همسة من كتاب : هدية لكل متسرع في الفتوى
هذه الهمسة فيها من العجب ما فيها .. حين تصدر هذه المقولة عن عَلم – والعَلم الجبل كما هو معلوم - في قامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي – صاحب "أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن"- وهو من هو في الرسوخ في العلم .. فقد كان – كما أخبر كل من يعرفه – رحمه الله بحرا لا ساحل له .. وكان يبهر كل من يستمع إليه .. قبل الهمسة .. (ذات مرة دخل شيخنا { الراوي الشيخ ماجد حمزة عسيلان - محمود} المستشفى،وقد كان ذلك في الثمانينات الهجرية على أثر أزمة قلبية،وكان هناك طبيب يدعى"شوقي البلتاجي"،وعندما كشف عليه،بادر الشيخ بسؤاله عن القلب وما هيته،وكان الطبيب يظن نفسه أمام رجل لا يتجاوز حدود علوم الشريعة،وأراد أن يحول سؤال الشيخ إلى سؤال آخر،فسأله : ماذا تعرف أنت عن القلب؟ فبدأ الشيخ يتحدث عن القلب كوعاء للحلال والحرام،ثم انتقل إلى وظيفة القلب من الناحية الفسيولوجية،ثم عرج على الجانب النفسي للقلب. فقال الطبيب لمن حوله : أقسم بالله أنني لأول مرة أسمع عن القلب هذا العرض الواسع وهذا الفهم العميق وهذا التصور اللامحدود.){ ص 166 (شخصيات متميزة : في مجتمع المدينة المنورة في النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري) / محمد صالح حمزة عسيلان / الرياض / دار المفردات للنشر والتوزيع / الطبعة الأولى / 1433هـ = 2012م }.
أما الهمسة فهي أن الشيخ – رحم الله والديّ ورحمه – (كان إذا سئل مسألة،في آخر حياته،تباعد عن الفتوى،فإذا اضطر قال: لا أتحمل في ذمتي شيئا العلماء يقولون كذا،وكذا.
يقول الشيخ عطية محمد سالم : سألته مرة عن ذلك - أي تحفظه في الفتيا – فقال : إن الإنسان في عافية ما لم يبتلى،والسؤال ابتلاء،لأنك تقول عن الله ولا تدري أتصيب حكم الله أم لا،فما لم يكن عليه نص قاطع – من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم – وجب التحفظ فيه،ويتمثل بقول الشاعر :
إذا ما قتلت الشيء علما فقل به *** ولا تقل الشيء الذي أنت جاهله
فمن كان يهوى أن يُرى متصدرا *** ويكرهُ لا أدري أصيبت مقاتله
ألا ليت شعري ألا يتأمل المتعجلون في الفتوى لمثل هذا،ألا يرحم ناشئة طلاب العلم أنفسهم والناس من الفتاوى السريعة،والأجوبة الجاهزة،والأحكام الجريئة.
بل وأعجب من هذا كله أنه كان يردد على مسامع تلامذته : "صار أمثالنا علماء لما مات العلماء"){ص 164 (السابق)}.
يا ليت شعري .. ما يسمي أنصار المدرسة الأمريكية – في مقابل المدرسة الإنكليزية – هذا الكلام؟ أيسمونه (التقليل من شأن الذات)؟!!
رحم الله والديّ،ورحم الشيخ "الأمين"ورحم الشيخ عطية محمد سالم.

س / محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة