الأمنُ السّياسيّ
(2/7)


... إذا كان ذلك كذلك فهنا يبزغ نجم أهل الحل والعقد ؛ في المبادرة إلى تنصيب إمام للمسلمين سالكة إلى ذلك المراحل التالية :
المرحلة الأولى : تقديم المرشح أو المرشحين من المستوفين (للشروط اللازمة للإمامة)([1])؛ كأن يقدم واحد أو أكثر من أهل الحل والعقد مرشحاً أو مرشحين ليتم الاتفاق على ترشيح واحد منهم، كما هي الحال عندما قدم أبو بكر عمرَ وأبا عبيدة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ: ( بل نبايعك أنت فأنت سيدنا وخيرنا وأحبّنا إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم - )([2]).
وعندما قدّم عبدالرحمن بن عوف عثمان بن عفان ـ رضي الله عنهما ـ([3])، وقدّم الزبير بن العوام وبعض الصحابة علياً رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين([4]).
وتجدر الإشارة هنا إلى أنه وفي هذه المرحلة قد يكون إسناد السلطة عن طريق الاستخلاف من الخليفة السابق كما حدث عندما اختار أبوبكر الصديق رضي الله عنه وهو على فراش الموت عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ([5])، ومثلما اختار عمر بن الخطاب ستة من الصحابة ليكون الخليفة واحداً منهم([6]).
وفي كلتا الحالتين يبدو الأمن قرين هذه المرحلة بجلاء ؛ إذ أنّ هؤلاء الذين قدّموا المرشحين هم الذين سبق أن منحتهم الأمة ثقتها وأوكلت إليهم أمرها وعليه لا يكون هناك دواعي للتضجر أو التسخط والتذمر في ربوع المجتمع حول مساعي هؤلاء وما تتمخّض عنه.
أما المرحلة الثانية فهي : مرحلة اختيار المرشح للخلافة بمعرفة أغلبية أهل الحل والعقد؛ فإذا اجتمع أهل الحل والعقد للاختيار تصفحوا أحوال أهل الإمامة الموجودة فيهم شروطها فقدموا للبيعة منهم أكثرهم فضلاً ، وأكملهم شروطاً ، ومن يسرع الناس إلى طاعته ولا يتوقفون في بيعته ، مع مراعاة أحوال الزمان وملابساته ، فيقدمون الأعلم عند ظهور البدع وقلة العلم وسكون الفتن ووفرة الأمن، ويقدمون الأشجع عند ظهور العدو وأهل الفساد والبغاة.
ومن الشواهد الشرعية والتاريخية على هذه المرحلة اجتماع زعماء الأنصار في سقيفة بني ساعدة بمجرد علمهم بوفاة الرسول – صلى الله عليه وسلم - ليبحثوا فيمن يتولى الخلافة ، وفي نهاية المناقشات والتمحيص وقع الاختيار على أبي بكر الصديق رضي الله عنه([7]).
وهذه المرحلة مكمّلة لسابقتها في تعضيد الأمن وترسيخه في غضون هذا الظرف الحرج ؛ إذ أن إخضاع المرشحين للتمحيص والتمييز فيه دلالة بيّنة على دقة الانتقاء وحساسية الاجتباء وسلامة الاصطفاء عبر هذا الممر إلى تولي السلطة فتلوح في الأفق عندئذ بوادر الأمن والاطمئنان .
وتعقب المرحلة السابقة المرحلة الثالثة الأخيرة ؛ وهي مرحلة البيعة العامة التي يشترك فيها عموم المسلمين ، وهي المرحلة الأساسية لاختيار الخليفة ، فلا يتم تقليده إلا بها وقد بدت جلية واضحة في اختيار الخلفاء في صدر الإسلام([8])، ويقول عنها الغزالي ـ رحمه الله تعالى ـ: ( لو لم يبايعه ـ أبا بكر ـ غير عمر وبقي كافة الخلق مخالفين أو انقسموا انقساماً متكافئاً لايتميز فيه غالب أو مغلوب لما نعقدت الإمامة)([9]).
وعن هذه المرحلة قال ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ: ( الإمامة ملك وسلطان ، والملك لايصير ملكاً بموافقة واحد ولا اثنين ولا أربعة ، إلا أن تكون موافقة هؤلاء تقتضي موافقة غيرهم بحيث يصير ملكاً بذلك)([10]). فتأمل قوله رحمه الله ( إلا أن تكون موافقة هؤلاء تقتضي موافقة غيرهم) فهذا ينطبق على أهل الحل والعقد إذ الأمة هي التي منحتهم ثقتها وأنابتهم عنها في التصرف بحق ثابت لهم هو اختيار الخليفة ، وعليه فمؤشرات الوفاق وتباشير الاتفاق تلوح بسطوع ، إذ كلّ الدلائل تشي بموافقة جماهير الأمة على عقد البيعة للإمام الذي ارتضاه لهم أهل الحل والعقد .
وميزة هذه المرحلة أنها مسك الختام في تكليل الجهود الحثيثة ، وتتويج المساعي الكثيفة التي بذلها أهل الحل والعقد برأيهم المستنير المستمد من علمهم بكتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وسلم - ومصالح المسلمين ؛ إذ بعد مفاضلتهم بين المرشحين يختارون أكفاءهم لترشيحه وعرضه على الأمة لتوكيد الاختيار أو رفضه مما يفضي إلى استقرار الأمر على خليفة تبايعه الأمة فتخيم الأجواء الأمنية على الأمة لما خطته من خطوات سليمة ، وانتهجته من مناهج قويمة في الترشيح والاختيار والبيعة ، وبهذا تكون قد تشكلت نواة السلطة التنفيذية ؛ فهي من الإمام ومن يُسند إليهم تصريف أمور الدولة من الولاة والأمراء.

