هوية المثقف العربي الراهنة
- 1 -

د. خالد سليكي / المغرب : استاذ محاضر في جامعة طنجة: «حذار وانت تحارب الوحوش ان تتحول الى وحش مثلهم» نيتشه
إبراهيم درغوثي: نائب رئيس اتحاد الكتاب التونسيين: المثقــــف العــربي هـو ضميـر هـذه الأمـة الحي
محمد ابو زيد ; استاذ اللغة الالمانية في معهد غوته برام الله : أي أرض وأي هوية أبحث عنها؟!
الاديبة المغربية: الدكتورة أسماء غريب /ايطاليا/: ما الذي نمنحه لمن يحملون هموم الذات العربية؟
كايد هاشم: صحفي أردني: إضاءة الدرب لمن ينشدون الاهتداء

محمود السرساوي


يحمل قلق السؤال عن هوية المثقف العربي في طياته وهنا لابد من الاعتراف به، وهشاشة لا يمكن نكرانها، والتحديد للمدلول الثقافي هنا ليس مغايراً للواقع، بل يطرحه ضمن تحولاته المتسارعة بدينامية غريبة، وربما يكون صحيحاً القول: باننا نحاول الهوية من باب خوفنا عما آلت إليه الحالة العربية، فالقوي حتماً لا يساوره الشك إزاء هويته، وعندما نربطها بالراهن نشير الى وقوفنا في مهب الجهات كلها، متأملين أسئلة ذاتنا في مفاهيم المواطنة والمدنية والوطنية، ونترك للأقلام العربية المشاركة في محاولتنا هذه أن تضيء المبتغى، فالمساهمة المطروحة ليست أكثر من عتبةٍ للوقوف أمام صورتنا بصفائها وخدوشها، إنها دعوة لحوار قديم جديد نفتقده كما نفتقد الكثير غيره في أزمتنا المستمرة.

إن التحولات التي تشهدها المجتمعات العربية ، في الوقت الراهن قد كان لها الاثر الكبير على كل مناحي الحياة ولعل السياق الثقافي العام، يشهد على ان التحولات التي طرأت قد عملت على تجذير اشكال جديدة من الوعي، من جهة ومن تغيير التصورات والمفاهيم من جهة أخرى.
والحال انه في ظل هذه التحولات الكبرى طفا اليوم سؤال الهوية الثقافية ، وسؤال المصير الوجودي ، وسؤال القضية العربية...الخ ولكن يبقى السؤال الاكثر عنفاً هو سؤال الثقافة والمثقف داخل المعادلات الكبرى التي كان يشكل فيها ، دائماً موقعاً هاماً بل ومركزيا، فما هي هوية المثقف العربي في هذا السياق الحضاري الاكثر تعقيداً وتشعباً؟ ثم هل من هوية للمثقف العربي في ظل الانشطارات الحضارية وفي ظل العولمة التي لا تقف عن التهام الهويات لإحلال هوية مغايرة ومناقضة لكل الهويات المحلية والثقافية؟.
تعنى الهوية بدءاً بمجموع المكونات الثقافية التي تساهم في اعطاء مشاعر الانتماء والامن والاندماج داخل الجماعة، مع منحهم المعايير التي تمكن من التواصل والتفاعل والتشبع بالقيم والطموحات المشتركة ،مما يساهم في بناء شعور الثقة، ومن ثم فإن مكونات الهوية تشير الى الرأسمال الرمزي الاجتماعي ، ومن هذا التحديد فإن لكل جماعة بشرية خصائصها الثقافية، من حيث هي عادات وتقاليد واعراف وطرائق في العيش وأنماط في تحديد سلوكات ، انها نظرة الجماعة الى العالم .
