المجوسية وآثارها في المجتمع الإيراني - النيروز نموذجا

المجوس كلمة معربة عن مكوسيا (Magucia) البهلوية، وهي في اللغة (الاوستانية – الآقستا مغو) أو (مغاو) (Maghu) وهي مادة اشتقاق مغان في اللغة الفارسية الحديثة، وقد وردت هذه الكلمة في عبارة واحدة من عبارات الآقستا في الجزء الذي يطلق عليه اليستا.

والمغان أو المجوس في الأصل قبيلة ميدية أو طبقة خاصة بين الميديين وكان لهم امتياز الرئاسة الروحية في الديانة المزدية التي سبقت الديانة الزرادشتية، وعندما تغلبت الزرادشتية أو بالأحرى أصبحت الديانة الرسمية في العهد الفارسي الساساني في عهد أرشيد الأول (224 – 241 م) أصبح المغان السادة الروحانيين للدين الجديد، وقد استمر المغان أو المجوس يعدون أنفسهم قبيلة، ويعتبرون أنفسهم طبقة من الناس "نشأوا من قبيلة واحدة وجبلوا على خدمة الآلهة" وهذا ما حدا بالعالم الدانمراكي كريستنس إلى مقارنتهم بالسادة عند الشيعة.

وكان الإيرانيون قبل أن يتخذوا الزرادشتية ديناً لهم يتجهون كغيرهم من الشعوب الآرية إلى عبادة مظاهر الطبيعة، وكان أهم آلهتهم في ذلك الوقت ميثرا إله الشمس وآناهيتا آلهة الخصوبة والأرض.

ظهور زرادشت:

ظهر زرادشت في نحو منتصف القرن السابع ق.م في مقاطعة أذربيجان (اتروباتن Atropatene) شمال غرب إيران، ونشر دعوته في بداية الأمر في شواطئ بحيرة أورمية، ثم انتقل بعد ذلك إلى منطقة باختريا في شرقي إيران.

وقد جاء زرادشت بالكتاب المعروف بالآقستا، ويسميه المؤلفون العرب الأبستاق، وكان هذا الكتاب ضخماً في أول أمره فلما غزا الإسكندر المقدوني إيران ضاع منه شيء كثير. وفي العهد الأشكاني (ملوك الطوائف) حاول الملك بلاش جمع ما تفرق منه، وانتهى الأمر بالملك الساساني أردشير الأول إلى إعادة المحاولة واستطاع أن يجمع من هذا الكتاب قدراً دونوه في واحد وعشرين مجلداً أو نسكاً. ولكن هذا القدر المجتمع من هذه المجلدات قد عاد إلى التبدد والضياع مرة أخرى. ولم يبق من الآفستاني في الوقت الحاضر سوى خمسة كتب أو أجزاء؛ هي: يسنا، ويسيريد، وندياد، ويشتها، و خورده آقستا.

وخلاصة الديانة الزرادشتية : هي أن العالم ناشئ من أصلين هما النور والظلمة، وهذان الأصلان في نزاع معاً ويتناوب الاثنان الانتصار والهزيمة فيما بينهما، ولهذا قسم العالم إلى قسمين: جيش النور أو الخير، وجيش الظلمة أو الشر.

وعلى رأس قوى قسم الخير أهورامزدا، ويرأس جيش قوى الشر أهريمن، ومن المسائل المهمة في العقيدة الزرادشتية مسألة النار حيث تعتبر رمزاً للإله إضافة إلى الشمس، فالنار حسب زعمهم رمز للإشراق والضياء، كما أنها طاهرة نشيطة في استعارها وتوقدها غير قابلة للفساد. لذا فلا عجب أنهم يتوجهون في صلواتهم إلى النار وإلى الشمس باعتبارهما رمزاً للإله أهورامزدا.

ونظراً لأهمية النار عند الزرادشتيين سمي الإيرانيون في العهد الإسلامي بيوت النار (كعبة زرادشت) وسموا النار نفسها قبلته، ونظراً لعبادة الزرادشتيين النار سماهم الإيرانيون المسلمون عبدة النار (آتش برست وآذر برست)، ولما قهر المسلمون الفرس المجوس حطموا معابد النيران فضعفت بذلك هيبتها ولكن حين سمحت الظروف السياسية للشعوبيين أن يفخروا بماضيهم – فخر الشعراء الفرس بالنار وفضلوها على الطين – كما فعل بشار بن برد إذ فضل إبليس على آدم في قوله:




الأرض مظلمة والنار مشرقة

والنار معبودة مذ كانت النار


إبليس خير من أبيكم آدم

فتنبهوا يا معشر الفجار


إبليس من نار وآدم طينة

والأرض لا تسموا سمو النار




والفردوسي صاحب الشاهنامة (رائعة الفرس الكبرى) يعرف النار بأنها دليل الضوء الإلهي وأنها قبلة الإيرانيين كما أن الكعبة قبلة العرب، وكان الإيرانيون إذا ضاق بهم أمر ضرعوا إلى أهورامزدا في بيت النار عسى أن يكشف عنهم الضيق، وإذا تعبدوا في بيوت النار لبسوا الثياب البيضاء وأرخوا شعورهم.

