خزائن الحب التي لا تُفتح إلا بعد أن يموت صحب الاستحقاق!!

قد تكون هذه من أغرب الكُليمات التي كتبتها .. والحقيقة أنني لم أكتبها .. بل عدت إلى كراس كتبته قبل سنوات،تحت عنوان (قصور على أعمدة الرياح : السعادة الزوجية أقرب إليك من ... والتعاسة كذلك).اليوم ذهبت إلى بقيع الغرقد – مقبرة المدينة المنورة التأريخية – مرتين حيث صلينا الظهر على والدة أحد زملائنا .. ثم صلينا المغرب على والد زميل آخر ... رحم الله الفقيدين، ورحم والديّ .. ورحمنا إذا صرنا إلى ماصاروا إليه.غريبة هذه الحياة .. أو غريبون نحن .... يكون الإنسان إلى جوارك ... تبعدك عنه مشاغل الحياة التي لا تنتهي .. ولكن حين يموت ... نشعر فجأة بتقصيرنا .. تكتسي ثوبا آخر ... تشتعل جذوة الحنين .. الإحساس بالتقصير .. تصبح لأشيائه قيمة أخرى .. سجادة صلاة .. عكاز .. مكان الجلوس .. لا زمة لفظية .. كل أشيائه الصغيرة تصبح لها لغة ... هذا الحبيب – أو الحبيبة – كان أمامك الوقت كله .. لكن الموت فقط هو الذي جعلك تشعر بقيمته .. وبمدى حبك له ...بنك من الحب والمشاعر الجياشة ... فلماذا لا نصرف من ذلك البنك على الفقيد ما دام على قيد الحياة؟!! أتراها (طبيعة الأشياء) ... لا نعرف قيمة الشيء إلا إذا فقدناه!!!!على كل حال عدت إلى كراس (قصور على أعمدة الرياح ...) .. فوجدت ما كنت أبحث عنه .. الحديث عن (الموت) ولكن بطريقة إيجابية ... وهذا نص ما جاء في الكراس .. وتحديدا من الصفحة 45 منه : ((- ما الذي يعنيه لنا قول سيدنا رسول الله صلى الله عيه وسلم : ( أكثروا ذكر هادم اللذات يعني الموت)؟ أعلم يقينا أن ذكر الموت يعد من الأمور المنفرة، وإن كنت أتصور أن الخدمات الجليلة التي يقدمها التلفاز بقنواته المختلفة- وكذلك الصحف - لابد أن تكون قد خففت من وقع كلمة(الموت) في النفوس، وذلك حين تتسابق القنوات لنشر أشلاء الموتى في كل مكان تقع فيه الحروب، أو الكوارث، وحتى المرأة الكائن (الرقيق) أصبحنا نراها تعدو لتحظى بالتقاط صور(الأشلاء) لتحقق سبقا صحفيا، لقناتها، أو صحيفتها، من هنا أعتقد أننا نستطيع أن نتحدث عن (الموت) دون كبير حساسية.لديّ قناعة أن في ديننا الحنيف، أشياء كثيرة هي مثل (المكابح) التي تقلل من الاندفاع حين نستعملها، الاستعمال الصحيح، يبدو لي أن (الموت) من أهم تلك (المكابح)، صور كثيرة نستطيع أن نقدمها، حين نتحدث عن الموت وخصوصا في هذا الزمان الذي كثر فيه ما نستطيع أن نسميه (الموت المفاجئ)، نتيجة حوادث السيارات الكثيرة، والأمراض ...الخ الصورة الأولى التي سوف أقدمها، كانت حين ذهبت إلى إحدى المستشفيات ليلة العيد، وأنا في الانتظار حضر شاب يطلب طبيبا يذهب معه إلى المنزل، لأن لديه مريضة مصابة بانهيار، بعد أن تلقت نبأ وفات زوجها ليلة العيد، لاشك أن مثل تلك الصدمة في حاجة إلى الكثير من الإيمان والصبر للتعامل معها، ولكننا نستطيع أن ننظر إليها من زاويتين، الأولى( قصور) الأحلام التي كانت تبنيها تلك الزوجة .. والتي تحطمت كلها فجأة. والزاوية الثانية المشاكل التي ربما كانت بين تلك الزوجة، وزوجها، والتي لا يخلو منها بيت، في لحظة أصبح كل ذلك من ذكريات الماضي... ذهب ولن يعود إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.لدينا مثل غير صالح للنشر كما هو ولكننا سوف ندخل عليه بعض التعديل، وهو ( لما راح المقبرة صار سكرة)، الزوج الذي كان يهمل زوجته ولا يعيرها أي اهتمام، حين تموت، نجده ربما حاول أن يلقي بنفسه داخل قبر تلك الزوجة التي لا مثيل لها بين نساء الأرض! وكذلك الزوجة التي تبدو من كلامها أنها تكره زوجها، فجأة حين يموت نجد الحزن يكاد يقتلها على أفضل الرجال وأكرمهم .... هذا البنك الذي نكتشف فجأة أنه ممتلئ بالأفكار ( الإيجابية) عن شريك الحياة، ما الذي يمنع من صرف بعض ذلك الرصيد الكبير، من الحب والمودة، على الشريك وهو على قيد الحياة؟! طبعا يمكن الصرف من نفس البنك لمصلحة الوالدين، والأبناء، والإخوان، والأصدقاء....الخ وبعد ... أليس الموت مدعاة للوقوف لحظة مع النفس؟ وأن نحاول التعامل مع تلك الإيجابيات التي لا ننظر إليها إلى حين ينزل( أمر الله). بين يدي قصيدة للشاعر ناصر القحطاني،وهي من شريط ( بروق في العتمة)... تأملوا تلك التفاصيل، الشبابيك ... الستائر ... حمام السور ... صخيفات المناديل ... ورق جدرانها ... تقسيمة الديكور ... دفاترها ... وحتى شعرها المكسور ... : مسا الخيرات وإن طال البطا يا المنزل المهجور *** ترى ما بطا بي إلا حالة مثلك يقدرهاإذا عندك عتب لا مانع من معاتب المذكور *** وإذا عز الرضا تفداك الأعذار ومقابرهاأنا اللي جيتلك والريح تعوي والشتا مسعور *** ولا به من دفا والمربعانية بواخرهاتغير وانطبع دربك بلون المسك والكافور *** وها ذي رعشة كفوفي ولا به من يدثرهابعد ما كنت أجي بابك بدستور وبلا دستور *** ولا أدري إلا وذيك الدرفة اليمنا على آخرهاطموحي عارضته اللي معاها كل شي إبور *** وجا كسر الطموح أهون علي من كسر خاطرهاسنة ماقبل نذير الشيب كانت بوّل الطابور *** وكنت أحلامها ذيك السنة وأول سرايرهالقت قدامها فوضا وقلب وشاعر وجمهور *** وجات ورتبتني من جديد وصرت شاعرهابقيت أسري لها لا همني وحشة ولا ديجور *** أشيل أحلامنا تحت النجوم وهي اتفسرهاسقا الله يوم جابت لي قبل يومين من عاشور *** هذاك العسجد اللي جابه الله من عشايرهاغلاها كان تحويشة عمر بشعور فوق شعور *** ألين اكتظت الأشواق وألهاني تكاثرهاربت ما هي تحت ريشة نعام وفي بلاط قصور *** ولكن لا ترف له قيمة إلا تحت أوامرهااحملن أمهات البيض تسع شهور ... تسع شهور *** على رجوا بشايرها ولا لاحت بشايرهاتقل بدر ولا بيات بدر تقول بدر بدور *** ولا بيات بدر بدور يعني منت خابرهالو استقصوك عنها منت محتاج لشهادة زور *** تحت سقفك سحايب ملحها وأمواج سكرهامرق المتحف اللي من ورا ظلوعك فدتك الدور *** وأنا ما قوا نظر ما فيه بعد غياب ناظرهاحديقة بيت أهلها سورها العالي حمام السور *** زخارف بابها شباك غرفتها ستايرهاورق جدرانها سجادها تقسيمة الديكور *** خزاينها هداياها رسايلها خواطرهاتحفها مزهريتها قصصها شعرها المكسور *** صورها مكتبتها أقلامها لمت دفاترهازمام السيف شال الليل حنا الكف كحل الحور *** حلقها عطرها فستانها الأبيض جواهرهامرايتها فصوص الساعة البيضة أم خمس سيور ***خواتمها قلايد جيدها نقشات أساورهاملابسها بروق ألوانها دولابها الممطور *** من أزرقها إلى أحمرها إلى أخضرها إلى أصفرهانسانيس الهوى اللي ترتشف يشمومها المنثور *** صخيفات المناديل اللي احتضنت عبايرهامصابيح المكان اللي خذا منه النهار النور *** سنون أمشاطها اللي ما نست عشرت ضفايرهابطاقات يطرزها صغار يحملون زهور *** رحيل الدبلة اللي ما تهنت في خناصرهازوايا كنها بلور في بلور في بلور *** مسا رزنامة غاب الحرير اللي يغيرهاوش أقول ليتاماها الكثير الممتلين اكسور))هل سنبدأ بالصرف من بنك الحب هذا أم أننا سوف ننتظر إلى أن تصبح لـ(أسان المشط) التي لم تنس عشرة الضفائر .. قيمة وأي قيمة ؟!أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة