العرب على أبواب الإغفال والإهمال

قد أتى حين من الدّهر لفّ البشريةَ ليلٌ غيهبُ ، وحفّها من كلّ حدَبٍ وصوبٍ الغمّ والمكرَبُ ، غشيتها دياجير الظلام ، وغدت دماؤها وأموالها وأعراضها وحرماتها كلأ مباحاً يرتع فيه الظلم والظلام ، ادلهمّت عليها الخطوب،ونزلت بساحتها الكروب ، وحلّت بها أيام نحسات ، تتقاذفها فيها المآسي والويلات ، تُعاني صنوف الجهل والتخلف والانحطاط الفكريّ والخلقي والسياسيّ والاجتماعيّ والحضاري ...
بينما الكون ظلام دامس .. فتحت في مكة للنور كوّة
فجاءت رسالة الإسلام وتولى الإسلام قيادة البشرية بعدما فسدت الأرض ، وأسنت الحياة وتعفنت القيادات ، قيادات ذاك الزمان ، التي أذاقت شعوبها المرارة والهوان !
ذلك أن المولى تبارك وتعالى لم يكن ليترك البشرية سدى ، فقد واكب الرّبّ جلّ شأنه البشرية برعايته ورسالاته المناسبة في تقلّبات حياتها ؛ واكبها وهي في مرحلة الطفولة تحبو ، وواكبها وهي في مرحلة الصّبا تخطو ، وواكبها وهي في مرحلة الرشد تقفو ، واكبتها أشعة الشعلة الإلهية المنيرة في غياهب الليل البهيم ! فتخلّص الضمير البشري من استذلال النظم والأوضاع والأشخاص ، كما تطهّر العقل البشريّ وتحرّر من عبوديّة الأساطير والأوهام والخرافات !
وما أن تسلّم الإسلام زمام الريادة والقيادة حتى بادر بادئ ذي بدء إلى وضع اليهود على أبواب الإغفال والإهمال ، ولماذا اليهود ؟ لأن اليهود كانوا ينتفخون شرفاً ، ويتمطون أشراً ، ويضربون بوصايتهم الدينية على البشرية رئاءً وبطرا ، بدعوى أنهم حفدة أبي الأنبياء إبراهيم – عليه السلام – وورثته ، فوضعهم كتاب الله تعالى على أبواب الإهمال والإغفال تمهيداً لتنحيتهم عن القيادة ، وتوطئة لعزلهم عن الإمامة ، فرسّخ القرآن الكريم في أذهان المسلمين منذ الوهلة الأولى بأنّ :
العقيدة تراث القلب المؤمن لا تراث العصبية العمياء ، ووراثة هذا التراث لا تقوم على قرابة الدم والجنس ، ولكن على قرابة الإيمان والعقيدة ، فمن آمن بهذه العقيدة من أي جيل ، ورعاها من أي رعيل ، فهو أحق بها من أبناء الصلب وأقرباء النسب ، فالدين دين الله تعالى ، وليس بين الله تعالى وبين أحد من خلقه صهر ولا نسب ! فمن استقام على هذه العقيدة فهو وريثها ، ووريث عهودها وبشاراتها ووريث ما انطوت عليه من عز ونصر وظفر وتمكين وحسن عاقبة ومآل ، ومن رغب عن هذه العقيدة وفسق عنها فَقدَ بذا وراثة هذا العهد وبشاراته !
