الأمْنُ السّياسيّ
4/7


ومبعث الأمن في مبدأ الشورى يتجلى في الفوائد المستقاة منها والتي([1]):
أولها : إحراز الصواب غالباً، وقد قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : ((إنّ الله لايجمع أمتي على ضلالة))([2])، فتطابق الأرواح الطاهرة على الشئ الواحد من أعظم أسباب الوقوف على إرهاصات حصوله، وقد يختص بعضهم بمعرفة المصلحة والصواب فيكون في الاستشارة كشف لهذا المستور فتعم الفائدة.
ثانيها: الأمن من ندم الاستبداد بالرأي الظاهر خطؤه ، والذي قد يولّد في النفوس ما لا تحمد عقباه ، وقد روي مرفوعاً إلى النبي – صلى الله عليه وسلم - : ((استرشدوا العاقل ترشدوا ، ولاتعصوه فتندموا))([3]).
ثالثها: ازدياد العقل واستحكامه: قال الطرطوشي ـ رحمه الله تعالى ـ: (المستشير وإن كان أفضل رأياً فإنه يزداد برأيه كما تزداد النار بالسليط ضوءً)([4]).
وقال ابن الأزرق ـ رحمه الله تعالى ـ: (وقد قيل المشاورة لقاح العقل ، ورائد الصواب، ومن شاور عاقلاً أخذ نصف عقله)([5]).
وقال بعض الحكماء: (حقّ على العاقل الحازم أن يضيف إلى رأيه آراء العقلاء، فإذا فعل أمن عثاره، ووصل إلى اختياره)([6]).
رابعها: الأمن من عتب الأمة عند الخطأ ، وإقامة الحجّة على المعترض : فلو حصل خطأ بعد الشورى فإنّ اللوم لايقع على الإمام وحده ، وتنتفي حجة المعترض بعد ذلك، وقد قيل: ( من أكثر المشورة لم يعدم عند الصواب مادحاً وعند الخطأ عاذراً)([7]).
خامسها: التجرد بها عن الهوى والبعد عن الوقوع في شباكه : وقد سئل أحدهم: (لم كان رأي المستشار أفضل من رأي المستشير؟! فقال: لأنّ رأي المستشار مُعرّى من الهوى)([8]).
وفي ذلك يقول الشاعر بشار بن برد :
إذا بلــغ الرأي المشــورة فاستعــن... برأي لبيب أو نصحية حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة... فإنّ الخــوافي قــوة للقــوادم

سادسها: استمناح الرحمة والبركة: قال عمر بن عبدالعزيز ـ رحمه الله تعالى ـ: (المشورة والمناظرة بابا رحمة ومفتاحا بركة لا يضلّ معهما رأي ولا يفقد معهما حزم)([9]).
سابعها: والشورى خير وسيلة للكشف عن الكفاءات والقدرات ، وبها يظهر الأكفاء لتستفيد الأمّة من كفاءاتهم ، قال صاحب العقد الفريد: ( من فضل الشورى أنها تكشف لك طباع الرجال، فمتى طلبت اختيار رجل فشاوره في أمر من الأمور يظهر لك رأيه وفكره وعدله وجوره وخيره وشرّه )([10]).
إذن ـ وفي ضوء ما سبق ـ ففي الشورى استظهار لرأي الأمة الأمر الذي ينجم عنه تطييب لخواطرها ، وإرضاء لنفوسها ، وإعلاء لقدرها فتكون أدعى لتحمل مسؤولياتها تجاه عاقبة أمرها وقرارها.
كما أنه في الشورى إفلات بالقرار من المركزية الفردية ممّا يحول دون استبداد الحاكم أو طغيانه أو انحرافه ... وأعظِمْ بها من ثمرات أمنية لها آثارها الطيبة الزكية .

