القدس والأقصى
عقيــدة (الهيــكل) فـي التـوراة وتـاريخ اليــهود (الحلقة الثانية)
مصطفى إنشاصي
كشف وزير الأمن الداخلي الصهيوني (تساحي هانغبي)، وجهاز الأمن الصهيوني "الشين بيت" حصولهم على معلومات مؤكدة عن عزم بعض الجماعات اليهودية الدينية المتطرفة تدمير المسجد الأقصى المبارك، عن طريق استخدام طائرة صغيرة بدون طيار، لتصطدم بالمسجد أثناء أداء المصلين للصلاة. أو عن طريق يهودي انتحاري يهاجم المسجد الأقصى بطائرته.
هذه المعلومات التي كشفها وزير الأمن الداخلي الصهيوني بتاريخ 6/8/2004 أثارت ردود فعل مختلفة، وأعادت قضية (الهيكل) المزعوم، والمسجد الأقصى من جديد إلى واجهة الأحداث، وعادت صرخة "الأقصى في خطر" تدوي من جديد لتنبه الأمة الإسلامية بالخطر المحدق بالمسجد الأقصى أكثر من أي وقت مضى، وضرورة التحرك السريع على جميع الأصعدة لحمايته وإفشال المخططات اليهودية، والنصرانية الصهيونية الخبيثة لتدميره.
وقبل أن نعرض لعلاقة أنبياء بني إسرائيل بالقدس والمقدس في التوراة و(الهيكل) المزعوم، أود أن ألفت الانتباه إلى مسألة مهمة تغيب كثيراً عن الإعلام العربي والإسلامي وعند كثير من المدافعين عن المسجد الأقصى، عند الحديث عن المخططات اليهودية لهدم المسجد الأقصى؛ وهي: أنهم يقعون في شرك السياسة الإعلامية الصهيونية عندما يفرقون بين المخططات الصهيونية الحكومية والرسمية لتدمير المسجد الأقصى، وبين الجهود الفردية أو الجماعية لبعض ما يسمونها (الجماعات الدينية المتطرفة) لتحقيق ذلك، ويركزون حديثهم على محاولات تلك الجماعات اليهودية لهدم المسجد الأقصى، ويغفلون عن المخطط الأخطر الذي تقوم به حكومات العدو الصهيوني، بهدوء وتأنٍ لتدمير المسجد الأقصى، ولكنها تتحين الوقت المناسب. غافلين عن أن الهدف النهائي للحركة الصهيونية كان وما زال هو: هدم المسجد الأقصى، وإعادة بناء (الهيكل) المزعوم، وإقامة العرش الذي سيجلس عليه ملك اليهود من نسل داود ـ المسيح المنتظر اليهودي ـ ليحكم العالم.
فقد جاء في دائرة المعارف البريطانية تحت كلمة "الصهيونية": "إن اليهود يتطلعون إلى افتداء إسرائيل واجتماع الشعب في فلسطين واستعادة الدولة اليهودية وإعادة بناء (الهيكل) وإقامة عرش داود في القدس ثانية وعليه أمير من نسل داود"[1].
أما دائرة المعارف اليهودية فقد كتبت عند شرح كلمة "صهيونية": "يبغي اليهود أن يجمعوا أمرهم وأن يقدموا إلى القدس ويتغلبوا على قوة الأعداء وأن يعيدوا العبادة إلى (الهيكل) ـ مكان المسجد الأقصى ـ ويقيموا ملكهم هناك"[2].