وعلى صخرة هذا المفهوم العقديّ تحطمت دعاوى أهل الكتاب في اصطفائهم واجتبائهم لمجرّد أنهم أبناء ابراهيم وحفدته ،وأنهم

خلفاؤه و
ورثته ، لقد سقطت عنهم الوراثة منذ أن انحرفوا عن هذه العقيدة قال تعالى : (( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا ۗ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ)) آل عمران: 68
كما تحطمت من بعد وسقطت دعاوى قريش في الاستئثار بالبيت الحرام وشرف القيام بعمارته ؛ لأنهم فقدوا حقهم في وراثة باني البيت ورافع قواعده بانحرافهم عن عقيدته قال تعالى (( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ )) آل عمران: 67
فإبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - لم يكن البيت مِلكاً لهما فيورث بالنسب عنهما ، إنما كانا سادنيين له بأمر ربهما ، لإعداده وتطهيره لقصّاده من المؤمنين (( وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ )) البقرة: 125وعندما قال الله تعالى لإبراهيم عليه السلام (( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا )) قَالَ إبراهيم : (( وَمِنْ ذُرِّيَّتِي )) فأجابه المولى تبارك وتعالى : (( لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ )) سورة البقرة ( 124) فهذا الذي قاله الربّ جلّ شأنه لإبراهيم – عليه السلام – بصيغته التي لا التواء فيها ولا لبس ولا غموض قاطع في تنحية اليهود عن القيادة والإمامة بما ظلموا ، وبما فسقوا ، وبما عتوا عن أمر ربهم ، وبما انحرفوا عن عقيدة جدّهم ابراهيم عليه السلام !
وهذا الذي قيل لإبراهيم بصيغته التي لا التواء فيها ولا غموض " لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ" سيظل نصاً قاطعاً أبد الدهر في تنحية مَنْ يسمّون أنفسهم بالمسلمين ثمّ يتورطون في الظلم ، ويتلبسون بالفسق ، وينبذون شريعة الله تعالى ويتخذونها وراءهم ظهريّا ، من أيّ جنس كانوا أو جنسية أو لون أو قوميّة !!
فهذه التقريرات الربّانية هي التصور اللائق بالإنسان الذي يستمدّ إنسانيته من نفخة الروح العلوية ، لا من التصاقات الطين الأرضية !
والعرب اليوم ليس بينهم وبين الله صهر ولا نسب وإن كان النبي محمد – صلى الله عليه وسلم - منهم ، فذا فضل يطوّق الله به أعناقهم يستلزم منهم أن يكونوا أوفياء لفضل الله عليهم ( وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) [البقرة:198] وإلا فسوف تطالهم السنّة الربانيّة الجارية : (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد : 38] فرسالة الإسلام هي التي أنشأت للعرب وجوداً في الحياة ، وجعلت لهم دوراً في التاريخ ، وقرنت اسمهم برسالة يؤدّونها للبشرية ، وإن كانوا من قبل أن تنزل عليهم رسالة الإسلام من قبلها لضائعين ، ولولاها لظلوا ضائعين ، وهم بدونها أبداً ضائعون ، فما لهم من فكرة يؤدّون بها دوراً في الأرض غير الفكرة التي انبثقت منها ، وما تنقاد البشرية لقوم لا يحملون فكرة تقود الحياة وتنمّيها ، وما من رسالة يؤدّيها العرب للبشرية فتعرفهم بها وتذكرهم وتشكرهم إلا رسالة الإسلام ، يبلّغونها للعالم بلسان الحال والمقال على السواء !
فنخالة القول وخلاصته : إنّ اليهود قد كسروا جناحيّ عبوديتهم مع الله تعالى ؛ فالمرء إنما يحلّق في سماء العبودية بجناحين اثنين هما : التعظيم لأمر الله تعالى ، والشفقة على خلق الله ، فبانحراف اليهود عن ملّة أبيهم إبراهيم – عليه السلام – قد كسروا جناح التعظيم لأمر الله تعالى ، وبسفكهم دماء الأبرياء ووثوبهم على حرماتهم وتدنيس مقدساتهم قد كسروا جناح الشفقة على خلق الله تعالى فتجرّدوا بذا من رداء العبوديّة ! من أجل ذلك تمّت تنحيتهم عن إمامة البشرية ...
