تأرجح الذوق النقدي المعاصر
من قلم غالب الغول
&&&&&&&&&&&&&&
دخلنا ذات يوم إلى حديقة مملوءة بالزهور والورود وكان معي ناقدين وشاعرين وهما من أعز أصدقائي , كنا نتجاذب أطراف الحديث , فأعجبتني وردة برتقالية جميلة جداً , فقلت : ما أجمل هذه الوردة .
فرد عليّ صاحبي الأول قائلاً , ألم تكن هذا الوردة الحمراء الخمرية أجمل منها , فانظر كيف يطل الحب من بين مياسمها ,
ثم قال صديقي الأخر , ألم تكن الوردة البيضاء هذه من أجمل الزهور , كلها براءة , وكلها نعومة , وهذا يدل على الصفاء والنقاء .
لقد اختلفنا في الأذواق , فكان لكل واحد منا مذاقه ولونه ومفرداته , وكذلك نقاد الشعر , فإن لكل قصيدة مذاقها ومفرداتها , بل ومناسبتها , ولو حاولنا نقد قصيدة واحدة فلن نتفق على نقدها , لأن لكل واحد منا مذاقه اللغوي والعروضي والموسيقي والإيقاعي والتخصصي , فإن أفلح أحدنا باللغة نحوها وصرفها وبيانها وتشبيهها وجودة مفرداتها , فإنه لا يرى عيوب القافية ورداءة الإيقاع الموسيقي , أو لا يستوعب بعض المفردات في معانيها إلا إذا رجع للمنجد ليسعفه لأخذ معانيها , وقد يتوه بين المسميات فلم يجد الفرق بين أسد وغضنفر وليث وهزبر , فيرتد خائباً ولا يعرف ماذا يقول , لأن لكل شاعر مشاعره ليختار مفرداته دون تكلف , ولا يحق لنا كنقاد أن نجبر الشاعر على اختيار مفردات غير التي اختارها , لذا فإن الناقد يظل قاصراً في نقده لأنه على أقل تقدير لا يستطيع الإفصاح عن الجانب الموسيقي أو الإيقاعي للقصيدة , فيكون نقده يحتاج إلى مزيد من أدوات النقد . وحتى لو اكتملت الأدوات سيبقى النقد الشعري بلا مقاييس ثابتة ويبقى النقد مسألة نسبية فيها تأرجح الأذواق وتعدد الآراء .
وإذا نظرنا إلى دواوين الشعراء نجد أن لكل ديوان ميزاته المتعلقة بشخصية الشاعر , وما أكثر ألوان الشخصيات التي تؤدي إلى وظائف اجتماعية متفاوتة بدرجة علوها أو هبوطها , لكنها ضرورية للمجتمع ككل . فقد يأتي شاعر بشخصية دينية , فعليه باختيار مفردات الصوم والصلاة والحج والعمره وقيام الليل وذكر الأنبياء , وهذا نوع من الأناشيد الدينية واضحة المعاني سهلة الألفاظ هدفها وصول رسالة إيمانية للناس كافة , دون تعقيد لفظي أو غموض معنوي , أو رمزية نائية عن الفكر .
أو قد ينسج الشاعر قصيدة حب وغرام لمحبوبته بثقافتها المحدودة , فيحاول بـِفنـّه وشاعريته أن يتنازل إلى مستواها العقلي والثقافي ليعبر عن شعوره بمفردات سهلة ممتنعة لا غموض فيها ولا تعقيد , أو قد يخاطب الشاعر جهة سياسية عاتية ظالمة قاهرة , فليس له ملجأ إلا للرمزية والغموض واللف والدوران والتحايل على المعاني ليفسر كلامه بتفسيرات كثيرة مموهة .