ولعل اهم ما يترتب على سؤال الهوية، هو مسألة الخاصية الثقافية للجماعة، لذلك فإن الهوية العربية التي ظلت محط نقاش طويل منذ زمن بعيد ، من اهم الاشكاليات التي لا يتوقف المثقف العربي عن مناقشتها ، كما انه بمجرد الانخراط في مناقشة هذه الاشكالية سرعان ما تطفو اشكالية المثقف كقضية ،بل كاحدى اكبر القضايا على الاطلاق، ومن هنا كانت الحلقة او بالاحرى الدائرة المغلقة التي تعيد انتاج كل القضايا علاقة المثقف بالجماعة ، ودور النخب ووظيفتها؟ وهل النخب هي المحرك الحقيقي لكل التحولات او التغيرات الممكنة؟ وما هو دور المثقف والنخب ومساهمتهما في تخطي معوقات واعطاب المراحل التي مر منها الزمن العربي ومايزال؟.
لقد علمنا التاريخ كما تؤكد الخبرة «أنه لم يكن بالامكان حدوث اي تغيير او اصلاح كان ام ثورة دون التفاف الناس حول عقيدة اصبحت ممارسة بفعل افراد وفئات متضامنة، فمن اين اتتهم اللحمة التي جعلت منهم كتلة او طبقة او أمة؟ أفلا يدخل في صلب عمل المثقفين خلق اللحمة بين من لهم مصلحة التغيير» لأنهم هم الذين يساهمون في بناء النظام الرمزي و«الرموز هي في النهاية ادوات تساهم في التضامن الاجتماعي» من حيث هي ادوات معرفة وتواصل،وهي التي تخلق ذلك الاجماع الذي ساهم اساساً في اعادة انتاج النظام الاجتماعي ، فالتضامن «المنطقي» شرط للتضامن « الاخلاقي» .
إن هذا الدور الكيميائي الذي لايمكن ان يكون المثقف بمعزل عنه في عملية انصهاره داخل بوتقة الهوية والتطوير ، يدفع الى البحث في طبيعة المثقف العربي وهويته في الراهن، لان صدمة المجتمع العربي بالآخر / الغرب كانت من وراء نشوء المثقف العربي الحديث والحال انه اذا كان المجتمع العربي لم يحافظ على عصبيته التي تم اختراقها من قبل الغرب، فإنه يمكننا القول بأن المجتمع العربي لم «يتفردن» وحتى تلك الشرائح التي حققت بعض التفردن، فإنها لم تنجح في انتاج تكتلات بديلة للعصبيات التقليدية ( القديمة) الامر الذي جعلها تتعايش معها وتتكيف مع منطقها ، ومن ثم لم يعد ممكناً حصر دراسة المجتمع العربي بجهاز الدولة الذي يتسم باغترابه وبرانيته بالنسبة للعلاقات الفعلية السائدة التي يتأسس عليها المجتمع الاهلي، كما لايمكن حصر علاقة المثقف والسلطة بسلطة الدولة فقط، فالدور التقليدي للمثقف انتهى مع انتهاء الايديولوجيات، بل ان الجغرافيا الثقافية وصراع الهويات الذي يأتي تحت جبة صراع الحضارات يدفعنا الى استنتاج اصناف من المثقف لأنه بالبحث في هوية هذا الاخير يتبدا لنا بوضوح ان الامر يتعلق بأنماط متعددة نحصرها في اربعة:
1- العالم الذي يوجد في المركز الصناعي، والتجاري العسكري، وهو الممثل للبنية المحددة لفضاء السلطة بمعانيها الواسعة.
2- الخبير الذي يختلف عن العالم في كونه اكثر اقتراباً من دائرة الحكم ، واكثر التصاقاً بالرهانات الاجتماعية والانسانية فهو مستشار يسند ويساند الحاكم ،كما انه هو الذي يرسم الرؤية الاستراتيجية للمؤسسة ويساهم في تجسيدها وتطبيقها عملياً.
3- الصحافي / الاعلامي، وهو الاكثر مشاركة في النشاط الثقافي، ويمثل الجسر الذي يتوسط الحلقتين: اي الحلقة الرابطة بين المجتمع والسلطة الحاكمة بين ذوي القرار والشعب، وهو في الآن نفسه الرقيب على السلطة.
4- ثم اخيراً المثقف الباحث الذي يشتغل بحياد وبأمانة علمية وقيم اخلاقية لا يراهن على اي مكاسب مادية او ديماغوجية، إنه الباحث عن الحقيقة، والمعرفة في اصفى تجلياتها، وهو نموذج المفكر الموروث من عصور الانوار والانساق الايديولوجية المندثرة ويتميز بسمة العقلانية النقدية وانتهاج خط يتكرس في منظمات المجتمع المدني من حيث هي المعبر الحقيقي عن فاعلية الحركة والدينامية الاجتماعية.
