جدتي منيفة
قصة قصيرة
بقلم ( محمد فتحي المقداد )*
شاءت الأقدار، أن تكتبَ صفحة مغايرة لحياتي الطبيعية، وأن تكون جدّتي لأمي - منيفة -، حاضنتي، بعد طلاق أمّي بشهرين من ولادتي، أمي تزوّجت وكنت يومها في عامي الخامس من عمري، حدث فراغ هائل، كأنه المجهول في حياتي.
- وأي حضن يعادل حضنك .. يا أمي، إلاّ حضنك .. يا جدّتي.
نبع حنان دافق بعطاء بلا حدود، عوّضني الكثير عما أحتاجه من دفء أحضان أمي ، وأغدقت عليّ من الأمان و الاستقرار الروحي والنفسي، من أنفاسها نسجت أحلامها بأن أشِبًّ على مدارج الشباب، ومن صفحات روحها البيضاء أضافتها إلى صفحتي ، فانتشَتْ التربة الصالحة لِنَبْتٍ مُعافى من التشرّد و الانحراف.
- شآبيبُ الرّحمة تُرطِّبُ تربة قبركِ .. يا نبع عطاء لم ينبض .. حتى وُوْرِيَ الجسدُ النحيل مثواه الأخير.
من القصص الأثيرة إلى نفسها، فلا تفتأ تتحدث بها، تُعيدها وهي لا تدري أننا حفظناها عن ظهر قلب، وكثيراً ما أتعمّد تذكيرها بها بقصد إدخال السرور على قلبها، و يحدُثُ ذلك على فترات متباعدة كنت أُذَكرّها بها، فتبتسم، وتغيب في سراديب ذاكرتها، لتصل إلى رحاب شبابها ولأولى سنوات عمرها المليئة بالحيوية و النشاط .. وتسردُ القصة نديةً ، كما سمعتُها منها لأول مرة في حياتي، نعرف أنّ زمنها غير زماننا بحياة مختلفة، ففي أيام الفلاحين و في الأرياف كان بساطة الحياة لدرجة كبيرة, كانت جدتي تذهب إلى مسجد فاطمة الأثري بجانب بيت جدي في كل وقت، هكذا على السجية، وفي ذات يوم كانت تتجاذب أطراف الحديث مع جارتها، التي يبدو أنها سمعت معلومة بأن لا يجوز خروج المرأة من البيت إلاّ بإذن الزوج، وهي بهذا تعتبر مثقفة وحالتها متقدمة على حالة جدتي، وتوجه سؤالها لجدتي
- فهل تأخذين إذن زوجك للمجيء إلى المسجد؟،
- قالت جدتي " لا والله، هذه أول مرة أسمع وأعرف ذلك"
- قالت لها الجارة :" إذا كان ذلك فإن صلاتك غير جائزة، عليك أن تأخذي الإذن من زوجك"
- هزّت جدتي منيفة رأسها مستغربة ما سمعت، وتأسفت على تعبها الذي ضاع في العبادة كونها لم تأخذ إذن جدّي. كان ذلك وقت صلاة الظهر.. وصممت فيما بينها بين نفسها، أن تسأل جدّي الإذن لها بذلك.. حان وقت العصر تهيأت للذهاب للمسجد، و عرّجت عل جدي وهو جالس في المضافة، فاتكأت على صرعة الباب، وقالت :" يا محمد أريد الذهاب للصلاة في المسجد ، فهل تأذن لي ؟ ".
- ضحك .. وأطلقها مجلجلة ..!! وقال لها :" لا مانع عندي طبعاً .. حتى لو ذهبت للصلاة في الُأُمويّ ".
وعند هذه النقطة تنفلت ضحكتها حتى يصعب عليها متابعة الكلام والإفصاح عن مشاعرها, و أقول لها يا جدتي :" هذا إذن مفتوح بلا قيد ولا شرط ".
تهزّ رأسها إيجاباً .. وكأن الموقف تجسّد أمام عينها الدامعتين .. وهي تجففهما بقطعة قماش ناعمة.. مربوطة بطرف منديلها..