ومن هنا خطر على بالي أن أدخل مع أصحابي إلى مكتبة مملوءة بالدواوين الشعرية , فتناولنا أربعة دواوين وجلسنا على طاولة مستديره لنتصفح الديوان الأول :
لقد اخترنا من الديوان الأول الأبيات الآتية :
يقول الشاعر في قصيدته بعنوان ( صيحة الحق ) مهداة إلى روح الشهيد عبدالعزيز البدري :
عَلِمَ الله والبرية تعلم .... ليس سراً أمري فيطوي ويكتمْ
قالت النفس : صه فقلت كفاني ... كل شيء في الأرض قال تكلمْ
ما أتينا إلى الحياة لنبقى ... فشقى من عاش بالخلد كلمْ
@@@@@@
ويقول أبو نواس
أخي ما بال قلبك ليس ينقى ... كأنك لا تظن الموت حقا
إلا يا ابن الذين فنوا وماتوا .. ألا والله ما ماتوا لتبقى
لقد اختار الشاعر مفردات بليغة لتصل إلى الأذهان بيسر وسهولة , لتكون عبرة للناس وتذكرة حقيقية . ولم يستعمل الغموض أو الضبابية , فجاءت كلماته سهلة ميسرة وواضحة وضوح الشمس , وليس كل واضح مفضوح إلا عند النقاد الذين لا يرووا في المرآة إلا وجوههم فقط .
فقال صاحبي عن يميني : هذا ليس بشعر , ويجب أن يكون الشعر فيه تفسيرات كثيرة لمعاني متعددة . فضحكت مستغرباً , وقلت لصاحبي الآخر , ما رأيك بهذه الأبيات ؟
فقال جميلة جداً وبليغة جداً وسليمة من أي عيوب ؟
وفتحنا الديوان الثاني بعنوان ( ما لون الوقت ) واخترنا الأبيات الآتية :
عَبَرَ شباك العمر عجوزاً
ما فوق شواطئ قهري
فالفكرة واهنة
تنسى الجزر وذعر المدّ
إن جدّ الجدّ
سأفيض على الصياد بطهري
فقلت : ما رأيك أستاذي بهذه الأبيات ؟
قال : هي من أجمل القصائد , برمزيتها وعفويتها وتلون معانيها
فقلت ما رأيك أيها الصديق الثاني ؟
فقال : لم أفهم منها شيئاً لكن بها مفردات عربية , ولكل مفردة معناها الخاص , لكن باعتقادي أن الشاعر كان يفهم ما يقوله , فاختار مفرداته الرمزية ولا يفهمها سواه .
وضحكت , ولم أعط رأيي
وفتحنا الديوان الثالث بعنوان ( نبض القوافي ) واخترنا الأبيات التالية :
قالت إليّ حبيبتي ... والقول فيها يسحرُ
بين الضلوع محبة ... مسك تفوح وعنبرُ
فأحببتها والقلب يرقص ,,, تارة ويزمجرُ
فقلت لصديقي الأول : ما رأيك ؟
فقال تعيسة جداً , فهي واضحة الفكرة وواضحة المعنى , والشعر أكبر من ذلك ؟
فابتسمت وقلت. لكم رأيكم , ولكني أعيب البيت الثالث حيث أجد به حرف ( الفاء ) زائداً وكسر البيت , والأبيات جميلة جداً .
وقلت لصديقي الآخر : ما رأيك بالأبيات الشعرية
فقال : جميلة المعنى , وهي رسالة موجهة من حبيب إلى حبيبته بعفوية الكلمة الصادقة التي لا لبس فيها ولا غموض ولا تكلف .
واستغربتُ من تناقض الناقدين العزيزين .
ثم تناولت الديوان الرابع بعنوان ( الأعمال الكاملة للشاعر أحمد الخطيب ) يقول :
أن لم نجد حصرماً
أن تجد مرفقاً للغبار
أن ترى في الزقاق عجوزاً
أن تسوس الخيول
وتربطها بالحبال
أن ترى بؤبؤاً أسوداً لا يشي بالغزال
أن ترى ما ترى ممكناً
دون أن تفسح القلب للماء
أو تفسح الأرض للعاشقين
أن ترى أرنباً فوق عشب الطريق
...............................
قلت للصديق الأول : ما رأيك بهذا الشعر ؟
فقال , رائع , وتجد لكلماته ألف معنى ومعنى .
فقلت للناقد الثاني ما رأيك يا صديقي , فقال :
والله لم أفهم من الألف معنى شيئاً .
ومن هنا نستطيع القول . دع الشاعر يعبر عما يختلج في صدره من إبداع , فلكل ناقد أدواته ولكل شاعر مفرداته , ولكل شعر شاعر , ولكل شاعر شعره .

لكم أطيب التحايا .
قدمه/ غالب الغول