توحى قصيدة لوركا ، شاعر إسبانياً الشهير { مشهد مع قبرين و كلب آشورى } بأنه كان يشعر باقتراب نهايته ، و سقمه يمكن أن يكون شاهداً على قتل الشاعر رغم أنه كان محايداً أثناء الحرب الأهلية التى عاشتها إسبانيا و ما رافقها من مجازر و اغتيالات سادَّية نالت من المقاتلين من أجل الكرامة كما نالت من الأدباء و الفنانين و باقى الرموز الحضارية التى صنعت مجد إسبانيا الحقيقى .
ولد لوركا المحايد إلا فى انتمائه للوطن و الشعر عام 1898 م فى قرية ( فوينتى فاكيروس ) الواقعة فى مقاطعة غرناطة . كانت عائلته من الملاك الميسورين . أما السمة التى طبعت طفولته الأولى فهى التذوق الشديد للموسيقي المكتسب فى عائلته ، و الظاهر فى أعماله الشعرية المتمتعة بالحس الإيقاعى . و هو الحس الذى وسعه عبر الاتصال بصديقه [ مانويل دى فالا ] .
بدأت الكتابة طريقها إليه و هو لم يتجاوز الثامنة عشرة و ذلك إثر رحلة دراسية عبر مدن ( قشتالة ) الأثرية ، فجاء كتابه ( انطباعات و مشاهد ) ثمرة لتلك الجولة ثم عُرف { لوركا } فى مجال الشعر بعد أن نشر عام 1921 م ديوانه ( سفر القصائد ) الذى جرى الاتفاق على أنه إحدى نقاط انطلاق الشعر الجديد ، لكن الشاعر الذى لم يكن مدينا إلا لنفسه بفرادة تعبيره ، استمر بتخزين الألحان و الأغانى ، يدندنها سراً قبل إخضاعها لحكم أصدقائه .

