لقاء بالصدفة..


قصة قصيرة
بقلم ( محمد فتحي المقداد )*



عواء لا ينقطع، آتٍ من جهة المقبرة، كأنه نذير شؤمٍ كصفّارة الإنذار، تنبئ عن غارة جوية, يطرق في أذنيَّ بعنف غير معهود، يأخذني من نومي العميق إلى أحضان القلق، سرق النوم من جفنيّ، أتقلّبُ في فراشي يمنةً ويَسْرةً، وقد باءت كل محاولاتي استرجاع الوَسن المسروق من ليلتي المشهودة.
العواءُ مستمرٌ، ويزداد سُعَارُ العوّاية ( ابن آوى )، تاهَتْ أفكاري، وذهبتْ بي مذاهب شتّى، لعلَّ أحد جيراني في الحارة، قد وافته المنية، الساعة متأخرة، ولا أستطيع استخدام الهاتف لمحادثة أحد من الأصدقاء، ليشاركني هواجسي.
انكفأت على نفسي، ألملم بقايا من شجاعة قديمة مكنوزة في حنايا قلبي من أيام الشباب الرافض لكل معاني الخوف، من الممكن أن تتسرب خيوطه إليه.
نهضت قائماً مترنحاً كاد جسدي يهوي إلى الأرض، لولا إتِّكائي على الجدار، فاتّأدْتُ مُستعيداُ توازُني، رفعتُ السِّتارةَ عن النافذة، صدمني الظلام، و السكون الرهيب الموحي بعظمة وهالة الليل، سكت صوتُ العَوّاية، لبضع دقائق و أنا لا زلتُ على هذه الحال، فتحت النافذة فتنَسّمْتُ عبير الندى الذي حمل إلى حاسة الشمِّ عندي، رائحة السنابل النديّة، صافحتْ أثير روحي، فأحالتني كائناً آخر، أعبُّ النّدى ملء رِئَتَايَ، وأستزيدُ بعنف، و كأنني وقعت بكنزِ محاولاً كسب المزيد منه.