إن هذه الانماط من المثقفين الذين يوجدون في المجتمعات يشتغلون في اطار عمل مؤسساتي ، ووفق تصورات ومخططات بل ومشروع حضاري واضح له اسسه وله فلسفته، أي له مرجعيته المعرفية والايديولوجية التي تحكمه وتجعل كل تلك الانماط تنتظم وفقه.
والحال ان طبيعة الإعاقة التي شابت الحداثة العربية والتي امتدت لتشمل كل البنيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، قد عمقت الهوة بين الطبقات، كما ساهمت في توسيع الفجوة بين مجموع تلك الانماط اي ان كل نمط يشتغل بمعزل، بل وفي تنافر خطير يجعلنا امام هويات متعددة وامام برامج ومخططات لا تقاطع بينها، وهذا هو جوهر القضية التي يتخبط فيها المثقف العربي، لأن غياب المشاريع الحضارية الكبرى وغياب التواصل المعرفي في كل ابعاده لم يفعل سوى انه جعل تلك الانماط عبارة عن جزر متباعدة لا جسور تصل بينها.
إن المثقف العربي اليوم هو مثقف بصيغة المفرد لا الجمع، وإن مشكلتنا اننا نشتغل افراداً لا جماعات عكس الاخر/ الغرب، الذي يقوي ويزيد من حصانة الجماعة والبحث عن كل انواع التقاطعات الممكنة لبناء المؤسسات الثقافية والسياسية والاقتصادية، في محاولة منه الى تجاوز كل ما يمكن أن يهدد البناء الاستراتيجي الحضاري الكبير، وهذا ما يجرنا الى مسألة ضعف وتيرة تطور المجتمع العربي وجنينية المجتمع المدني ، الذي بدت نشأته مشوبة بعدة إعاقات خلافاً للمجتمعات الاوروبية التي عاشت صراعاً طبقياً حقيقياً ادى الى ظهور مجتمع مدني حقيقي يقوم على التمدن والمسؤولية والتعاقد ، ولذلك تمكن مثقفوه ( الغرب/ أوروبا) منذ عصر النهضة من بلورة تصوراتهم الخاصة وعملوا على تحصين المجتمع المدني والحفاظ عليه وعلى استقلاليته باقامة مسافة فاصلة بينه وبين السلطة فاتجه العمل إلى تكوين مقومات النجاح الخاصة به، مما ساهم في تشكله كسلطة خصوصية قائمة بذاتها هي سلطة الثقافة والمعرفة، وهو الوضع الذي نفتقده ويظل مغيباً في الوطن العربي بين جميع فئاته المثقفة الامر الذي كرس استمرار بنيات وروابط تقليدية حاملة لملامح البداوة والتقليدية المشبعة بقيم الطائفية والعشائرية مما فوت فرصة تشكيل ظاهرة «الفردنة» الضرورية التي تؤسس لأنماط حضارية بديلة يكون الانتساب اليها اختياراً وحراً، وهي الاساس لقيام مجتمع متطور يكون تربة خصبة للممارسة الثقافية المستقلة.
وخلاصة نرى بأن المثقف العربي بات في مأزق يوازي كافة المآزق التي تتخبط فيها كل البنى والخطابات العربية، ويبقى من اولويات مشروع المثقف العربي ان يعيد مراجعة اولوياته ومفاهيمه في ظل المستجدات الكونية بدءاً من العقلانية الى آخر التكنولوجيات المستعملة، لأن القضية اليوم لم تعد قضية دور المثقف بقدرما هي قضية ماهية المثقف وطبيعته، وطبيعة المعرفة التي ينتجها هذا المثقف، اذ بقدرما هناك مسافة وتنافر بين انماط المثقفين بقدر ما تزداد هذه المسافة بينه ( المثقف) والمجتمع ، بل ان ما يطرح اليوم كإشكالية هي الدور الذي بات يلعبه المثقف في المحافظة على البنيات التقليدية وكيف انه صار من اكبر المدافعين عنها عن وعي او عن غير وعي ، بثمن مدفوع او بامتيازات، فالمثقف صار حليفاً لمن كان يقف في وجهه أمس، كما أنه صار من المناصرين ومن المخططين لأساليب الهيمنة واعادة توزيع السلطات بكل اشكالها ، واذا كان هذا حال الانماط الثلاثة الاولى ،فإن النمط الرابع يعيش في عزلة شبه تامة بحيث تجعل كل ما ينتجه وما يفكر فيه عبارة عن ميتافيزقيا لا تعني المجتمع ولا الانظمة وهذا ما يجعل هوية المثقف العربي ، راهنا، تعيش تمزقا يهدد الوعي والعقل العربيين الى حد كبير.
