بلا انقطاع، يا أولادي، والحمد لله، ليس ما ينقصنا سوى فتح الطاحونة!

- ولو سألوه: و كيف لك أن تفتحها؟! فيضع إصبعه على شفتيه، ويردّ بوقار: صه( هس،) إنّما أعمل لهذا، وليس بالإمكان أبدع ممّا كان!!

ما كان لأحد أن يحلم بدخول مطحنته، حتى حفيدته لم تتمكّن من هذا!! ولو مررت أمام الطاحون لرأيت بابها دائماً مغلقا، وجُنَيحيها الكبيرين لا يفتران عن الحركة. والحمار العجوز يرعى حشائش المصطبة، وقطّاً كبيراً هزيلاً انتحى جانب الشمس على حافّة الشبّاك ينظر إليك نظرة تُريبك!!

شطّ الخيال بالناس يبغون الكشف عن سرّ هذا الغموض! فكان كلٌّ منهم يفسّره على هواه، لكنّ الشائعة الأقوى التي سرت أن في الطاحون أكياساً معبّأة بالمال أكثر من الأكياس المعبّأة بالطحين!!

لكنّ الزمن كشف عن هذا السرّ، فأنصتوا إليّ:

في يوم مشرق جميل كنت أرقّّّّص الفتيان بمزماري، فاكتشفت أنّ ابنيَ البكر والصغيرة فيفيت واقعان في الغرام. ما غضبت للأمر، فما أشرّف أن نناسب المعلّم كورني! ثمّ هل هناك أجمل من( نطنطة) العصفورة الصغيرة فيفيت في بيتي! سوى أنّي أحببت أن أسوّيَ الأمر فوراً خشية وقوع ما لا تحمد عقباه!! فما كان أكثر فرص التقاء العاشقَيْن!! صعدت إلى الطاحون لأبلّغ الجدّ الأمانة في كلمتين.. لكنّ الشيخ الخبيث تلقّاني بأبشع طريقة تخطر لك، لم يقتنع بفتح الباب. قدّمت إليه أسبابي ( كيفما كان ) من خلال شقّ القُفل، و فوق رأسي القطّ العجوز الهزيل اللئيم يصفر كالشيطان!

لم يتركني أكمل كلامي، بل صاح بكلّ وقاحة أن أعود إلى مزماري، وإن رغبت في أن أُسرّع زواج ولدي فلأبحث له عن بنت أخرى من بنات الطاحونة!! لقد وقعت هذه الكلمات الفظّة على رأسي كالصاعقة، فغلى الدم في عروقي، بيد أنّي هدّأت نفسي بكل ما أستطيع تاركاً هذا الشيخ المجنون لطاحونته، وعدت لأبلّغ الولدين بخيبة أملي..لكنّ هذين البريئين لم يصدّقا أُذنيهما، ورجواني أن يصعدا معاً إلى الطاحونة لمحادثة الجدّ.. فلم أجرؤ على الرفض. وبلمح البصر اختفى العاشقان، وعند وصولهما كان المعلّم كورني قد خرج، والباب مغلق، بيد أنّ المسكين نسي السُلّمَ خارج الطاحونة، فقفزت الفكرة إلى مخيّلتي الولدين: لماذا لا يدخلان من النافذة، ويكشفان عمّا في هذه الطاحونة المشهورة؟!

لم يجدا في الطاحونة ما يُدهشهما سوى أنّها فارغة، فلا أكياس، و لا قمح، و لا ذرّةَ طحين في أنحائها، حتى رائحة القمح الساخنة التي تعطّر المكان أثناء طحنه لم يشمّاها، والمصطبة غطّاها الغبار، وفي العلوّ اضطجع القطّ العجوز الهزيل على جنبه نائما!!

لم تختلف غرفة الطاحونة الدنيا في مظهرها عن طابقها الأعلى، فهي مثله مهجورة مهملة، كلّ ما تحويه سرير خرب و خِرَق و كِسْرة خبز على درجة من السُّلّم، ثمّ ثلاثة أكياس أو أربعة مهترئة في زاوية تكسّرت أرضيّتها البيضاء.

هذا سرّ المعلّم كورني! فما كان إلا خدعة يروّجها في القرية، غايتها أن يحافظ على شرف الطاحونة، وأن يعتقد النّاس بأنّ صنع الطحين لم ينقطع. ما أبأس تلك الطاحونة، بل ما أبأس كورني! فمنذ أمد ليس بالقصير لم تُبق طواحين البخار لها ما تنتفع به. كانت الجنيحات تلفّ في الهواء وتلفّ، و الطاحون تدور و تدور وبطنها فارغ!!

عاد الولدان و قد اغرورقت عيونهما بالدموع، وحكيا لي ما شاهداه، فانفطر قلبي. و لكنّي لم أُُضع دقيقة واحدة، وجريت إلى الجيران أروي لهم القصّة باختصار، وا تفقنا أنّ نأخذ فوراً كلّ ما في دورنا من قمح إلى الطاحون.. وصدّق العمل القول. صارت القرية كلّها في الطريق، ووصلنا إليها مع موكب الحمير المحمّل بالقمح، القمح الحقيقي، و كان ما كان!

كانت الطاحون في استقبالنا، و المعلّم كورني جالساً على كيس جِصّ يبكي، ورأسه بين يديه. لقد علم– حين عاد - أنّ الطاحون اقتُحِمت حين غاب عنها، وافتُضح سرّه البائس!! ثمّ قال:

- ما أتعسني! لا أجد مفرّاً لي إلا الموت، لقد دُنِّس شرف الطاحون!

- و زفر زفرة تُفتِّت الأكباد، وأخذ يكلّم الطاحون كأنّها بشر سويّ، و يناديها بكلّ اسم هو لها. وصل الحمير في تلك اللحظة إلى مصطبة الطاحون، و صحنا جميعاً صيحة مجلجلة تذكّرنا بزمن الطحّانين البديع.

- هيّا هيّا يا طاحونتنا، هيّا هيّا يا معلّمنا كورني!!

و من فورنا أنزلنا الأكياس أمام الباب، فانتثر الحبّ الذهبيّ على الأرض يملأ المكان...

فنظر المعلّم كورني نظرة أذهلته، وقبض قبضة من القمح، و و ضعها في كفّه الهرم، وهو يقول- لا تدري أكان يضحك أم يبكي!-:

- أهذا قمح!! إلهي و سيّدي، القمح المبارك!.. دعوني أنظر إليه!

ثمّ قال – وهو يلتفت إلينا-:

- نعم! نعم! كنت على يقين أنّكم ستعودون إليّ.. فما أولئك الطحّانون على البخار إلا بوّاقون ( حراميّة ).

كنّا نحاول أن نعيده إلى القرية في زفّة انتصار، و لكنّه قال:

- لا، لا يا أولادي، عليّ أولاً أن أُطعم طاحونتي، انظروا إليها، فهي لم تضع شيئاً تحت أضراسها منذ زمن بعيد!

ذرف كلّ الحاضرين دموعهم عندما رأَوْا هذا الشيخ البائس يترنّح يميناً ويساراً، وهو يُفتِّح الأكياس، ويراقب الطحِن، في حين يتكسّر الحبّ، ويتطاير غبار القمح الناعم إلى أعلى الطاحون.

لقد تكفّلنا منذ ذلك اليوم أن نساعد الطحّان الهرم دائماً في الإبقاء على الطاحون مفتوحة.

ثمّ كان ذلك الصباح، مات فيه المعلّم كورني، فتوقّفت إلى الأبد في هذه المرّة جُنَيْحات آخر طاحونة هواء لنا عن الدوران..

مات كورني، ولم يخلفه أحد. أ لديكم اعتراض؟!

ألا إنّ كلّ شيء في هذه الدنيا إلى زوال،
و لنكن على يقين أن زمان طواحين الهواء قد ولّى، مثلها كمثل قوارب الخيل التي هجرت ضفّتي نهر الرون..