الدين الشعبي وتطبيق الشريعة
بروفيسور عبد الستار قاسم
18/آب/2013
كم عدد الأشخاص الذين سألوني على مدى سنين فيما إذا كنت أصلي أم لا؟ عدد كبير يصعب الإحاطة به. وكم عدد الأشخاص الذين سألوني فيما إذا كنت ألتزم بالمواعيد؟ عددهم صفر. لم يسألني أحد فيما إذا كنت ألتزم بالمواعيد التي أقطعها على نفسي. وكم عدد الأشخاص الذين سألوها عن موعد ارتدائها لغطاء الرأس؟ عددهم كبير. وكم عدد الأشخاص الذين سألوها عما إذا كانت تقوم بأعمال الجهاد ضد الاحتلال؟ لم يسألها أحد. وكم عدد الذين سألوه عن صيامه؟ كثر. وكم عدد الذين سألوه عن حرصه على التقدم العلمي؟ لا أحد. كم عدد الناس الذين سألوهم عن أدائهم الصلاة جماعة؟ كثر. وكم عدد الذين سألوهم فيما إذا كانوا يكذبون؟ لم يسألهم أحد.
إذا طفنا في الوطن العربي واستفتينا الناس، فإنه من المتوقع أن يبدي أغلبية كبيرة تأييدهم لإقامة نظام إسلامي، وهذا واضح جيدا في نتائج الانتخابات التي تمت في بعض البلدان العربية. لكن عن أي نظام يتحدثون؟ وما هو النظام الإسلامي الذي يريدون؟ هل هو ذلك النظام الذي تنضوي تحته الأسئلة المشار إليها، أم هو الذي ينطوي على الأسئلة التي لا تُسأل؟
الدين الشعبي
ما أعنيه بالدين الشعبي هو ذلك الدين المستكين المنحصر في بعض الشعائر الدينية وبعض السلوكيات المظهرية الشخصية المتعلقة بالحرام والحرام. إنه دين التدين القريب إلى الرهبنة والكهنوتية، والذي يهتم كثيرا بالغيبيات وبعذاب القبور وأهوال يوم القيامة والأدعية، دون الولوج إلى المضامين العملية والتطبيقية للتعاليم الدينية. وهو دين أقرب إلى الاستسلام منه إلى الإسلام، من حيث أن الاستسلام خنوع وخضوع وتسليم، في حين أن الإسلام ثقة واطمئنان. علما أن التدريس الديني التقليدي يقول للناس إن الإسلام استسلام لله سبحانه وتعالى وخضوع لأوامره، بينما كلمة إسلام ليست مشتقة من استسلم وإنما من أسلم، والأسلمة تعني أن يُسْلِم المرء لله: أي أن يثق بالله ويطمئن إلى أن التعاليم الإلهية ستوصله إلى الخير والصلاح. كلمة استسلام تلغي إرادة الفرد على اعتبار أن كل شيء بإرادة الله، وإرادة الله نافذة؛ أما كلمة أسلم فتعني الاطمئنان إلى أن إرادة الفرد المطمئنة إلى التعاليم السماوية ستنجز ما يبحث الفرد عن إنجازه.
ولهذا فإن الدين الشعبي يعلم الخنوع على اعتبار أن الله سبحانه يتدخل في كل شيء، وأن إرادته تبسط نفسها على كل النشاطات، فيظن الفرد أن كل محاولاته لا معنى لها في النهاية لأن النتيجة تتمخض عن إرادة قررت هذه النتيجة مسبقا. مثل هذا الدين جيد للكسالى والمتنطعين والذين يظنون أن الإرادة الإلهية ستتدخل في النهاية لصالحهم. علما أن الإرادة الإلهية لا تتدخل لصالح الكسالى والمتواكلين والجبناء والمتسولين.
يهتم الدين الشعبي بأمور متنوعة متعلقة بقضايا الحلال والحرام التي تغلب عليها الكهنوتية والرهبنة وليس عملية البناء المجتمعي الذي قد يؤدي إلى إقامة الأمة الإسلامية. وتتركز هذه القضايا في الغالب في الأمور التالية:
1- المرأة وخروجها ولباسها وعملها ومختلف حركاتها من ابتسامتها إلى مصافحتها للرجال إلى قواعد تعاملها مع زوجها ومحارمها ومشاركتها في العمل العام؛
2- الشعائر الدينية بخاصة الصلاة والصيام ودون التركيز على الزكاة التي تعتبر الركيزة الأساسية في البناء المجتمعي، هذا فضلا عن تعقيد طرق أداء الشعائر من خلال التفصيلات في أحكام الوضوء والحج والصلاة والصيام، الخ؛
3- كميات الحسنات التي يمكن أن يحصل عليها الفرد بخاصة في الأعمال الطقوسية، وفي الأدعية وقراءة الأوراد؛
4- أهوال يوم القيامة وعذابات القبور، والإسهاب في أوصاف الجنة والنار وفي أمور غيبية لا يمكن للإنسان أن يحسم أمورها.
الدين العملي
الدين الإسلامي ليس دينا كهنوتيا أو رهبانيا، وهو دين عملي يستند أساسا إلى مقومات: العلم والعمل والجهاد بكافة أشكاله المدنية والنفسية والداخلية والخارجية، والأخلاق كحاضنة جامعة، أو مقوم شامل يحتوي ما عداه من مقومات. وهذا هو الدين الذي يقيم أمة إسلامية تندفع نحو التقدم والبناء والعطاء.
