الدكتور جيلالي بوبكر


dr djillali- لكل مجتمع من المجتمعات الإنسانية القديمة والمعاصرة نظمه التربوية والتعليمية، المسئولة عن إعداد الفرد وتكوينه وتعليمه، وفق ما يضمن بقاء المجتمع واستمراره وتطوره، و”أهم ما يميز عصرنا هو أخذه بالأسلوب العلمي والتكنولوجي أسلوبا في الحياة تفكيرا وعملا. لذلك لابد أن تأخذ الجزائر المستقلة بهذا الأسلوب حتى تلحق بركب الحضارة العالمي وتعيش في عصرها وزمانها وتكفل لمستقبلها النمو والازدهار”.
– لكل منظومة تربوية فلسفة ترتكز عليها وتستند إلى مبادئها، تمثل القيم والاتجاهات والمبادئ الفكرية والاجتماعية والسياسية والدينية السائدة في المجتمع، التي تحدد نمط شخصية الفرد المرغوب فيه، بفعل التربية والتعليم، وتعكس ذات المجتمع وآماله وتطلعاته، خاصة وأنّ “الجميع يطالب بالمردودية والفعّالية والنفعية والتسيير العقلاني لقطاع التربية والتعليم” في بلادنا.
- فلسفة بيداغوجيا المقاربات جزء من فلسفة التربية والتعليم في عصرنا، فلسفة انبثقت من التطور الذي شهده ولازال يشهده العالم في جميع جوانب الحياة ، فكريا وعلميا وتكنولوجيا واجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، وتعكس التطور الحاصل بشكل أكبر وأوسع في مجال وسائل وأساليب العمل والتحكم في الطبيعة والسيطرة عليها ، ثم تعدّاها إلى حياة الإنسان، ونتاج ذلك فلسفة التربية وبيداغوجيات التعليم ومقارباته.
- الحديث عن المقاربات البيداغوجية في ميادين التربية والتعليم والتكوين والتنشئة متصل من حيث الأسس والسبل والأهداف بالمنظومة التربوية عامة وبمكوناتها جميعا، الأسرة والمدرسة والمجتمع، وبمكونات كل عنصر من العناصر المذكورة منفصلة ومتصلة، وهي عناصر متداخلة في الكيان والدور والأهداف. والمنظومة التربوية الجزائرية منذ الاستقلال حتى يومنا هذا شهدت ثلاث مقاربات، المقاربة بتبليغ المحتويات وتقوم على التلقين والمقاربة بالأهداف وتقوم على منطق التعليم والمقاربة بالكفاءات وتقوم على منطق التكوين.
- المقاربة بالكفاءات أسلوب تربوي تعليمي له فلسفته وإستراتيجيته التعليمية التكوينية، تبنته المنظومة التربوية التكوينية الجزائرية منذ حوالي عقدين من الزمن، استجابة للتطور الذي عرفته علوم التربية وشهده علم النفس بصفة عامة وعرفته علوم التعليمية بصفة خاصة. تتناول المداخلة مقارنة بين المقاربة بالمحتويات والمقاربة بالكفاءات أولا وثانيا مقارنة بين المقاربة بالأهداف والمقاربة بالكفاءات، بالتركيز على الاختلافات الجوهرية في ميادين وأنشطة التعليم والتكوين.
1- النظام التربوي القديم والنطام التربوي الحديث:
- تقوم التربية القديمة على ثلاثة أسس رئيسية، نمت بفعل تأثير العديد من الاتجاهات والنظم الدينية والعقلية والاجتماعية، وكذلك النفسية والفلسفية في حياة الإنسان التربوية والتعليمية.
أولها: أنّ كل ما يحدثه الإنسان وما يقع له في حياته عامة قدر مكتوب و قضاء محتوم، وواجب الإذعان لأحكام القدر.
ثانيها: الطفل بطبعه شرير، ولا يستأصل الشر من الطفل إلاّ بمراقبة الوالدين المستمرة له ومعاقبته.