ومن هنا يمكننا استنتاج ان المثقف العربي بعد ان تجاوز لحظة الخروج على العصبية البدوية وتكوّن المثقف المفرد في قطيعة مع الايديولوجيات السائدة والثقافة التقليدية التراثية المهيمنة فإنه بالمقابل انخرط في المجتمع مجدداً مع احتلاله موقع العصبية البدائية التي تسود السلطة مساهماً في اعادة انتاج وبلورة البنيات الرمزية الاكثر تعفنا فـ« السلطة الرمزية هي سلطة لا مرئية ولا يمكن ان تمارس إلا بتواطؤ أولئك الذين يأبون الاعتراف بأنهم يخضعون لها بل ويمارسونها».
«هوية المثقف العربي»، في هذا الطرح للسؤال اجابة ضمنية، فالمثقف العربي يحمل هويته في انتمائه لأمته العربية ولايقدر الفكاك من هذا المصير ولو حاول، ففي اوقات الشدة حين تتأزم الاحوال حد اليأس لايبقى للانسان وهو ينظر حواليه الا ان يتمسك بجذوره ويدافع عن اصالته في خضم عولمة لا ترحم الضعيف ولا تأبه إلا بالقوي مما دفع بأوروبا الى التوحد في تكتل كبير فيه من كل الوان الطيف ، فتناسوا عداوات كانت تفتك بهم الى زمن قريب حين خاضوا في اقل من نصف قرن حربين عالميتين اتت على الأخضر واليابس، ولكنهم توحدوا اليوم تحت علم واحد هو علم اوروبا بنجومه الزرقاء الخفاقة.
إن المثقف العربي هو ضمير هذه الامة الحي وهويته اساسا في انتمائه بروحه وعقله ووجدانه الى أمته يدافع عن قضاياها المصيرية بما ملكت يمينه ولا يقبل ان تداس او تهان.
ورغم الهزات الكبيرة التي مر بها وطننا الكبير في نهاية الألفية الماضية وبعد حرب الخليج سواء كانت الاولى ام الاخيرة، وبعد التشرذم الذي عاشته الأمة العربية جراء ممارسات كنا نظن انها انتهت منذ زمن ملوك الطوائف في الاندلس وجرت على الامة ويلات مازلنا نعاني من تبعاتها حتى الآن، فإن المثقف العربي ظل في اشد الوعي بهذه الظروف الصعبة فلم يتخل عن دوره ولم يستسلم لليأس .

« أنا ياصديقة متعب بعروبتي فهل العروبة نقمة وعذاب ؟
«نزار قباني »
ماذنبي حتى تخطب ودي في موضوع شائك مثل هذا؟ ألم يكن من الافضل لو بحثت عمن هو اعلى كعباً مني ؟ أخاف ان احدق النظر في كلمة هوية حتى لا انزلق الى الهاوية ، كنت في السابق اعاني من قلق في الهوية اما الآن وربما منذ زمن، اصبحت اعاني من قلق على الهوية، كنت في السابق اتعاطى الادب والفكر كهواية تشاغلني في الهوية، اما الآن فلابد لي منه هرباً من مسألة الهوية.
اي ارض واي هوية ابحث عنها وأنا منذ ربع قرن لم ازر بلداً عربياً واحداً؟
أي اوضاع راهنة وأنا اعيشها منذ ولدت منذ نصف قرن؟ لاتضطرني الى الكشف عن مواجعي .