هكذا ولد ديوان الأغانى ثم الديوان الفجرى Romancero Gitano عام 1928 م ، و هو آنذاك رائعة الشاعر و هنا اختلط الانفعال الذاتى بانفعال الشعب و التقت الغنائية فى تدفقها مع مياه تراث تاريخى و قومى عظيم . هكذا فى هذه القصائد التقت المتناقضات من جديد و ظهرت كالمنمنمات الشرقية المحاطة بالورود و القرنفل و التى يحتضنها شريط ماء حى .
إن امتلاء الشكل و الوحى و الفكرة و الغناء يكفى دون شك لتفسير الرواج المدوى لمجموعته { الديوان الفجرى } التى تأتى كملحق لتلك الموشحات الأندلسية التى كانت تغنى فى غرناطة ، أيام جعل العرب من الأندلس ( أجمل مملكة إفريقية ) فــ { لوركا } هو الأول ، دون شك ، الذى جمع ذكراها بهذا القدر من الدقة و أعطاها شكلاً بهذا الكمال .
بعد ذلك نلمح إيقاعاً مختلفاً فى مجموعته ( الشاعر فى نيويورك ) التى سطرها بمناسبة إقامته فى الولايات المتحدة الأمريكية ربيع 193. م فما كتبه آنذاك أتى إبقاعاً أوسع ، متطابقاً مع إيقاع الحياة فى المدينة الأمريكية الكبيرة ، المدينة التى تعبر فوقها [ قطعان ثيران تدفعها الريح ] . كان لوركا فى هذه القصائد يستحضر عبر لغة تذكر بلغة ( ويتمان ) ما بقى محفوراً فى نفسه من صور الشاعر الأمريكى العجوز ، الذى يصفه على شاكله تمثال فخم و عملاق مرسوم بألوان الشمس الغاربة على شواطئ الهدسون : أيها الشيخ الجميل والت ويتمان .
لم انقطع لحظة واحدة عن رؤية لحيتك المليئة بالفراشات
و كتفيك المخملتين الممحوتين تحت القمر .
و صوتك ، عمود رماد .
لقد جمعت تباشير قصائد لوركا ما بين مشاهد الطبيعة الميتة و الغيتارات النائمة و الخيالات المبسطة و الصور الشعرية المتحولة إلى مشاهد ذات خطوط أنيقة تهيمن عليها مجموعة الألوان الحمراء والصفراء ، و رسوم لوركا الأولى ، تلك الرسوم التى كان يرسلها إلى أصدقائه الغرناطيين حين استقر فى مدريد ، و التى أراد الإشارة فيها إلى أن الرسم لا ينفصل عن الشَّعر .
يروى ( سيلفيا دور دالى ) الذى عرف لوركا فى سن العشرين ، عندما كان طالباً حقوقياً ، عن الاجتهاد الذى كان يتميز به لنسخ رسومه على قصائده .
ما من صورة شعرية لم تحضره بلون فاقع ، محاطة بذلك النغم الموسيقى الرائع الذى يدلنا على مقدرته غير العادية لإعطائنا الألوان بشعاعها الصافى المصقول دائماً بصور طفولته البراقة .
لقد حافظ بأمانة متواصلة على صور تلك المدينة القديمة ، مدينة غرناطة التى ولد بالقرب منها والتى تتكسر عليها ألوان الطيف كما على جوهرة بألف زاوية انعكاس .
و بمقدار ما سينضج نتاج الشاعر ستخف الألوان لكنها لن تُمحى بالتأكيد و لن تذبل ، و هى تشكل جسداً واحداً مع الكلمة ، سوف تدخل فى الظل ، تتجمع فيه كموضوع الموت المتشابك مع الصور و التنويعات المأساوية و المؤلمة ، و مع الحزن الشفاف الممتزج بالصور الأكثر غبطة :
القلوب الأندلسية
تفتش دائماً
عن أشواك قديمة ) .
فى كل مكان نكتشف هذه الرموز و صور الموت الدامية المقترنة بالحب هكذا ، من الموسيقي و اللون و الكلمة يتعارض الحب و الموت ، و يتداخلان بشكل حميم جداً تعكسه قصائد لوركا ، بحيث يستحيل فصل الأول عن التالى .
إنهما موضوع واحد يجرى التعبير عنهما ، و الخلط بينهما ، عبر صور تحتمل غالباً معنى مزدوجاً ، و هذا الذى نفهمه منذ البدء عندما نقرأ تلك القصائد ، و ذلك الذى نكتشفه فيما بعد داخل أنفسنا : ( كل ضوء العالم يتجمع فى مقلة ) و ( أتطلع إلى قلق عالم حزين متحجر ، لم يعد يعتر على نبرة نشيجه الأول )
إضافة لذلك ، انجذب لوركا إلى المسرح ، و كتب مسرحية ( أذية الفراشة ) التى عرضها فى مدريد عام 1921 م و رغم فشلها ، إلا أنه استمر فى الكتابة المسرحية ، فجاءت بعدها مسرحيته ( ماريا بينيدا ) و هى دراما تاريخية منظومة ، و تلاها مسرحيات متنوعة أخرى ، مثل يرما Yerma ( المرأة العاقر ) التى شهدت نجاحاً منقطع النظير على مسارح بلاده و أمريكا الجنوبية .