ومن هنا ولمّا كان لأهل الحل والعقد هذا الثقل وتلك الأهمية في السير بالأمة إلى شاطئ الأمن وبر الأمان في خضم تلك الظروف الحرجة فحقيق أن تضرب عليهم الحماية ؛ لأنّ ذلك في حقيقته حماية لخيار الأمّة إذ هم ممثلوها ومفوَّضوها في ممارسة حقها في اختيار الخليفة ، وقد فطن لذلك السلف الصالح ـ رضي الله عنهم ـ فعملوا به ؛ فقد ذكر صاحب الطبقات أنّ عمر ـ رضي الله عنه ـ أرسل إلى أبي طلحة قبل أن يموت فقال: ( يا أبا طلحة كُنْ في خمسين من قومك من الأنصار ـ مع هؤلاء النفر ـ أصحاب الشورى ـ فلا تتركهم يمضي اليوم الثالث حتى يؤمّروا أحدهم)([11]) فالتزم أبوطلحة بهذا ووفى به وجمع خمسين من قومه في باب أهل الشورى تحسّباً للطوارئ إذ ( وافى أبوطلحة ساعة قبر عمر فلزم أصحاب الشورى ، فلما جعلوا أمرهم إلى عبدالرحمن بن عوف يختار لهم منهم لزم أبوطلحة باب عبدالرحمن بن عوف بأصحابه حتى بايع لعثمان)([12]) فأنفذ أبوطلحة وصية عمر بأن قدّم الحماية لأصحاب الشورى أولاً الذين هم أهل الحل والعقد وقتئذ ثم قدّمها إلى ممثلهم عبدالرحمن بن عوف حيث أنابوه في الاختيار أخيراً .
بهذه الشواهد الشرعية وغيرها مما لم يذكر تثبت مشروعية النيابة عن الأمة ، يتقلدها نخبة عرفوا بأهل الحل والعقد وهم من العلماء والحكام والأمراء ووجوه الناس الذين يتيسر اجتماعهم ، وسائر الرؤساء والزعماء الذين يرجع الناس إليهم في الحاجات والمصالح العامة([13]) ـ وهؤلاء هم نواة السلطة التشريعية ـ فهم الذين عناهم الله تعالى بقوله: { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم }([14]). ومن نظر نظرة فاحصة في أهل الحل والعقد يلحظ أنهم (هم الذين يأمرون الناس، وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة، وأهل العلم والكلام ، فلهذا كان أولو الأمر صنفين: العلماء والأمراء)([15]) وأنهم ينالون مكانتهم تلك ـ كأهل حل وعقد ـ بوكالة ضمنية كما حصل في صدر الإسلام ؛ إذ تجدهم معروفين واضحين يشار إليهم بالبنان ، استفاض عند الناس أنهم أهل تقوى ، إليهم تصير الفتوى ، وإليهم يرجع الناس ، رفعهم إلى هذه المنزلة أعمالهم وتقواهم وعدالتهم وسابقتهم في الإسلام وجهادهم فيه وصحبتهم للنبي - صلى الله عليه وسلّم - ومدح القرآن الكريم لهم ، وعليه عندما يتصرفون في حقوق تعود للأمة أصلاً كاختيار الإمام تواطئهم الأمة عليه وترضى وتتابعهم وذلك رضاء ضمني لوكالتهم([16]).