ثالثها: لكل إنسان في حياته حدود لا يتجاوزها، عليه بالبقاء في مكانه، والطفل إذا حاول الخروج من دائرته يقابل بالإرهاب والعقاب والعنف.
- ترتبت عن الأسس الثلاثة أن تبنّتها التربية وتبناها التعليم في القديم أساليب وأهداف جعلت الطفل رجلا صغيرا يقلد الكبار في كل شيء، يقبل كلّ شيء يتلقاه، بعيدا عن أي دور له في تنمية قدراته وفي بناء شخصيته وفي تعاطيه مع مجتمعه.
- لقد تعرّض المنهاج التربوي التعليمي الكلاسيكي في العصر الحديث لهجوم عنيف من طرف علماء التربية وعلماء النفس وغيرهم لكونه أغفل “في أسسه وأهدافه مجال اهتمامات التلاميذ، وفروقهم الفردية وإمكاناتهم الذاتية وحاجاتهم ورغباتهم ودوافعهم، وحريتهم في اختيار الأسلوب التربوي الذي يمكنهم من الحركة بكل حرية ضمن كل الأنشطة التربوية التي يتعاملون معها فكان ذلك أن قيدت حركاتهم الفكرية والسلوكية والانفعالية.” وجاءت تنشئتهم تقوم على التبعية والتقليد خالية من كل ما يدفع في اتجاه التحرر والإبداع والتطور والازدهار.
- أما القواعد الهامة في التربية الحديثة والمعاصرة تعبر عن أهداف وغايات من شأنها تجعل الطفل أو المتعلم هو محور الفعل التربوي، والشريك الأساسي في العملية التعليمية التعلمية. وأهم هذه القواعد مايلي:
أ- التعلّم عند الطفل يكون عن طريق النشاط النابع من قوى الدوافع الغريزية، لذا على المربي أو المعلم إفساح المجال للمتعلم (الطفل) بما يتفق مع هذه الميول والدوافع.
ب- في الطفل مواهب كامنة وعناصر وطاقات، عل المربي والمعلم إيقاظها، بوضعه أمام مشكلات معقدة وغامضة جذّابة ليقوم بحلّها، ومساعدته لاكتشاف مواهبه بنفسه.
ج- مراعاة الفروق الفردية في الفعل التربوي بصفة عامة و في الفعل التعليمي ألتعلمي بصفة خاصة.
د- الحرص على تنمية قدرات الطفل إلى أبعد الحدود، في إطار ظروف اجتماعية تسمح لطرق التدريس بمسايرة هذه الميزة الاجتماعية.
ه- الارتكاز على مقاييس علمية في التربية والتعليم، تكون من إنتاج البحوث والدراسات في علم النفس وعلوم التربية وهي علوم عرفت تطورا كبيرا.
و- استناد المناهج التربوية وطرق التدريس واستراتيجيات التعلم إلى فلسفات ونظم فكرية واجتماعية حديثة ومعاصرة ، تختلف عن الأسس الفلسفية والنظم الاجتماعية التي تأسست عليها التربية الكلاسيكية، ومن هذه الفلسفات، الفلسفة البراغماتية، والفلسفة الوجودية، ومن النظم الاجتماعية، النظام الليبرالي السياسي النظام الاقتصادي الحر، والطابع العلمي والتكنولوجي للمعرفة وعالميتها.
ي- فالمنهاج التربوي الحديث والمعاصر “يسعى إلى المعالجة الكلية لمكونات الطفل العقلية والنفسية والوجدانية والبدنية والسلوكية، آخذا بعين الاعتبار البيئة الطبيعية والاجتماعية والاقتصادية وما إلى ذلك مما يدخل في عالم الطفل الذي يحيا فيه، فيدرس ظروفها ومشاكلها ونقائصها وتنوعها…فإنّ دور المعلم أصبح ينحصر في التوجيه والإرشاد وإثارة عملية التعلم لدى التلميذ” الأمر الذي يفجّر ما في الناشئة من مواهب وطاقات تتحول إلى إبداعات تساهم في البناء الحضاري للمجتمع.