***

استغرقت في لُجّة من التأمل العميق بعيداً، وما إن أتممت ربع ساعة، بعد الثالثة فجراُ، حتى شق السكون صوتها الرهيب، بوتيرة لم أكن أتوقعها هذه المرّة، أيقنتُ ساعتها، أن القيامة قامت، وأنه لا بد من أمر عظيم سيحدث، أجهلُ كُنْهَهُ.
قادتني قدماي خارج غرفة النّوم، وعلى غير إرادة بتخطيط، تابعت مسيري سالكاً الباب الخلفي المؤدي إلى السّطح، وارتقيتُ الدّرجات ببطء غير مُتَصَنَّعٍ مني، وصلتُ قُبالة السّماء الصافية، النجوم متلألئة، استنارت روحي قليلاً وكانت على وشك انتشالي من دوّامة الأفكار، خُيّل إليّ أن القيامة قامت، العواء يزداد، أصيب الأموات بالقلق، ضجّت القبور بساكنيها ضجراً، قاموا متلفعين بأكفانهم، و ساروا باتجاهات شتّى، باحثين عن شيء ما.
يا إلهي، ما الذي يحصل، أَأَنا في حُلُمٍ، أم في عِلْم ؟, أفركُ عينيّ، تجمّدت الدماء في عروقي, جفّ ريقي، وانعقد لساني عن الكلام، وأنا أحاول قراءة المعوذات وآية الكرسي، تحركت يدي بصعوبة بالغة حتى استحالت عصاً غليظة، كنت أحاول تلمًّسَ رأسي، هل أنا على قيد الحياة، أم في عداد لابسي الأكفان؟.
خفقان قلبي مضطرب بشكل غير معهود أبداً، أيقنت أنه لا مفرّ، تراخت أعصابي ، وخارت قوايَ، فافترشتُ الأرض، وتعطل إحساسي ببرودة الباطن المتسربة إلى جسدي، قشعريرة سَرَت بأعصابي، فصارت كأعصاب الإنكليز.
ومن بين الحشود المتقدمة قريباً مني، و إذ بوجه جدّي يلُوحُ لي من بعيد كالبدر، أحاول التلويح له، فخانتني الشجاعة هذه المرّة، وأعضائي غادرها توتر الحركة، صرتُ كومةً جامدة، فقط الأنفاس التي تُثْبِتُ الحياة في أوصالي الخائرة.
بوصلة جدّي حددت مكاني بدقة بالغة، انْتَحَى جانباً من الحشود المندفعة، متقدماً بثبات إلى ساحة البيت، أومأتُ إليه أن يصعد إليّ، أصابني العجب العجاب، أنه فهم ما بنفسي، دون أن أتكلم. وما إن جاء وَقْعُ خُطاه مُرتَقِياً درجةً إثْرَ درجة، وإذ بي أنهض، وقد انفكّت كل المشاكل التي عانيت منها على مدار أكثر من ساعة، تقدمتُ إليه، فَقَبّلْتُ رأسه، تلاقت أعيننا، وتسمّر كل منا في مكانه، ورحت أتأمل قسماته الوضيئة، فاستنارت روحي، وانبسط قلبي بعد انقباض، دبّت الحياة في أوصالي من جديد.
- وانطلق لساني في الترحيب: أهلا يا جدّي، كيف حالك، طمئني عنكم؟.
- الحمد لله يا بني، فلا أشعر إلا بالراحة والهدوء في قبري.
- فما الذي يحدث أمامي، أصبت بالجنون مما أرى، وأظن أن القيامة قامت؟
- في الحقيقة لا يا بني، ولكن العوّاية أقلقتنا، وقبورنا ضاقت بنا، فقذفتنا، وها نحن كما ترى.
- يا أبتي الحزن ينهش قلبي ألماً.
- ولم يا بُنيّ ؟.
- أمرٌ لا أستطيع أن أخبرك به، ولكن يدي بيدك، سنذهب سوية إلى أحب أماكن الدنيا إلى قلبك.
- هيّا بنا.
و ما هي لحظات من المشي السريع، حتى بدأت تطالعنا مئذنة العمري الحزينة، على شنيع ما حصل لها اليوم، عندما أقدم الشَبِّيحة على قصفها بالصواريخ. أسرع الجدّ بخطواته، متوجهاً إلى ساحة الجامع الغربية، يروم الصعود إلى المئذنة، عبر الدرج الحجري النابت من الجدار، بحجارته الطويلة.
- أصيح به : أرجوك، ارجع، لا تصعد.
لم يأبه لندائي، وتابع الصعود درجة إثر أخرى، وما كاد يبلغ الدرجان الأخير’ حتى انبعثت طلقة القنّاص المصوبة إليه. عاودتُ النداء بحرارة، راجياً منه العودة، وما إن استدار حتى وصلت الرصاصة الثانية، لتترك علامة سوداء على الجانب الأيمن من الأكفان، حمدتُ الله على نجاته، وعندما وصل إلى مكاني حيث أقف في ذروة عن أعين القنّاص، وجدت أنه لم تهتزّ شعرة في جسمه مما حصل له.
- يا بني، عُمري بعمر هذا الجامع، وأصبحتُ جزءاً لا يتجزأ منه، فعلى مدار أربعين سنة، وأنا أصعد للأذان في الأعلى، للأوقات الخمسة، وقبل أن تصلنا الكهرباء بسنوات كثيرة، الفانوس بيدي اليمنى، وأتوكأ باليسرى على الجدار.
- ألم تكن تشعر بالخوف؟.
- ومم أخاف يا بني ؟، فقلبي عامر بالله، ولساني يلهج بذكره، وأصعد لأبلغ القرية نداءه.
- كنا نسمع عن الجن الساكن هنا.
هزّ رأسه، رافعاً حاجبيه للأعلى، وهو يردد : " كلام لا قيمة له وهراء ", واندفعت الدموع من عينيه المًصوّبة للمئذنة، التفت حولي فلم أجده، وقد اختفى، بينما أحسست على صوت جرس المنبه لصلاة الفجر، حمدتُ الله، تلمستُ جبيني المُتعرِّق، نهضت للقاء ربي. وكتمتُ رؤياي لغاية في نفسي.

تمت