هناك أكثر من 700 آية في القرآن الكريم حول العلم والعلماء والتدبر والنظر والتفكر والتعقل، وهناك آيات كثيرة حول العمل والعطاء والنشاط والحركة، وآيات ليست بقليلة حول جهاد النفس وجهاد العدو، وزخم هائل من الآيات حول الأخلاق والتعامل مع الآخرين سواء كانوا من القريبين أو البعيدين، من أصحاب ذات الدين أو الأديان الأخرى، من قوم الشخص أو من أقوام أخرى.
العلم والعمل والجهاد والأخلاق تقيم أمة يمكن أن تنبثق عنها دولة قوية تقيم العدل بين الناس، وهذا الذي يجب أن تركز عليه الحركات الإسلامية في سعيها نحو رفعة الأمة. الأولوية في الدين هي للعلم وإقامة دور علمية وتعليمية راقية تتبنى التفكير العلمي والبحث العلمي، ولترسيخ مفاهيم الحق والالتزام والصالح العام وحمل المسؤولية والقيام بالأمانة والبناء المجتمعي والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وترسيخ مفاهيم العمل الجماعي والتعاون المتبادل والاجتهاد في العمل وفتح الأفاق الفكرية أمام الناس وتطوير مفاهيم الحرية التي توفر البيئة السليمة للبناء الإنساني. هذه المقومات والمفاهيم هي التي تقيم العدل، والتي تجعل من الحركات الإسلامية قدوة للآخرين حتى لو لم يكونوا مسلمين.
الدين العملي يقوم على التقوى والتي هي من ثلاث مراتب: التقوى الشعائرية والتي تعني إقامة الشعائر المنصوص عليها إسلاميا، وهي أدنى المراتب. وهذه الشعائر تستمد قيمتها ليس من ذاتها وإنما من انعكاساتها العملية على الأرض. أي أنها تهدف إلى تذكير الإنسان باستمرار بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا قيمة لها في النهاية إن لم تكن مصدر تأديب مجتمعي للشخص. أما المرتبة الثانية فهي التقوى الاجتماعية والتي تعني قيام الشخص بالنشاطات اللازمة لتحسين من ظروف المجتمع الذي يعيش فيه، وتطوير المحيط الذي يتعامل معه. صاحب التقوى الاجتماعية لا يترك الشارع أمام بيته قذرا، ولا يعزف عن المشاركة في نفقات تعليم طالب مبدع ومحتاج ماليا. أما المرتبة الثالثة فهي التقوى البنائية والتي يتقنها قلة من الناس العلماء والخبراء الذين بإمكانهم بناء الأمة. هذه التقوى يتميز بها نفر قليل بسبب متطلباتها العلمية والفكرية والمنطقية العالية، وتقع على عاتقهم أمانة عظيمة يعينهم جمهور الناس على القيام بها.
أغلب المسلمين يظنون أن التقوى تعني المكوث في المساجد والإكثار من الصيام، وحمل السبحة والإكثار من الأدعية. هذه تقوى لا تقيم أمة ولا تصنع دولة، ومن الأفضل تغيير هذا المفهوم ليصبح نبراسا للعمل الجاد وألا يبقى رمزا كهنوتيا يضر ولا ينفع.
بين الشعبي والعملي
الدين الشعبي لا يقيم دولة. سواء غطت النساء رؤوسها أو لم تفعل، لن تقوم دولة، النساء العاملات المفكرات هن اللواتي يقمن دولة. كثرة الأدعية لن تقيم دولة، بل العمل الصالح هو الذي يقيم، والعمل الصالح هو الدعاء الحقيقي وليس مجرد رفع الكفين إلى السماء. الاستنجاد بالأولياء الصالحين لن يغير من الأمر شيئا، بل الاستنجاد بالعضلات وسهر الليالي يرفع مستوى الإنتاج. انتظار المسيح لن يفيدنا بشيء لأن المسيح لن يصطف مع الكسالى والعاجزين. الإسهاب في وصف عذاب القبور لن يدفع بالأمة إلى الأمام، بل التفكير العلمي هو الذي يفعل، الخ.
ما هي جدوى إغلاق محال الخمور إذا كان الجمع الأكبر من الناس سكارى ومخدرين بفعل الدروشة والهروب من الحياة الدنيا وتجاهل الواقع المؤلم؟ وما هي جدوى التنظير ضد الأغاني والموسيقى إذا كانت الأمة تعاني من أزمات نفسية ومآزق أخلاقية.
الإسلام يعطي أولوية للبرامج التربوية التي تعلم الصدق والأمانة وتحمل المسؤولية والتعاطي الأخلاقي والتعامل المهني والبناء المجتمعي، ولا يبدأ بقطع يد السارق، ولا يقيم حدود القتل والذبح والسلخ.
من الناحية العملية، أغلب الحركات الإسلامية منفرة، وهي تبعد الناس مسلمين وغير مسلمين عن الإسلام. تقديمها للإسلام وطرق طرحها للفكرة الإسلامية تعطي نتائج عكسية، وإذا كان لها أن تخدم الفكرة الإسلامية والمجتمعات الإسلامية فإن عليها التمسك بالإسلام على حساب أوهام بناها فقهاء جهلة على مدى سنوات طويلة من التخلف والانغلاق.