فاليهود الصهاينة يزعمون أن نبيي الله داود وسليمان عليهما السلام قد بنيا (هيكلاً) للرب إلههم، ليكون مكان عبادة وتقديس لكل بني إسرائيل، وأنه تم هدمه وتدميره مرتين، المرة الأولى على يد ملك البابليين (نبوخذ نصر) عام 586 ق.م، وأن اليهود قد أعادوا بنائه مرة ثانية عام 516 ق.م بعد عودتهم من السبي البابلي في عهد الحكم الفارسي لفلسطين، وقد هدم المرة الثانية على يد القائد الرومان (طيطس) عام 70م بعد حركة تمرد قام بها اليهود ضد الإمبراطورية الرومانية. ويزعمون أن المسجد الأقصى قائم مكان (الهيكل)، لذلك لا بد من هدم المسجد الأقصى ليتسنى لهم إعادة بناء ما يسمونه (الهيكل الثالث)! خاصة وأن اليهود يعتقدون أن إلههم (يهوه): "لن يدخل القدس السماوية، قبل أن يدخل القدس الأرضية"[3]! كما أن (الهيكل) في عقيدة اليهود هو رمز السيادة اليهودية العالمية على جميع (الجوييم) أي الحيوانات الحليقة التي خلقها رب اليهود (يهوه) على هيئة الإنسان لتليق بخدمة السيد اليهودي!.
وقد عبر مؤسس الحركة الصهيونية الحديثة (تيودور هرتزل) عن أهداف اليهود الحقيقية التي أعدها اليهود الصهاينة للقدس والمسجد الأقصى وغيره من أماكن العبادة الخاصة بأشقائنا النصارى في فلسطين؛ أصدق تعبير في يومياته بتاريخ 23/9/1901م، عندما كتب يقول: "عندما أتذكرك أيتها القدس في المستقبل فإن ذكرياتي ستكون حزينة... فإن ما مر بك من ظلم ومهانة على مدار ألفي عام جعل رائحة العفونة تنبعث من شوارعك الضيقة، وجعل القاذورات تملأ كل شبر فيها... وقد لعب الرجل ـ ذاك الناصري الحالم (يقصد المسيح) ـ طيلة فترة وجوده هناك دوره في زيادة الكراهية لنا. فإذا ما حصلنا على القدس في يوم من الأيام سأبدأ بتنظيفها... سأزيل كل ما هو غير مقدس وسأحرق كل الآثار العلمانية ـ يقصد المساجد والكنائس ـ ولن أُبقى داخل أسوار القدس إلا على الأماكن المقدسة وبيوت العبادة والمؤسسات الخيرية ـ الخاصة باليهود طبعاً ـ. أما خارج الأسوار فستُبنى القدس الجديدة على الجبال العريضة التي تحيط بالمدينة وحينئذٍ سوف يراها كل من هو قادم إليها من جبل الزيتون. إني أريد أن أحول القدس إلى جوهرة"[4]. وذلك هو حال القدس مع المخططات الصهيونية التي بدأت منذ اليوم الأول لاحتلالها عام 1967 وواقع الحال يقول أن الصهاينة أوشكوا على تحقيق تلك الأهداف في ظل واقع عربي ودولي متواطئ!
أما (دافيد بن غوريون) أول رئيس وزراء لكيان العدو الصهيوني الجميع سمع عبارته المشهور: "لا معنى لـ(إسرائيل) بدون القدس، ولا معنى للقدس بدون (الهيكل)"[5]، وهناك من أضاف: "ولا معنى للهيكل بدون العرش".
من يقرأ أو يسمع تلك المبالغات يتصور أن (الهيكل) كان ـ وما زال ـ منذ إبراهيم u وهو يحظى بهذه المنزلة في عقيدتهم، وهذه المكانة الدينية في حياتهم، وهذه الأهمية في تاريخهم السياسي. ولكن مَنْ يُلقي نظرة على التوراة وخاصة أسفار موسى u الخمسة المعتمدة عند كل الطوائف الدينية اليهودية ولا خلاف عليها بينهم؛ لا يجد أي إشارة لعلاقة مقدسة بين القدس أو المعبد (الهيكل) وبين الله، أو ما يشير إلى تقديس إبراهيم u لبقعة ما كمكان عبادة بأمر إلهي، أو ما يوحي بعلاقة قدسية بينه وبين ذلك المكان. ولو كانت القدس ذات مكانة أو أهمية دينية، ولها قدسيتها عند رب اليهود، كان جاء ما يُشير إلى ذلك في سيرة جد بني إسرائيل الأكبر، إبراهيم u، الذي قطع ذلك الرب "يهوه" له وعداً أن تكون له ولذريته من بعده السيادة على الأرض. ولكنه سيجد أن الحديث عن العلاقة بين الإله والمقدس، بين "يهوه" والقدس و(الهيكل) كثر بعد السبي البابلي. وذلك ما سنوضحه ونرد عليه.
1ـ (الهيكل) أو المعبد زمن نبي الله إبراهيم u
من يرجع إلى قصة إبراهيمu في التوراة لن يجد أي ذكر للقدس فيها حتى يكون لها تلك المكانة المقدسة في عقيدتهم، تلك الخرافة التي أوهم اليهود بها العالم ويحاولون تثبيتها في أذهانهم حقيقة لا خيال! كما أنه لن يجد في القصة أي ذكر للمعبد أو (الهيكل)، وسيكتشف أن إبراهيم u لم يبنِ هيكلاً ولكنه بنى ـ بحسب زعم التوراة ـ مذبحاً للرب في شكيم "نابلس" وليس في القدس. فقد ذكر (سِفر التكوين:12/ 6-9)، أنه بعد أن وصل إبراهيم وزوجه سارة، وابن أخيه لوط إلى فلسطين: 6وَاجْتَازَ أَبْرَامُ فِي الأَرْضِ إِلَى مَكَانِ شَكِيمَ إِلَى بَلُّوطَةِ مُورَةَ. وَكَانَ الْكَنْعَانِيُّونَ حِينَئِذٍ فِي الأَرْضِ. 7وَظَهَرَ الرَّبُّ لأَبْرَامَ وَقَالَ: «لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ». فَبَنَى هُنَاكَ مَذْبَحًا لِلرَّبِّ الَّذِي ظَهَرَ لَهُ. 8ثُمَّ نَقَلَ مِنْ هُنَاكَ إِلَى الْجَبَلِ شَرْقِيَّ بَيْتِ إِيل وَنَصَبَ خَيْمَتَهُ. وَلَهُ بَيْتُ إِيلَ مِنَ الْمَغْرِبِ وَعَايُ مِنَ الْمَشْرِقِ. فَبَنَى هُنَاكَ مَذْبَحًا لِلرَّبِّ وَدَعَا بِاسْمِ الرَّبِّ. 9ثُمَّ ارْتَحَلَ أَبْرَامُ ارْتِحَالاً مُتَوَالِيًا نَحْوَ الْجَنُوبِ.
نفهم من النص: أن التوراة تعترف أن العرب (الكنعانيين) هم سكان الأرض الأصليين قبل أن يدخلها إبراهيم، لذلك لم أحاول أن أُتبث أن فلسطين كانت تسكنها قبائل عربية قبل قدوم إبراهيم إليها*. كما يتضح من النص أن إبراهيم لم يبنِ هيكلاً في بيت المقدس، ولكنه بنى مذبحاً في شكيم، وآخر فيما بين عاي وبيت إيل، وبيت إيل منطقة بجوار نابلس وليست بجوار القدس. وفي حال كانت مزاعم اليهود الصهاينة صحيحة فإنه يُفترض بهم أن يكون التقديس لشكيم أو بيت إيل وليس للقدس؟!.