وبعد تقرير مبدأ الشورى خطا الشرع خطوة بالغة ذات توجه فاعل في بسط الأمن وديمومته؛ إذ جاءت النصوص الشرعية بضرب الرّقابة على الإمام من قبل الرّعية ، من خلال الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي موضوعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذ هي دليل ساطع وبرهان قاطع في تقرير رقابة الأمة على الحاكم كقوله تعالى : { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويطيعون الله ورسوله}([11]) وقوله سبحانه: { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}([12]).
ومن الشواهد النبوية قوله– صلى الله عليه وسلم - : (( مَنْ رأى منكم منكراً فليغيّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان))([13]).
وقوله عليه الصلاة والسلام: ((إنّ الله لا يعذب العامة بذنوب الخاصة حتى يرى المنكر بين أظهرهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه))([14]).
ولما سئل رسول الله – صلى الله عليه وسلم - أي الجهاد أفضل؟ قال: ((كلمة حق عند سلطان جائر))([15]).
فمقتضى الولاية بين المسلمين التناصح على الحق لقوله– صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه عنه تميم الداري رضي الله عنه : ((الدّين النصيحة، قلنا لمن يارسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامّتهم))([16]).
كذلك جاء الإفصاح في الكتاب والسنة عن نطاق رقابة الأمة ، فتبيّن أنها رقابة مسلطة على واحبات الخليفة وسلطاته التي نيطت به ، وهذه السلطات منها ما هي ذات اختصاصات تشريعية مستشفة من قوله تعالى : { ثمّ جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولاتتبع أهواء الذين لايعلمون}([17]) وقوله {إنّ الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}([18]) ومنها ما هي ذات اختصاصات تنفيذيّة مستقاة من قوله تعالى {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}([19]).
أما السلطة ذات الاختصاصات التشريعية فترمي إلى تحقيق المصالح العامّة ، إذ هي المقصود من أحكام الشريعة ، وعليه يجب أن تستهدف سلطات الخليفة واختصاصاته مصالح المسلمين ، فلا يجوز أن يستخدم سلطاته تلك إلا للأغراض التي تقرّرت من أجلها ، فقوله تعالى : { ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها } تنويه بالشريعة التي حوت مقاصدها الصلاح للخلق وأمر بالعمل بأحكامها في الأمة([20])، ففيها السعادة الأبدية والصلاح والفلاح ، وقوله تعالى : { إنّ الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } فالأمانات عامّة في كل ما ائتمن عليه الإنسان فأمر بالقيام به ، فدخل في ذلك أمانات الولايات والأموال والأسرار والمأمورات التي لايطلع عليها إلا الله([21])، وعليه ( تدخل الولاة في هذا الخطاب أولياً ، فيجب عليهم تأدية ما لديهم من الأمانات)([22])، فكانت الآية الأولى أمراً بامتثال الشريعة التي تحوي مصالح الناس ، والآية الثانية أمراً بإيصال هذه المصالح إلى أهلها.
والرقابة التي تضرب على هذه السلطة إنما هي (رقابة الشرعيّة)([23]) حيث إنه في مجال الاختصاصات التي تحكمها نصوص الشريعة فإنّ للأمّة الحق الكامل في ممارسة رقابتها على أعمال الخليفة وتصرفاته ، إذ هي نصوص واضحة وقاطعة لاتدع للخليفة أدنى حريّة لإرادته الشخصية ، فإذا تصرف بما يخالف الشريعة ألزمته الأمّة بالعدول.
كما أنه في مجال التشريع لايجوز للخليفة أن يمارس التشريع مالم يكن مجتهداً ، وأن يكون اجتهاده في المسائل الخلافية ، ورقابة الأمة مقرّرة في هذه الأمور جميعاً حماية للشريعة([24]).
وبهذا يهيمن الأمن ويتغلغل الأمان حيث تظل سلطات الخليفة التشريعية وبموجب الرقابة الفاعلة عليها متماشية مع أحكام الشريعة التي هي منبع الأمن ابتداء.
أما سلطة الخليفة ذات الاختصاصات التنفيذية فمستندها قوله تعالى: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}([25]) والعدل هو: (فصل الحكومة على ما في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا الحكم بالرأي المجرّد فإنّ ذلك ليس من الحق في شئ إلا إذا لم يوجد دليل تلك الحكومة في كتاب الله ، ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فلا بأس باجتهاد الرأي من الحاكم الذي يعلم بحكم الله سبحانه ، وبما هو أقرب إلى الحق عند عدم وجود النص)([26]).
إذن سلطات الخليفة ذات الاختصاصات التنفيذية ركيزتها السياسة العادلة التي ينتهجها الخليفة في إيصال الامانات إلى أهلها ، ولمّا كان قوام السياسة العادلة : المواءمة بين الأسلوب الذي يمارسه الخليفة في استخدامه للسلطة وبين الهدف المراد تحقيقه من هذا الاستخدام توجب عليه (أن يتخير أنسب الوسائل التي تحقق العدل والإنصاف والحق والقيام للناس بالقسط دون شطط أو تجاوز عن مقتضيات الهدف الذي يمضي لتحقيقه)([27]).
بالتالي فسلطة الخليفة هذه تضرب عليها (رقابة المواءمة)([28]) بموجبها ( تكون سلطة الخليفة في هذه التصرفات خاضعة لرقابة الأمة لتبطل منها ما كان مخالفاً للسياسة العامة ، ذلك أنّ الهدف من أيّ سلطة من سلطات الخليفة يجب أن يكون تحقيق هذه المصحلة فلا يجوز أن يخرج عما استهدف الشارع تحقيقه من مصالح عامة المسلمين ، لأنّ سلطته تدور مع المصلحة وجوداً وعدماً)([29]).
ووجه الأمن في هذه الرقابة : إيجاد أمة توقف نفسها على الخير والعدل ، وهما ـ أي الخير والعدل ـ دعامتان أساسيتان في بناء المجتمع ووحدته وتماسكه واستقراره ونمائه وهيبته . وتهذيباً للوسائل الموصلة للأهداف ، وحماية للمجتمع من بواعث الشقاق والإرجاف، وحسماً لمادة الخلاف والاختلاف ، جاء تبصير القرآن والسنة بوسائل الرقابة التي تنتهجها الأمة ، فبين الشارع أنها رقابة وقائية وأخرى علاجية([30]).
فالرّقابة الوقائية قوامها : حقّ الأمة في إبداء المشورة وبذل النصيحة على نحو ما أسلفنا فللمشورة مستندها الشرعي {وأمرهم شورى بينهم}([31]) كما أن للنصيحة مستندها الشرعي ؛ قوله - صلى الله عليه وسلم - : ((الدّين النصيحة))([32]).
ومغزى هذه الرقابة بشقيها تزويد الخليفة بالرأي والمشورة والنصيحة في الأمور السياسية والشؤون الدينية التي لم ترد فيها نصوص تشريعية أصلية ، يستنبطونها حسب الأزمان والأحوال ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى مراقبتها لأعمال الخليفة بغية ردّه إلى جادة الصواب إن جانبها([33]).
وذا سبيل قويم لبث الأمن إذ لا يتأتى للخليفة في ظل هذه الرقابة الوقائية للشرعية أن يصدر تشريعاً مخالفاً للشريعة حتى ولو كان مجتهداً ولا أن ينقض إجماع الأمة .














