(24)
هزيمة 5 يونيه 67 حاضرة في التحقيق
في يوم الأربعاء 5/6 كنت فخوراً بنفسي في التحقيق، فأنا اليوم أتم الثلاثين يوماً دون أي اعتراف يتمناه المحقق، باستثناء وقوعي عند العملاء بقضية الرسائل، وعاقبة هذا الأمر ستة أشهر سجن، وهي لا شيء بمقياس التهم الموجهة إلي.
إن مرور ثلاثين يوماً على جسدي تحت العذاب جعلت نفسي تحرص على أن لا تفقد هذا الرصيد، وجعلني صلباً حريصاً لا أضيع تعبي بلحظة ضعف.
الأربعاء 5/6 ذكرى هزيمة 1967، بدأ اليهودي التحقيق معي في ذلك اليوم بالحديث عن الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر، وعن كفاءته القتالية، وعن هزيمة الجيوش العربية، وعن الخطط الإسرائيلية التي تؤدي للنصر، وعن جهل العرب بما يجري حولهم، وضرب على ذلك مثلاً بحالتي في التحقيق، فقال: أنت تشبه الجيوش العربية، أنت هنا في معزل عن الدنيا، ولا تعرف ما يجري من حولك، ولا تعرف من أين سيأتيك العذاب، وأنت هنا تحت رحمتي، تأكل وتشرب وتقضي حاجتك بأمري، أنت أحد عبيدي، ولا يسمح لك بأن تغادر أو تتحرك إلا بإذني، ولا تعرف المعلومات التي جمعناها عنك، ولا مصدر هذه المعلومات، وأنت وحيد وقلق على مصير أهلك وبيتك، بينما قيادتك تعيش في الفنادق، وتشرب الخمر، ولا تحس بما ستلاقيه.
ونحن هنا نمثل الجيش الإسرائيلي، نتدرب، نعرف ما نريد، وكيف نصل إليه، نرتب أنفسنا، ونجمع المعلومة، وندقق في صحتها، ولنا حرية التحرك، وحرية العمل، نخرج وندخل إلى غزة متى نشاء، ونعود فنلتقي بأهلنا، نحن مرتاحون، وغير مستعجلين على النصر المبين.
لقد ذكرني حديث اليهودي بالهزيمة، وكنت اقول في نفسي: لو لم يهزم العرب في ذلك اليوم لما احتلت إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة، ولما كنت أنا هنا تحت العذاب، ما أوحش هذا العدو الذي لا تفوته صغيرة في التاريخ ولا كبيرة!
كنت استمع لحديث المحقق، وقد خطر في بالي يوم الأربعاء قبل عشرين يوماً بتاريخ 15/5، في ذكرى نكبة فلسطين، حين كنت مربوطاً بالمواسير، وكان العذاب شديداً في ذلك اليوم، لقد إزداد شعوري بالخوف من هذا اليوم 5/6، بعد أن أوحى لي اليهودي بعذاب شديد.
قطع المحقق صمتي في ذلك اليوم بالسؤال المعروف: أين السلاح يا فايز؟ اعطنا السلاح ونضمن لك سلامتك، سنكتفي بسجنك عدة أشهر على الرسائل.
كان ردي الذي لم يتزعزع: لا سلاح لدي، ولم أتدرب على سلاح، ولا أعرف شيئاً.
لقد كنت واثقاً أن لدى المحقق معلومات عامة عن السلاح فقط، ولو كان لديه معلومات دقيقة ومحددة لواجهني بها، لذلك كان ردي الثابت: لا سلاح لدي.
كان يوم الأربعاء 5/6 ذكرى هزيمة للجيوش العربية، هو ذكرى قراري الصارم برفض الهزيمة، وتحمل كل أشكال العذاب، كان قراري الذي لا مجال للتراجع عنه هو ألا أعطي لهذا اليهودي مزيداً من الانتصار، حتى وهو يقبض على روحي، ويخنق أنفاسي، ويصعد فوق صدري، ويغرقني بالماء، بأشكال من العذاب سبق وأن عرفتها، وتحدثت عنها.
لقد صمدت في ذلك اليوم تحت شتى أصناف العذاب، لقد انتصرت في ذلك اليوم، حين احتملت عذاب جهنم اليهود بكل عنفوانه، احتملت، وكنت أقول في نفسي: لو كنت بريئاً، ولا أعرف شيئاً عن السلاح، فماذا كنت سأفعل غير الصبر؟
لقد شعرت بفرحة النصر على المحقق اليهودي حين فتح الباب، ودخل السجان، فقال له المحقق: خذه، اربطه في المواسير.
ما أجمل تلك الجملة! اربطه بالمواسير، لقد اخترقت أذني في اللحظة التي كان فيها آذان المغرب في شهر رمضان يصدح من مآذن غزة، ويقتحم غرف التحقيق.
يتبع