افتحوا الحوار…وأوقفوا جنون الشبيحة والمخابرات قبل أن ياتينا كل مجانين الأرض….
كانت هذه آخر كلماتي في مجلس الشعب نهاية 2011 وأعقبتها علقة ساخنة من زملائي في المجلس من فلاسفة المؤامرة الكونية، تبعتها عمليات متتابعة من الإساءة والإهانة والمصادرة والمطاردة لمشروع الطريق الثالث الذي أعلناه حلاً وخلاصاً من الكارثة الماحقة التي كانت قد بأت للتو تكشر عن أنيابها….
كان الطريق الثالث قراءة بديهية لما يؤمن به كل أحد، هناك حكومة وهناك معارضة وهناك مستقلون… ومن البدهي أن يزداد أعوان النظام عندما ينجح مشروعه وكذلك المعارضة عندما تكثر نجاحاتها، ومن الطبيعي ايضا ان يخسر الفريقان جمهورهما عندما يفشلان في تحقيق سعادة الناس.
أيام ذلك الزمن (الجميل) لم يكن شعبنا قد سمع بداعش والنصرة ولا ما يدعشون، ولم يكن قد سمع ببراميل الموت ولا صواريخ سكود، وكانت الناس لا زالوا يصدقون الكذبة الشهرية ان كل شيء سينتهي آخر الشهر وهي كذبة تتكرر بالصيغة اياها منذ اربعين شهرا ولا تزال.
وهو زمن جميل على حد وصف عبد الله بن المبارك لليهودي المفلس الذي سأله عن حديث الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، وراح يصف له عناءه وقهره وجوعه وفقره ومرضه، وقال هل انا في جنة؟؟ وكان جواب ابن المبارك: ان ما انت فيه من شقاء جنة بالنسبة لما ينتظرك من حساب عسير…
هكذا يعيش السوريون اليوم في قهر الحاضر بانتظار مكر الغد، ولم يكن اشد المحللين تشاؤما يتوقع ان تنجلي الاحداث عن هذا الواقع المرير.
الحسم العسكري في سوريا مستحيل، قالها فاروق الشرع منذ سنتين، وانكفأ الى منزله وقال: رزقي على الله…..
الطريق الثالث ليس قدرا ساقطاً بين المتحاربين، لكنه قراءة واعية لمشروعين استئصاليين، يعتمدان العنف في صراع مجنون، وتتردد على ألسنة الفلاسفة في الضفة الاولى ان الحرية غالية وتستحق ملايين التضحيات، وأما الأغنية الراقصة على الضفة الاخرى فهي ان السيادة غالية وتستحق ملايين التضحيات.
وعادة ما يكون المطالبين بملايين الضحايا من أولئك الذين يعيشون في العواصم المترفة مع أسرهم ولكنهم للأمانة يتابعون ويرصدون ويعدون باهتمام كل الضحايا، ويقومون بتوزيع أسمائهم وصورهم على بيانات الاكسل التفاعلية الجذابة.
المعارضة رأت في الطريق الثالث آنئذ حبل نجاة للنظام، ورأى كثير من فلاسفتهم أن ذلك يتم بالتنسيق معهم، ولكن الرئيس بشار وقف امام الناس علنا ليقول هناك فقط طريقان طريق الوطن وطريق الخيانة، ولا يوجد طريق ثالث، والرماديون خونة مارقون، ولا مكان للوسطية والاعتدال في ساعة الحرب.
عاش الطرفان عاما كاملا من الوعود بالعسل، فالنظام يتحدث عن حسم كامل خلال اسابيع والمعارضة تتحدث عن قرار في مجلس الامن يزلزل الارض زلزالها، ولكن شيئا من ذلك لم يحصل، ولا تعرف حرب في العصر الحديث بلغت تصريحاتها الكاذبة حجم هذه الحرب، شكلاً ومضمونا.
انتظروا طويلا الحسم العسكري كما ينتظر الامام الغائب، وعاشوا بسراب الآمال، ولكن صفعة الواقع كانت مريرة وقاسية، وفرضت على الجميع إعادة الحسابات وقراءة الكارثة بحروفها الحقيقية دون رتوش.
فكرة الطريق الثالث محاولة لقراءة شارع عريض لا يؤمن بالحلول الاستئصالية وليس له مصلحة في هذه الحرب المجنونة، وقد عانى كل أنواع الهوان خلال هذه الأيام الرديئة، يعيش هؤلاء في المدن السورية المنسية، يرقبون الأقدار الكئيبة التي لا تأتي أبداً على وفق آمالهم، وحين يسمعون أي طرف يعلن في مدينتهم عن التحرير فانه يعني لا محالة التدمير، فالنظام يحرر والمعارضة تحرر وداعش تحرر، والدمار هو الحاضر الأكيد تحت كل راية تحرير بلهاء، وهناك مدن سورية نالت شرف التحرير ست مرات وتقاذفها جنون الموت ونالها الدمار الشامل من الجهات الستة.
اليوم يتجدد الحديث عن الطريق الثالث حلاً للنكبة السورية، وربما لا يوجد كلمة أرق أو أدق في التعبير عن المصيبة الزرقاء التي نحن فيها من كلمة النكبة.
والطريق االثالث ليس انكفاء في ركن اليأس واعتكافاً في صومعة العاجزين، إنه في الواقع نداء لكل النفوس السورية التي تعبت من الحرب، والتي لم تعد تجد في الحياة أملا ولا رجاء من اجل البحث عن المستقبل.
الطريق الثالث في صورته الإيجابية التي نتصورها هو هيئة وطنية مستقلة من الداخل والخارج تقود حواراً وطنياً يحظى بدعم دولي واستجابة شعبية من الناس، ويشارك فيه حكماء هذا الوطن، من الذين يثق الناس بأمانتهم وإخلاصهم، ويحفظون كلماتهم وأفكارهم وتوجهاتهم من أجل بناء سوريا الجديدة.
الحرب القائمة مجنونة ولم تكن الحرب في تاريخها بدون جنون، وقد أصبح في ملعبها اليوم دول وجيوش وأساطيل وأحلاف، والمحاربون هذه المرة من نوع لا يشبه الحروب التقليدية، محاربون ولكن لا يرغبون ان تغبر نعالهم، ولا تتسخ ثيابهم ولا تنطعج كسرة بنطلوناتهم، انهم يقتلون فقط!! يقتلون ولا يقاتلون، ويقصفون ولا يواجهون، ولا يملكون حتى رصيداً هاتفياً للتواصل مع حلفائهم الهائمين على الأرض!! ويتعين على اصحاب الارض ان يواجهوا قدر التقاتل الوحشي ويدفعوا بعبث مجنون آلاف الضحايا، وعلى الأرض فإن قدرهم أن يمارسوا تدمير مدنهم لتحريرها من خصومهم الذين ما يلبثوا أن ينقضوا من جديد ليمارسوا الفعل الغبي نفسه من تدمير وتحرير……
بنادق بلا ضمائر ودبابات بلا شرف وطائرات بلا قلوب…. إما أن تكفر بالحرب او تكفر بالإنسان….
هناك أفق آخر ينبغي ان يلتقي فيه السوريون، يجتشد فيه أولئك الذين يرفضون الحرب، ويؤمنون بالسلام …. من أجل سوريا…
الطريق الثالث هو المكان الذي يلتقي فيه السوريون بدون هوية مؤيد أو معارض، بدون رغبة في الدعس والمعس والفعس، ودون رغبة في النصر الكاذب، لانه لم يعد في الوطن مكان للدبكة، فالوطن كله منكوب، والمآسي تجتاحه من رأسه إلى أخمص قدميه.
يلتقون في جنيف واوسلو وفيينا وبيروت والقاهرة وهناك حديث واحد عن الحاجة لهيئة وطنية من السوريين الذين لا يؤمنون بالحرب، ولا ينتظرون منها حسماً لطرح الخلاص عبر إجماع شعبي ودعم دولي.
حين تقوم هيئة كهذه من شخصيات يثق بها الناس وتطل على الشعب السوري العظيم بحلول واقعية، فإنني أعتقد أن كثيراً من حملة السلاح على الضفتين سيفرحون بأفق كهذا وسيفاوضون من اجل مستقبلهم ومستقبل بلادهم.
ليس حملة السلاح من الاشرار…. ونكفر بعقولنا حين نتصور الضفة الاخرى بلا ضمير، وكثير من المقاتلين لم يخطر في باله يوماً ان يحمل بندقية، لقد كان يعمل في دكانه او سيارته التاكسي او وظيفته الحكومية ولم يكن لديه على الاطلاق مشروع صراع مسلح…. بيوتهم المحطمة وآمالهم المهشمة ودموع اطفالهم ومآسي عوائلهم حولتهم الى محاربين، المسألة في معظمها كانت لحظة كرامة أعقبتها حرب في وادي الموت المجهول.
كل المحاولات السورية الوطنية تقول الشيء نفسه، وفي كل لقاء حضرناه رتلنا ذات المزامير، ولكن لم يقم حتى الآن جهد حقيقي يخرج بالسوريين من أتون الحرب إلى لقاء الحوار العاقل بين أطراف الصراع بعيداً عن صوت الرصاص.
هل نستطيع فعل هذا الشيء الآن في فيينا؟ من يدري…..