أما عن علاقة إبراهيم بالقدس لا يوجد سوى نص واحد في التوراة لم يحدد الزمن الذي زار فيه إبراهيم القدس، أو إن كانت الزيارة إليها لقداستها ومكانتها عند الله، أو أنها زيارة عادية؟! ورد في (سِفر التكوين:14/18،20)، "18وَمَلْكِي صَادِقُ، مَلِكُ شَالِيمَ، أَخْرَجَ خُبْزًا وَخَمْرًا. وَكَانَ كَاهِنًا ِللهِ الْعَلِيِّ. 19وَبَارَكَهُ وَقَالَ: «مُبَارَكٌ أَبْرَامُ مِنَ اللهِ الْعَلِيِّ مَالِكِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، 20وَمُبَارَكٌ اللهُ الْعَلِيُّ الَّذِي أَسْلَمَ أَعْدَاءَكَ فِي يَدِكَ». والنص جاء في التوراة على لسان (ملكي صادق) ملك القدس (يبوس) آنذاك. وتذكر المصادر التاريخية والتوراة أن المكان الذي بارك فيه ملكي صادق إبراهيم u كان هو نفس المكان الذي تُقوم عليه الصخرة المشرفة الآن، "وأن مذبح الصخرة المشرفة كان يُعتبر أهم مكان للعبادة ليس فقط لكل الأقوام التي تسكن أرض كنعان وإنما كذلك للعمونيين الذين كانوا يسكنون شرقي نهر الأردن"[6]. كما أن التوراة لم تذكر لنا شيء عن حقيقة العلاقة بين إبراهيم u والرجل الصالح ملكي صادق الذي باركه، ولا عن معرفة اليبوسيين لله باسم "العلي"، ذلك الاسم الذي جعل علماء الآثار والأديان يقولون: أن اليبوسيين أقدم الشعوب التي عرفت عبادة الله وعقيدة التوحيد؟!.
وإذا أردنا الاجتهاد في تفسير ذلك؛ نقول: إما أن يكون ملكي صادق قد آمن بالله على يد إبراهيم u، وعبر له عن امتنانه بذلك مستعملاً الاسم الذي تعلمه من إبراهيم. أو أن يكون ملكي صادق من أتباع هود أو صالح عليهما السلام، اللذين هاجرا إلى فلسطين حاملين معهما عقيدة التوحيد بعد أن حل عذاب الله بقوميهما الكافرين؟ لا سيما وأن المصادر التاريخية الإسلامية تشير إلى أن "صالح u ومن آمن معه، خرجوا إلى بلاد الشام حيث نزلوا المنطقة من الحِجر إلى قرح أي نحو وادي القرى (وهي مدائن صالح الحالية) إلى رملة فلسطين على 18 (ثمانية عشر) ميلاً بين الحجاز والشام"[7].
إبراهيم u لم يبنِ هيكلاً ولا معبداً في القدس ولم يكن للقدس أي مكانة دينية ولم تشكل له أي أهمية دينية، ولمتذكر لنا التوراة إلا قصة مباركة ملكي صادق لإبراهيم u فقط.
[1] عبد الله التل، جذور البلاء، القسم الأول، المكتب الإسلامي، بيروت 1405هـ-1985م، الطبعة الثانية، ص138. محمد مصباح حمدان، الاستعمار والصهيونية العالمية، المكتبة المصرية،صيدا، لبنان، 1967م، ص127.
[2] عبد الله التل، جذور البلاء، مرجع سابق، ص138
[3] أسعد رزوق "دكتور"، التلمود والصهيونية، الناشر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، (بلا مكان طبع)، الطبعة الثانية، 1411هـ ـ1991م، ص232.
[4] يوميات هرتزل: إعداد أنيس صايغ، ترجمة هيلدا شعبان صايغ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، مركز الأبحاث منظمة التحرير الفلسطينية، الطبعة الثانية 1973، بيروت.
[5] أحمد عبد ربه بصبوص، القدس تناديكم، دار البشير للتوزيع والنشر، عمان، الطبعة الأولى، 1415هـ ـ1995م، ص16.
* علماً أن إبراهيم هو الآخر عربي العرق، إذا اعتبرنا أن القبائل التي هاجرت من جنوب ووسط أو شرق الجزيرة العربية وغمرت كل أجزاء الجزيرة العربية الشمالية (بلاد الشام والهلال الخصيب) هي قبائل عربية، نسبة إلى موطنها الأصلي، خاصة وأن إبراهيم كما سبق أن أوضحنا عربي العرق على أرجح الأقوال.
[6] خالد محمد غازي، القدس سيرة مدينة دراسة وشهادات، دار الهدى للنشر والتوزيع، المنيا، مصر، الطبعة الأولى 1998م، ص94.
[7] سعد زغلول عبد الحميد "دكتور"، في تاريخ العرب قبل الإسلام، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت. (بلا رقم طبعة ولا سنة نشر)، ص202.