2- مفهوم المقاربة بالكفاءات
أ- المدلول التربوي للكفاءات
هي مجموعة قدرات، نتاج مسار تكويني تتمفصل في إطارها معارف ومهارات ومنهجية واتجاهات، وتقوم على عنصرين: أولهما القدرة على الفعل بنجاعة في وضعية معينة، وثانيهما القدرة على توظيف المكتسبات في وضعيات جديدة«. يظهر من خلال هذا التعريف أن مفهوم الكفاية من المفاهيم التربوية المركبة. إذن، أنه يختزن رصيدا من المعارف والمهارات والاتجاهات المكتسبة في سياقات محددة، والقابلة للتعبئة والتوظيف والنقل والتحويل في وضعيات جديدة.
ب- أهم خصائص المقاربة بالكفاءات:
• إن مفهوم الكفاية بالمعنى السابق يحيل إلى مجموعة من المواصفات والخاصيات منها:
- الكفاية تركز على الفعل أكثر من تركيزها على المعارف النظرية.
- الكفاية تتم في وضعيات دالة مرتبطة بالمحيط لتحقيق الوظيفية
- الكفاية تكتسب بعد مسار، مسارات تكوينية.
- الكفاية معطى غير ثابت، تنمو وتتطور، وقد تتراجع – الكفاية مهارة عليا تندرج ضمن مجال واسع يشمل اتخاذ القرارات والفعل ومواجهة المشكلات، كما تقتضي الابتكار والإبداع.
ج- نوعا الكفاءات:
• والكفايات في الغالب نوعان:
• ❊ كفايات نوعية ترتبط بمادة دراسية معينة، وتستمد ذاتها من المقومات المعرفية والمنهجية لهاته المادة، وكذا من وظيفتها التكوينية والاجتماعية.
• ❊كفايات ممتدة/ مستعرضة ترتبط بمواد دراسية متعددة، وغالبا ما تصب في الجوانب المنهجية والتواصلية والثقافية. ومهما كان نوع الكفاية التربوية، فإن أجرأتها تتم عن طريق تحويلها إلى قدرات تعتبر مبادئ منظمة للتعلّمات، وتترجم إلى أهداف تعلّمية تراعي التوازن المطلوب بين أبعاد الشخصية الإنسانية المستهدفة من التربية والتكوين، (المعارف، المهارات، المواقف والاتجاهات).
• بالنسبة للمضامين: تنطلق المقاربة من العناصر التالية:
• تجاوز التراكم الكمي باعتباره يعكس الحفظ والتبعية للملخصات ويهدم بناء استقلالية المتعلم.
• استحضار البعد المنهجي عند تقديم المعرفة ومعالجتها، بما يمكن المتعلم من الاكتشاف وبناء المعرفة انطلاقا من دعامات ووثائق، وعبر سيرورة التفكير ذات الصلة بنهج المواد ودورات تعلمها.
• اعتبار المضمون المعرفي وسيلة تسهم في تحقيق أهداف التعلم وبالتالي بناء القدرات والكفايات.
• اعتبار كتاب التلميذ مصدرا من مصادر المعرفة، التي يتوزع حضورها في صلب الدعامات والوثائق، وفي المصطلحات والمفاهيم.
• التحرر من الملخصات الجاهزة التي تتعارض مع مبدأ الاستقلالية والتعلم الذاتي وتعويضها بالإنجازات والاستنتاجات المتوصل إليها عبر العمليات الفكرية في ضوء الأسئلة المرافقة للدعامات والوثائق، مع الحرص على تدوين ذلك في دفاتر المتعلمين.
• بالنسبة للدعامات والوثائق: انتقاء الدعامات والوثائق لتكون في خدمة أهداف التعلم وذلك وفق ما تقتضيه الخصوصية المنهجية لكل مادة في استثمار الدعامات والوثائق التربوية في بناء أنشطة التعلم حسب ما هو مضمن في مرجعياتها الديداكتيكية.