وقد فرض زرادشت على أتباعه ثلاث صلوات يدورون فيها مع الشمس كيفما دارت، إحداها عند طلوع الشمس، والثانية عند انتصاف النهار، والثالثة عند غروب الشمس [1].

وقد تأثرت الحياة الاجتماعية للإيرانيين القدماء بالدين تأثراً كبيراً، وكانت السمة الدينية ظاهرة في جميع نواحي حياتهم الاجتماعية. فأعيادهم كان الباعث على اتخاذها في أغلب الأحوال دينياً فإن لم يكن الأمر كذلك كانت الطقوس الدينية هي المظهر الغالب على هذه الأعياد، ولنأخذ مثلاً عيد النيروز.

عيد النيروز:

النيروز معرب كلمة النوروز التي تعني في اللغتين الفارسية والكردية اليوم الجديد، والنوروز عند الفرس يومان: الأول نوروز العامة، والآخر نوروز الخاصة، ونوروز العامة يقع في اليوم الأول الذي يطلق عليه اسم إلههم أهورامزدا في شهر فرودين الذي يقابل 21 آذار مارس في السنة الميلادية، وفيه تأتي الشمس النقطة الأولى لبرج الحمل ويعتبر وصولها بداية فصل الربيع ويقال أيضاً أن الله تعالى خلق العالم في ذلك اليوم، كما أنه خلق آدم عليه السلام في ذلك اليوم، ولذلك سمي هذا اليوم (نوروز).

فيما ذكر بعضهم أن جمشيد أول ملك إيراني في الأساطير القديمة الذي كان اسمه أولاً جم، والعرب تطلق عليه منوشلح لما وصل أذربيجان أمر أن يقيموا له عرشاً مرصعاً على مكان مرتفع مقابل المشرق، وضع تاجه المرصع على رأسه وجلس على ذلك العرش فلما طلعت الشمس وسقط شعاعها على ذلك التاج والعرش ظهر لها شعاع في منتهى اللمعان فسر الناس وقالوا: هذا يوم جديد.

ولما كانت لفظة شعاع يطلق عليها في اللغة البهلوية (شيد) فإنهم أضافوا هذه اللفظة على جم وسموه (جمشيد) وأقاموا احتفالاً مهيباً له وجعلوه يوم عيد لهم.

وأما نوروز الخاصة فيوم كان اسمه خرداد (السلامة والعافية) وهو اليوم السادس من شهر فرودين، وقد جلس كذلك الملك جمشيد في ذلك اليوم على العرش وطلب خاصة رعيته وأعلن لهم المراسم الطيبة، وقال لهم: إن الله تعالى خلقكم فينبغي أن تغسلوا أجسامكم بالمياه الطاهرة وتسجدوا له شكراً على نعمه، وتقوموا بمثل هذه الأعمال والأوامر كل سنة في مثل هذا اليوم، ولهذا السبب سمي هذا اليوم (نوروز الخاصة)، ويقال أن الأكاسرة (ملوك الدولة الساسانية الفارسية) كانوا يقضون حاجات الناس ويطلقون سراح المسجونين، ويعفون عن المجرمين ويعيشون عيشة المرح والسرور وذلك من نوروز العامة حتى نوروز الخاصة الذي هو ستة أيام من كل عام.

وأول من أعاد هدايا عيدي النوروز والمهرجان في الإسلام هو الحجاج بن يوسف الثقفي الوالي الأموي على العراق والمشرق، وقد أبطلها الخليفة الأموي عمر ابن عبد العزيز (99 – 101 هـ) وقد أعيدت مرة ثانية رسوم النوروز والمهرجان في العصر العباسي، سيما وأن أغلب وزراء العباسيين كانوا من الفرس، لذا فلا عجب أن حاولوا إحياء مظاهر أسلافهم القدماء.

أما السنة الإيرانية فهي تبدأ من أول يوم في فصل الربيع وبه يبدأ كما ذكرنا النوروز الذي يسمى (النوروز الجلالي)، لأن تاريخه يبدأ منذ حكم السلطان السلجوقي ملكشاه بن ألب أرسلان الذي عقد في الفترة 463 – 1074 م مؤتمراً للفلكيين في مرصده الذي بناه حضرة الشاعر الرياضي الشهير عمر بن إبراهيم الخيام، وطلب من المؤتمرين إعادة إصلاح التاريخ الفارسي القديم، والموازنة بينه وبين ما توصلوا إليه في مراصدهم، وكان التاريخ الفارسي المعمول به وقتذاك هو (تاريخ يزدجرد).