أما في العصر الحاضر ومع تغيّر الزمان فبالإمكان اختيار أهل الحل والعقد بوكالة صريحة عبر نظام الانتخابات وذلك سدّاً للذريعة ؛ حيث ( إنّ إجازة مثل هذا التوكيل الضمني يفتح باباً خطيراً على الأمّة ويؤدي إلى فوضى وشر مستطير ؛ إذ يستطيع كلّ عاطل عن شروط أهل الحل والعقد أن يدّعي لنفسه هذه المنزلة وينصب نفسه ممثلاً عن الأمة ونائباً عنها بحجة أنها ترتضي نيابته ضمناً)([17]).











([1]) هي : الإسلام، الرجولة، والعدالة ، والعلم، وسلامة الرأي ورشده، والشجاعة ، والنسب (قرشي) .انظر: الماوردي: الأحكام السلطانية، ص6. والجويني: غياث الأمم في التياث الظلم ، ص69.

([2]) أخرجه البخاري في صحيحه 5/8، 8/211. وانظر: الطبري، ابن جرير: تاريخ الطبري، تحقيق: محمد أبوالفضل إبراهيم، ط2، 3/206.وابن الأثير، محمد بن محمد بن عبدالكريم: الكامل في التاريخ 2/220. وابن هشام، أبومحمد عبدالملك: السيرة النبوية ، 4/513.

([3]) انظر: ابن سعد: الطبقات الكبرى 3/336.

([4]) انظر: ابن قتيبة، عبدالله بن مسلم: الإمامة والسياسة1/46 ـ 47 .

([5]) انظر: ابن سعد: الطبقات الكبرى 3/199 ـ 300. وابن كثير: البداية والنهاية 7/18.

([6]) انظر: ابن سعد: الطبقات الكبرى 3/336.

([7]) انظر: العربي، محمد بن عبدالله: نظام الحكم في الإسلام ص69.

([8]) انظر: ابن قتيبة: الإمامة والسياسة، ص74.

([9]) الغزالي: الرد على الباطنية ص177.

([10]) ابن تيمية: منهاج السنة، ص367.

([11]) ابن سعد: الطبقات الكبرى 3/61.

([12]) المصدر السابق نفسه، ص62.

([13]) انظر: ابن تيمية: الحسبة، ص185. وعبده، محمد: تفسير المنار 5/181. والخازن: لباب التأويل 1/372. والريس: النظريات السياسية الإسلامية ، ص179. والبياتي: النظام السياسي الإسلامي، ص175.

([14]) سورة النساء آية (59).

([15]) ابن تيمية : الحسبة، ص185.

([16]) الماوردي: الأحكام السلطانية، ص5. وانظر: ابن جماعة: تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلامص48.

([17]) ابن جماعة: تحرير الأحكام، ص49.