عبثاً اليوم الحديث عن هوية المثقف العربي دون التساؤل عن هوية الانسان العربي خاصة وعن المجتمع العربي عامة، باعتبار هذا الاخير الرحم الذي تختمر بداخله شخصية وهوية الكينونتين سواء منها العربية ام الثقافية.
الانسان العربي عانى على مر العصور من ضغوطات تاريخية وازمات سياسية واقتصادية هزت كيانه حتى الصميم ولوحت به ذات اليمين وذات الشمال فجعلت منه مسخا دون معالم، دون كلمة ودون رأي ، مسخاً اصابته عدوى الانفصام عن الذات والاحساس بالغربة، وهو داخل الارض التي نشأ وترعرع فيها،وعليه فما المثقف الا تحصيل حاصل لكل ما سبق ذكره فتراه اليوم يصفق ويهتف بحياة هذا الفريق وغداً بحياة فريق آخر، وهو داخل البلد والوطن الواحد، واذا لم يجد ضالته معهم فإنه يبدأ في الرطن بلغة الآخر« الغرب» وبتبني سياسته وثقافته ليس بهدف الانتفاع بما لديه من مناهج فكرية ، اقتصادية، وسياسية جديدة، ولكن على سبيل المحاكاة السطحية، لا أقل ولا اكثر فيصبح امره كالغراب الذي من شدة اعجابه بالطاووس، وخيلائه احب ان يقلد مشيته فلم يفلح في الامر فعدل عن الفكرة واراد الرجوع الى مشيته الاصلية فنسيها فلا هو اصبح طاووساً ولا هو ظل غراباً لذا نراه في الطبيعة يقفز وينط هنا وهناك، دون ان تكون له مشية خاصة به ولكن كل هذا لا يمنع من القول بأن الساحة العربية على الرغم من احباطاتها واعتيادها على اجترار ذكريات الماضي العريق وبكائها على اطلال الفكر والتاريخ العربي المجيد فإنها استطاعت ان تنجب لنا اقلاماً عربية ومثقفين عرب بكل ما تحمل الكلمة من معنى وان تهدينا وكنا قد فقدنا الامل أوجها ثقافية نسائية حملت مشعل الهوية العربية ومضت به قدماً في جميع المجالات العلمية والادبية والسياسية والتاريخية ولكن يبقى بداخلنا تساؤل عميق يوجعنا ويوخزنا كما الشوكة في الحلق: ما الذي نمنحه لهؤلاء المثقفين الذين يحملون على كاهلهم هم الذات العربية وهويتها؟ كيف نحافظ عليهم من خطر السقوط وخطر الصعود الى الهاوية في مجتمع همش حتى لغته الأم ركنها على الرف فأصبح يعجن كلامه بلغات ما انزل الله بها من سلطان لا يفهم هو نفسه معانيها؟
لا شيء نقوم به تجاه هذا النوع من المثقفين، لا شيء نمنحهم بعيدا عن عفن المحسوبية والفساد الثقافي والسياسي والديني ،وطالما نحن هكذا في غياهب الظلمات لانعي ابداً ولا نفهم بأن المثقف في كل مكان هو نبي يحمل بداخله ناموسا عظيماً يؤرقه ليل نهار، ونوراً وهاجاً يشعل فكره ويجعله قادراً على التنبؤ بما يحوم حول الارض التي ولدته من اخطار فإننا سنصبح ودون شك كمن سبقنا من الاقوام قتلة انبياء نسفك دماء مثقفينا بسكين التهميش والاهمال والمعاداة.
أتصور أن مفهوم الهوية إشكالي منذ صرنا نتحدث عن العولمة... لقد أخذ مجموعة من المحسوبين على الثقافة يحاولون جاهدين إيجاد وشائج بين الهوية والعولمة والأمر يفضي بالضرورة إلى تناقض مخيف... الهوية الثقافية أساس لا تقوم ثقافة حقيقية في معزل عنها...الأمر لا يتعلق بالطبع بهوية لغوية ضيقة.... يمكن بالطبع التعامل ثقافياً بلغات أخرى دون أن يعني ذلك.. أننا خنا هويتنا... كما يمكن أن نكون مستلبين ونحن نتخذ اللغة العربية وسيلة لممارسة ثقافة هجين هذا أن الهوية أعمق من اللغة... إنها التمثل الحقيقي والعميق لجوهر الإنسان المنتمي إلى مجموعة ما.... كمجموعة البلاد العربية وهلم جرا.... الهوية تعني بهذا المعنى الحق في الاختلاف.... وعدم الذوبان في الآخر نتيجة حديث بليد عن عولمة هي في آخر المطاف تذويب للجوهر الخاص بعربي مثلاً في مجموعة كبرى غير متجانسة.