• وفي ضوء ذلك يبقى دور المعلم توجيهيا، يعتمد في ممارسته الديداكتيكية اليومية على استثمار أساليب التنشيط التي تتلاءم والوضعيات التعلمية التي يقترحها.
• بالنسبة للتقويم: تستدعي طبيعة المقاربة المعتمدة، الاعتماد على التقويم التكويني باعتباره يعطي الأسبقية لوتيرة التعلم والإجراءات والمهام أكثر من النتائج.
د- دواعي اختيار المقاربة بالكفاءات في بناء المناهج التعليمية
- الانفجار المعرفي الذي يشهده العالم اليوم جعل خبراء التربية يفكرون في إعادة بناء المناهج التعليمية على مبادئ مبنية على ما هو أنفع وأفيد بالنسبة إلى المتعلم وأكثر اقتصادا لوقته.
- المناهج التعليمية السابقة مثقلة بمعارف غير ضرورية للحياة ولا تسمح لحاملها أن يتدبر أمره في الحياة العملية.
- النظر إلى الحياة من منظور عملي
- التخفيف من محتويات المواد الدراسية
- تفعيل المحتويات والمواد التعليمية في المدرسة وفي الحياة
- التكوين المتمحور حول الكفاءة طموح، لأنه يستدعي القدرة على استعمال المعارف المكتسبة بفاعلية، فمن وجهة نظر الجانب التعليمي يشكل اكتساب الكفاءات تحديا أكبر من اكتساب المعارف
3- بين المقاربة بالمحتويات والمقاربة بالكفاءات
أ- المقاربة بتبليغ المحتويات
1- المعلم مالك المعرفة، ينظمها ويقدمها للتلميذ.
2- التلميذ يكتسب المعرفة ويستهلك المقررات.
3- يرتبط المحتوى بكنوز المعرفة المتوافرة في الكتب والمراجع.
4- عقل التلميذ مستودع فارغ ينبغي ملؤه بكنوز هذه المعرفة
5- في طريقة التدريس:
• المعلم عارف والتلميذ جاهل.
• المعلم متكلم والتلميذ سامع.
• المعلم منتج والتلميذ مستهلك.
6- وسيلة التعليم تكاد تقتصر على الكتاب المدرسي.
7- التقييم يكاد ينحصر في امتحانات مبنية على قياس الحجم المعرفي المخزون في الذاكرة.
8- ترتكز على منطق التعليم
9- التلميذ مستقبل للمعارف ومخزن لها.
10- البرنامج مبني على أساس المحتويات.
ب- المقاربة بالكفاءات
1- المعلم منظم وموجه.
2- التلميذ مساهم فعال في بناء معارفه بمختلف أنواعها.
3- المحتويات تحددها الكفاءة التي يأمل المدرس تحقيقها.
4- التلميذ يعمد الى البحث والاكتشاف.
5- في طريقة التدريس: التلميذ بصدد اكتساب قدرات ومهارات ومعارف فعلية وسلوكية بمساعدة المعلم.
6- تتعدد الوسائل والأدوات كما تتعدد معايير اختيارها وتوظيفها.
7- التقييم يتصف بالشمولية ولا ينحصر في المعارف وحدها بل يتعداها الى المعارف الفعلية والسلوكية، بتوظيف قدرات المتعلم ومهاراته.
8- ترتكز على منطق التعلم.
9- التلميذ محور التعلم.
10- البرنامج مبني على أساس الكفاءات.
4- بين المقاربة بالأهداف والمقاربة بالكفاءات
أ- التكوين بالأهداف(f.p.o)
• يركز- خصوصاً- على المعارف.
• مقاصد التعلم في غاية الوضوح.
• التعلم مجزأ.
• الأهداف غير مندمجة.
• جد متأثر بالسيكولوجية السلوكية.
• يعتمد في تطوره على التمارين النظرية.
• يدرك بسهولة تحقيق النتائج.
• يندفع إلى النشاط بحافز خارجي.
• يرتكز على تعليمات واضحة تساعد على انجاز الفعل.
• تظهر أهمية التعليم التلقيني.
• الميل إلى التحليل.