تتميز هذه المسرحيات جميعاً بجاذبيتها . حيث يجرى استخدام فن الصمت ببراعة و بكثافة شعرية عظيمة . و لكى يخدم هذا الشاعر فنه ، و يجعله شعبيَّاً حقاً دون تنازلات عديمة النفع ، لم يتوان عن جوب الطرقات على رأس فرقة مسرحية تقدم تمثيليات فى المدن الصغيرة و قرى المقاطعات .
كان قد درس عن كتب مشكلات الفن المسرحى ، فى كوبا حيث حاضر فى الأدب الإسبانى ، وفى الأرجنتين حيث قدم اقتباسات للأدباء الكلاسيكيين الذين شاخت لغتهم ، بيد أنه تدرب على الإفراج مع فرقته الجوالة تدريباً سمح له بمواصلة رسالته الفنية .
هذا المسرح البسيط و الصارم ، أعاد إلى الحياة تقليد الشرق القديم ، و هكذا دفع ضريبته للأرض الأندلسية ، لكنه كان يريد أن يعبر عن شئ آخر ، أن يتجاوز الإطار الذى حدده لنفسه منذ البدء ، و أن يرسم الإنسان فى ذروة انفعالاته .
إن الموت فى نظر الشاعر هو الحقيقة النهائية ، القوة التى لا تنفك تلتهم و تلد فى حركة متكررة إلى الأبد . لقد عاش ( لوركا ) مهووساً بفكرة الموت و الدم . بيد أنه كان يختزن فى أعماقه شهوة عارمة للحياة تفوح منه حيوية جعلته مركزاً متحركاً يدور حول الأصدقاء و المعجبون ، رسامون ، و شعراء ، و موسيقيون . عبَّر عن ذلك الشاعر ( بدرو ساليناس ) إذ قال { كنا نتبعه جميعاً ، لأنه كان العيد و الفرح } . حركة دائرية ، دوامة مؤلمة مشددة إلى الأسفل ، إلى التراب الأبدى و العشب النابت فى الأجساد المتآكلة . و أرهب ما فيها ذلك النسيان يمر بمياهه على الوجوه الحميمة ، فيطمسها إلى الأبد ، تلك المساواة فى الموت ، حيث تتشابه الكائنات جميعاً دونما استثناء .
هكذا كان يستحيل على القتلة ، و هم يمزقون قلب شعب إسبانيا بخناجرهم الحاقدة الباردة ، أن يهيئوا لفديريكو مصيراً آخر ، فلقد كان يرسل جذوره عميقاً فى الأرض الأندلسية ، و يفتح ذراعيه واسعتين لريح المستقبل و أشعة الفجر الطارق أبواب قرطبة و أشبيلية و مدريد . ففى صبيحة التاسع عشر من تموز عام 1939 م كان جثمانه مرمَّياً فى وادى فيزنار قريباً من غرناطة التى أحبها .
هكذا كان لدى شاعرنا الذى مات فى سن الثامنة و الثلاثين فضول لا حدود له ، رغبة قوية فى معرفة كل شئ و الاستفادة من كل شئ . لقد دمج فى شعره الغربة و الموت و الحب و الحياة و اللون و الدم الذى سقى به انتماءه إلى أرض غرناطة القديمة التى بقى شاعرنا أميناً لها حتى النهاية .
و تبقى الأرض خشبة الخلاص الوحيدة رغم الآلام و الرهبة و الإحساس بالنهاية الفاجعة .
إن التزاوج بين النقيضين هو ما يضفى على نتاج لوركا الشعرى و المسرحى تلك الكثافة التى تحاذى الانفجار
( ها هنا لا يوج غير الأرض
الأرض بأبوابها الأبدية
الموصلة إلى حمرة الثمار )
مازالت الأرض تضج بالموت و الظلم و الفجر ، و صور لوركا تضج بالصراخ المتناغم الذى يعلن ( مجئ مملكة السنبلة ) .
نموذج من قصائد لوركا :
( حضور الجسد )
رأيت أمطاراً رمادية تركض أمام الأمواج
رافعة أذرعها المثقوبة الحنون ،
كيلا تصطادها الصخرة الممدودة .
صمت كريه الرائحة يرتاح ،
ماذا يقولون ؟ قربهم جسد راقد يتلاشى
له شكل البلابل الصريح
و هو يمتلئ أمام أعيننا بثقوب لا قرار لها ..
من يجعد الكفن ؟
لا أحد ها هنا يغنى ، أو يبكى ..
أريد أن يدلونى على بكاء كالنهر .
له غيوم ناعمة و ضفاف سحيقة ..
فليصبح الليل فى أدغال الدخان ..
إن البحر يموت أيضاً


المصـــــــادر : -
1- لوركا و عالمه الشعرى : ترجمة عدنان بغجاتى ، دار المسيرة ، بيروت 1979 م
2- لوركا : ترجمة و تقديم كميل داغر ، منشورات المؤسسة العربية للدراسات ، دمشق 1975 م
3- قمم فى الأدب العالمى ، تأليف الدكتور بديع حقى ، منشورات اتحاد الكتاب العرب ، دمشق 1973 م .
4- الوشاء : الفاضل فى صفة الأدب الكامل 2 / 9. منشورات وزارة الإعلام العراقية .
5- محمود الألوسى ، بلوغ الأدب 2/162 - دار الكتب العلمية – بيروت
6- د . محمد عبد العزيز مرزوق : الفنون الشعرية فى المغرب و الأندلس ص 134 ، 1995 م نهضة مصر .


بقلم : حسن غريب أحمد
عضو اتحاد كتاب مصر



--------------------------------------------------------------------------------


مجلة أنهآر- العدد 70
يونيو 2006