قد أستطيع، ضمن المساحة المحددة لهذه المشاركة، تجاوز الكثير من الأسئلة التي يحرض عليها العنوان: «هوية المثقف العربي الراهنة» لكنني بالقطع لا أستطيع تجاوز السؤال المنهجي عن مشروعية وجود أو تشكل راهن لهوية نخبوية للمثقف تعزله أو تجتزىء كيانه عن الهوية الأساس والأشمل المانحة للصفة العربية وللخصائص العروبية، التي يفترض أن يكون من نعدّه مثقفاً مدركاً لها، مؤطراً منطلقاته من معينها، في إطار تستبين من خلاله ملامح الذات / الهوية الثقافية، لكنه الإطار الذي لا يقيد تعبيره عن روحية هذا الانتماء، ولا يحيّده عن الأصالة في التفكير، ولا يحد من آفاقه في تقدمية الخطاب الثقافي، يتصل بذلك السؤال عن «الراهن» في هذه الهوية مما تفرضه جدلية الثابت والمتغير، فالهوية من الثوابت، والراهن من أحوال المتغير حكماً.
لا أريد الخوض في بحث فلسفي هنا، لكنني أفترض أننا نقصد «بالمثقف» ذلك المنتمي إلى جوهر الثقافة العربية انتماء عضوياً، لا قشرياً مزركشاً بادعاء فهم العولمة ومأخوذاً بدوار ما يسمى «العصر الرقمي»، بل قادراً على تنقية ناظريه وذهنيته وخطابه من شوائب اللبس بين الانبهار بالنفعية الآنية وحقيقة ما يجري في هذا العالم، ودون التخلي عن سؤال «كيف وإلى أين؟» الذي يجنبه السقوط في حفر الوهن الفكري والاستسلام لملوثات الفكر المستورد، والركون في أظلم بقعة أسفل شجرة الثقافة الوارفة، والانصراف إلى محاولات يائسة لاجتثاث جذورها والعبث بأغصانها الغضة القريبة، كما هو حال مثقفين سقطوا في تحدي المواجهة الفكرية ولم يروا ما هو أبعد من ذلك، لأنهم حتماً لا يستطيعون بلوغ أعلى الشجرة، وليس لديهم وسائل الارتقاء إلى النضج.
لا يعني ذلك أن الهوية الثقافية العربية خارج منطقة التأثيرات التاريخية المرحلية، وأن طوباوية التفكير والاستلهام والنظر تنقذ هذه الهوية مما هي حياله، فحراب العولمة وجهتها تفتيت الهويات وشرذمة الثقافات وتفجير سلامها الداخلي، هذه لا تصدها طوباوية ولا تجريب يفتقد سنده من الثقافة الأصيلة والمنهجية العلمية والوعي بالمسافة بين المبتدأ والغاية، أو إدراك الطريق السوي بين الهوية وحق تقرير المصير، وليس بالضرورة أن يكون هو الطريق الأقرب والأيسر، لكنه الأكثر ضماناً في مقاومة تحدي فصل المكونات الروحية والثقافية للإنسان العربي عن كينونته، وفي بناء حيوية مضادة مستمدة من عمق الموروث الثقافي إزاء مغنطة سلوك الإنسان في اتجاه الاستهلاك المادي الصرف وإفراغ روحه، هنا يأتي دور المثقف في الحفاظ على ثبات بنية الهوية من خلال ابتداع وسائط السير في ذلك الطريق باستضائته المدركة لذاته أولاً، وإضاءة الدرب لمن ينشدون الاهتداء.



جريدة البعث