والعرب اليوم : قد نكلوا عن صيانة عهودهم مع ربهم فيما استرعاهم فيه من رعايا ، واستأمنهم عليه من قضايا ، فأضحوا على أبواب الإغفال والإهمال !! وإلا فأين تعظيم العرب لأمر الله تعالى وبيت المقدس يرزح تحت نير الظلم والظلام ؟ وقصة القدس لمّا تنته بعد ...وما أدراك ما قصة القدس ؟؟ وأين شفقة العرب على خلق الله تعالى وهم يقتل بعضهم بعضا ، ويسبي بعضهم بعضا ، ويحاصر بعضهم بعضا ، ويجوّع بعضهم بعضا ! يقتلون أبناء ملّتهم وبني جلدتهم وأقحاح عروبتهم ،حتى غاصت قوائم كراسيّ ملكهم في أشلاء رعاياهم ، وطفت عروشهم على بحيرة من دماء شعوبهم ، ويستغيث المستضعفون ولا مغيث ولا مجير من أمّة العرب !
في حين جسّد النبيّ – صلى الله عليه وسلم - السماحة الإسلامية الإنسانية حتى مع المشركين ؛ فلنا في (قصة ثمامة بن آفال سيّد بني حنيفة ) مستند وحجة : فقد توعّد ثمامة ساسة قريش بقوله : ( لن يصلكم من اليمامة حبّة حنطة حتى يأذن بها محمّد – صلى الله عليه وسلم - ) فحاصر قريشاً وشدّ وطأته عليها ، فكتبت قريش إلى النبيّ – عليه الصلاة والسلام - ( إن عهدنا بك وأنت تأمر بصلة الرحم وتحضّ عليها ، وإنّ ثمامة قد قطع عنا ميرتنا وأضر ّبنا، فإن رأيت أن تكتب إليه أن يخلّى بيننا وبين ميرتنا فافعل !!فكتب إليه رسول الله : "أن خلّ بين قومي وبين ميرتهم".
فلم يعامل النبيّ – صلى الله عليه وسلم – قريشاً بالمِثل وهي التي أخرجته وصحبه – رضوان الله عليهم - من ديارهم وأموالهم واستولوا على بيوتهم وأرضهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله !!
فالإسلام لا يخيس في مبادئه ولا يحيف في أساليبه حتى في خضم معركته مع أعدائه، فلا ينسلخ من نزعته الإنسانية ، ولا يتجرد من ثوب الآدمية !
فلا هداية بالإلجاء والمقايضة ، مقايضة إيمان المشركين بلقمة عيشهم وتفريج كربتهم ! فالإسلام لا يتخذ من حصار الآخرين وتجويعهم مسلكاً لتسويق معتقداته وتشريعاته ، فمعتقدات الإسلام وتشريعاته سامية غالية ، معتقدات الإسلام نيّرة تحتفي بها العقول السويّة ، وتشريعات الإسلام خيّرة تحتضنها بل وتتلقفها النفوس الأبيّة !! ففعلة الرسول تلك وثبة بالبشرية في فضاء الإنسانية ، وقفزة بها إلى رحاب الآدمية ، وثبة تتقاصر الألسن عن شكرها، وتقصر الرقاب عن مجاثاتها ومداناتها !
وبعد : في ضوء ما تقدّم فإنّ الذين يحاربون حقيقة الإيمان أن تستقر في القلوب ، ويحاربون منهج الإيمان أن يستقر في الحياة ، ويحاربون شريعة الله أن تستقر في المجتمع إنما هم أعدى أعداء البشرية وأظلم الظالمين لها ، لأنهم بذا يحرمون البشرية من أن تنعم برحمة الله تعالى المزجاة لها ولسوف تمقتهم البشرية وتلفظهم وترفضهم ولو بعد حين !!!!

فهؤلاء انحرقت في أنفسهم المعاني الخلقيّة الباطنية التي فيها قوام إنسانيتهم ! وتبعثرت في عقولهم المسلّمات البدهيّة التي فيها مواطن رُشدهم ! وتشوّهت في مشاعرهم القيم النبيلة التي فيها دعائم عزّهم! فتحلّلت بذا آدميتهم وتآكلت إنسانيتهم ، ولسوف يُضرَب عنهم النصرُ والظفر صفحاً أن كانوا قوماً مسرفين ، وعن الصراط لناكبين ......