وعلى هذا الأساس اعتبر الفلكيون الفرس أن أول السنة الجديدة (النيروز) هو العاشر من رمضان عام (471 هـ الموافق 15 آذار – مارس 1079 م)، وفي هذا اليوم تنتقل الشمس إلى برج الثور ولا يمكن التأكد من المصادر هل استعمل هذا التاريخ الفارسي إلى جانب التقويم الهجري، على أن أحد العلماء الأوربيين ويدعى أدلر Adler يذكر أن الشاعر الفارسي المشهور سعدي (ت 1362 م) قد امتدح في كتابه كلستانه شهر (أردي بهشت جلالي) أي الشهر الفارسي الثاني من السنة الجلالية وتعني في لغة الآفستا أفضل القوى الذي يوافق الفترة من منتصف نيسان إلى منتصف أيار، بقوله: إنه أحسن فصول السنة.

ويطلق الزرادشتيون المقيمون في (الهند – بومباي) على عيد النوروز في الوقت الحاضر (بتيتي Pateti) وهي مأخوذة من كلمة في اللغة الآفستية (Paitita) بمعنى يوم التوبة. وهو بناءً على هذا يوم يصلي فيه المرء ليغفر أهورمزدا له ما اقترف من ذنوب طيلة العام المنصرم. وفي هذا اليوم يصحو الزرادشتي مبكراً فيغتسل ويتطهر ويرتدي ملابسه الجديدة ويؤدي الصلوات ملتمساً الرحمة من أهورامزدا له ولأهله ثم يذهب إلى معبد النار ويهدي إليه خشب الصندل، وهناك يعود إلى الصلاة ليستعيد حب الإله أهورمزداد رحمته.. وإذا انتهت صلواته وزع الصدقات على الفقراء من رجال الدين والمحتاجين من الناس، ويقضي بعد ذلك بقية يومه في مرح وسرور مع أفراد أسرته، وفي هذا اليوم (النيروز) يتزاور الزرادشتيون للتهنئة بالسنة الجديدة.

وقد استمرت الاحتفالات بعيد النيروز تقام في إيران منذ العصور العباسية حيث كان التأثير الفارسي واضحاً في صبغ مظاهر الحياة الثقافية والاجتماعية وإلى التاريخ المعاصر، حيث بلغت ذروتها في أيام الشاه محمد رضا بهلوي (1941 – 1979) حيث كانت العطلة تقارب أسبوعاً كاملاً إضافة إلى أسبوعين عطلة للجامعات والمدارس بعكس عطلتي عيد الفطر والأضحى حيث خصص لكل منهما يوم واحد فقط.



وقد توقع البعض أن نجاح الثورة الشيعية التي قادها الخميني ستنعكس بصورة إيجابية على وأد هذه الممارسات والتقاليد المجوسية التي كانت سائدة في الحياة الإيرانية، وأن القيم الإسلامية سوف تسود، ولكن خاب ظنهم فالاحتفالات أصبحت تقام مثل السابق ولكن مع إعطائها صبغة إسلامية! والعطلة أضحت أربعة أيام إضافة إلى أسبوعين للجامعات والمدارس.

وهذا ما انعكس على الوضع في كردستان العراق، فبعد أن كانت عطلة النيروز يوم واحد (21 آذار) حسب الاتفاق الذي أبرمته قيادة الحركة الكردية مع الحكومة العراقية في (11 آذار 1970 م)، وصلت إلى أربعة أيام كجزء من الصراع الذي كان دائراً بين الحزب الديموقراطي الكردستاني بقيادة مسعود البرازاني والاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة جلال الطالباني.

وأخيراً تم تثبيت ثلاثة أيام كعطلة للنيروز في حكومتي إقليم كردستان في أربيل والسليمانية للأيام (21 و 22 و 23 آذار) من كل سنة بالرغم من الانتقادات التي كانت توجه على استحياء إلى حكومة إقليم كردستان من بعض الاتجاهات الإسلامية الحزبية والشعبية، إلا أن مبرر البعض كان "إذا كانت إيران تدعي الإسلام! وتحتفل بالنيروز وعطلتها أكبر من عطلتنا ونحن أصحاب اتجاه قومي علماني فلماذا لا نزيد من عطلتنا كي تضاهي عدد أيام العطلة في إيران الإسلامية!.

وختاماً :

لا يسعنا إلا أن نردد قول سيد المرسلين محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" ...



[بقلم : فرست محمود مرعي الدهوكي |عن مجلة السنة | العدد 87 | ربيع الأول 1420 هـ]