• حجم التقييم أقل سعة.
• عملية القياس موضوعية.
• في بعض الأحيان يحدث شق بين التعلم والتقييم.
• التقييم يحدث بصياغة أسئلة وأحيانا عن طريق مشروع.
• التقييم معياري: المقارنة بين التلاميذ.
• الميل إلى النوعية.
• المحتوى ( تغطية مجموع محتوى المادة)
• يعرف بالنتائج بدلالة الأهداف.
ب- التكوين بالكفاءات(f.p.c)
• يركز – خصوصاً– على المعارف الفعلية
• مقاصد التعلم شاملة وأقل وضوحا
• مندمج (معارف، مهارات، قدرات)
• جد متأثر بالسيكولوجية المعرفية.
• يعتمد في تطوره على الأنشطة التطبيقية.
• درك بصعوبة تحقيق النتيجة لكونها تتصف بالشمولية.
• يندفع الى النشاط بحافز داخلي.
• يرتكز على تعليمات عامة تساعد على المبادرة.
• ظهور أهمية التعليم ذي العناصر المتبادلة التأثير.
• يرتكز على أنشطة التعلم والتقييم التكويني.
• الميل الى الشمولية.
• حجم التقييم أكثر سعة.
• عملية القياس نسبية.
• البحث عن الادماج بين التعليم والتعلم والتقييم.
• يحدث التقييم عن طريق فعل مندمج.
• التقييم مقياسي: مقارنة النتائج بمقياس النجاح.
• الميل الى الكمية.
• انتقاء المحتوى، البحث عن إدماج الكفاءات.
• يعرف بدرجة التحكم في الكفاءات واستراتيجيات التعلم
خاتمة
- تمثل بيداغوجية المقاربة بالكفاءات الأسلوب التربوي والتعليمي الناتج عن التطور الحاصل في مجال التربية والتعليم في عصرنا، له أصول ومصادر فكرية وفلسفية واجتماعية، و يتحدد بمجموعة من المبادئ والقيم والمناهج، كما يتطلب وسائل وأدوات متطورة، كما يفرز آثارا ونتائج على الفرد والمجتمع، كل هذا في إطار الأسس التي تقوم عليها التربية المعاصرة وفلسفتها.
- لقد جرّب الإنسان المعاصر في العالم المتقدم عدة مقاربات، وثبت أنّ النقص والخلل حالّ في كل واحدة منها، لكن بدرجات متفاوتة، فمن أسلوب التلقين أو تبليغ المحتويات، إلى التعليم بالأهداف إلى المقاربة بالقدرات، إلى المقاربة بالكفاءات، وهذه الأخيرة تمثل في فلسفة التربية غاية في ذاتها، والحقيقة أن العمل التربوي في جميع عناصره نسبي ومتطور باستمرار، – وكأنّ تاريخ البيداغوجيا انتهى وتوقف بحسب منظور “فوكو ياما”.
- تتطلب بيداغوجية المقاربة بالكفاءات ثقافة علمية عالية، وفكرا اجتماعيا ينسجم مع نمط الحياة والظروف التي أنجبت هذه البيداغوجية، كما تحتاج إلى وسائل وأدوات تقنية وفي مقدمتها التحكم في المعلوماتية، وفي وسائل وتقنيات الاتصال والإعلام والتثقيف المعاصرة، وعلى رأسها شبكة الإنترنت، وهذا ما لم تتوفر عليه الدول النامية، مثل الجزائر وهي تدخل التدريس بالكفاءات في نظامها التربوي، حيث أثبتت العديد من الدراسات الميدانية أن شعوب العالم الثالث و بدرجات متفاوتة لا تتحكم في الثقافة العلمية ولا في تقنية الإعلام الآلي المطلوبة في أسلوب التدريس بالكفاءات، ولا تسيطر على تقنيات الاتصال، ولا تمتلك وسائله، وهذا يعيق بلوغ الأهداف المطلوبة من وراء المقاربة بالكفاءات.
- إن فلسفة التربية المعاصرة بمصادرها وقيّمها، وبالمناهج والإستراتيجيات التربوية المنبثقة عنها، تعكس توجّهات وإيديولوجيات قوى معينة، في العالم المتقدم بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، متجاهلة التنوع الثقافي والفكري والديني والاجتماعي و اللغوي وغيره، المتواجد في العالم و متجاهلة خصوصية الدولة الوطنية والقومية و غيرها.
- تتميز فلسفة بيداغوجية المقاربة بالكفاءات بطابعها المادي العلماني البراغماتي الآني، الخالي من الحضور الأخلاقي والديني، و تأسيس أي فلسفة أو فكر أو ثقافة أو دين على غير مكارم الأخلاق، وعلى عدم مراعاة المطالب الروحية للفرد والمجتمع، تنتج عنه آثار ومظاهر سلبية، تعكسها معاناة الشعوب والأمم الحالية للظلم والاستبداد والحرب و الفقر والحرمان والجهل والمرض، وهي آفات منتشرة في مختلف أنحاء المعمورة.
- يعتبر البعض أنّ بناء المناهج التربوية على المقاربة بالكفاءات في الجزائر مكسبا ثقافيا، وانتصارا للحضارة وللعلم وللديمقراطية، هذا في رأينا يكون مقبولا لو جاءت السلعة من إنتاجنا، لكنّها مستوردة، وظاهرة استيراد المنتجات العلمية والفكرية والمادية في أي مجتمع ليست عيبا، إلاّ أنّ الإنتاج المستورد يجلب معه أفكار وقيم وعناصر هوية الجهة المصدرة، ولا تنتقل مجردة من حضور ذات صاحبها فيها، فالذي يعيش بما ينتجه هو يحفظ كرامته وسيادته من الزوال، لأنّ وجه الاستعمار تغيّر “من مباشر عسكري واحتلال للأرض وانتهاك للعرض واستغلال للطاقات البشرية والمادية إلى غير مباشر سياسي واقتصادي وثقافي ويتساوى الاستعمار غير المباشر مع غيره في درجة الخطورة والضرر على الفرد والمجتمع” .
- إذا كانت المقاربة بالكفاءات إحدى مداخل العولمة فأقلّ ما يمكن قوله عن بيداغوجية المقاربة بالكفاءات، أنّها أسلوب تربوي، من إنجاب الحضارة الراهنة، فيه القوة و فيه الضعف، ويكون أكثر ضعفا إن لم تتوفر شروطه ولوازمه النظرية والعملية والتقنية، ويصبح نقمة إن لم تراع فيه قيّم الأمة وهويتها ، لأنه يصبح شكلا من أشكال الهيمنة والتسلط والاستعمار. تبقى العولمة بجميع مداخلها غير “صالحة إلاّ بالتشبع بالقيم الإنسانية والأخلاقية واحترام الآخر في ثقافته وأفكاره ودينه وفي جميع حقوقه، ويصبح ذلك واقعا مجسدا وعالما مشخصا ثقافة وفكرا وسلوكا وحضارة”.
الدكتور جيلالي بوبكر
16 أكتوبر 2013
1 – تركي رابح: أصول التربية والتعليم، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، الطبعة الأولى، سنة 1982، ص 48.
2 – محمد بوعلاق: الهدف الإجرائي وتمييزه وصياغته، قصر الكتاب، البليدة، الجزائر، الطبعة الأولى، سنة 1999، ص 6.
3 – خير الدين هني:تقنيات التدريس، وزارة التربية الوطنية،الجزائر،الطبعة الأولى سنة 1999،ص 15.
4 – المرجع نفسه: ص 25-28.
- جيلالي بوبكر: بين الحضارة وفكرنا العربي المعاصر، دار الأمل، تيزي وزو،الجزائر، الطبعة الأولى، سنة 2012، ص 228.5
6 – جيلالي بوبكر: العولمة مظاهرها وتداعياتها نقد وتقييم،عالم الكتب الحديث، إربد، الأردن، الطبعة الأولى سنة 2011، ص 234