([1]) انظر: الدميجي، عبدالله بن عمر بن سليمان: الإمامة العظمى عند أهل السنة والجماعة ص343 وما بعدها.

([2]) أخرجه الترمذي في سننه ، كتاب الفتن، باب ماجاء في لزوم الجماعة. وابن ماجة في سننه، كتاب الفتن، باب السواد الأعظم.

([3]) أخرجه الخطيب عن رواية مالك عن أبي هريرة مرفوعاً ، انظر: السيوطي: الدر المنثور 6/10.

([4]) الطرطوشي، أبوبكر محمد بن محمد الوليد الفهري: سراج الملوك ص98.

([5]) انظره : ابن الأزرق : بدائع السلك 1/304 ، والطرطوشي : سراج الملوك 1/304.

([6]) المصدر السابق نفسه والصفحة .

([7]) المصدر السابق نفسه والصفحة .

([8]) ابن الأزرق : بدائع السلك 1/304 ـ 305.

([9]) الغزالي : بدائع السلك 1/305. وانظر: الماوردي:أدب الدنيا والدين، ط3، ص289.

([10]) النصيبي، أبوسالم محمد بن طلحة القرشي: العقد الفريد ص43.

([11]) سورة التوبة آية (71).

([12]) سورة آل عمران آية (104).

([13]) سبق تخريجه .

([14]) أخرجه الإمام أحمد في مسنده 4/192.

([15]) أخرجه ابن ماجة في سننه، كتاب الفتن ، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجة 2/369، رقمه (3240).

([16]) أخرجه مسلم في صحيحه 2/228، كتاب الإيمان، باب الدين النصحية.

([17]) سورة الجاثية آية (18).

([18]) سورة النساء آية (58).

([19]) سورة النساء آية (58).

([20]) انظر: الشوكاني: فتح القدير 5/10

([21]) انظر: الطبري: جامع البيان 5/146.

([22]) الشوكاني: فتح القدير 1/613.

([23]) العيلي: الحريات العامة 242.

([24]) انظر: العيلي: الحريات العامة ص237.

([25]) سورة النساء آية (58).

([26]) الشوكاني: فتح القدير 1/613.

([27]) الغزالي: التبر المسبوك في نصائح الملوك ص28 ـ 29.

([28]) العيلي: الحريات العامة ، ص242.

([29]) السنوري: الخلافة ص177 ـ 178. وانظر: العيلي: الحريات العامة، ص238.

([30]) انظر: العيلي: الحريات العامة ، ص242.

([31]) سورة الشورى آية (38).

([32]) سبق تخريجه .

([33]) انظر: العيلي: الحريات العامة ، ص243.