-
فِلسطينُ الأسيرَة
لعلّها وقفة عرفان قصيرة نقفها باستحياء في المناسبة، ما بين 17- 25 نيسان من كلّ عام.
نستذكر هؤلاء الرجال الذين دفعوا من عمرهم وزهرة شبابهم ضريبة الوفاء للوطن، وسطّروا بصمودهم، حتى وهم تحت أقسى صنوف التعذيب، علامات تركت أثرها الذي لن ينسى في تاريخ صراعنا الضاري مع الغزوة الصهيونية الاستيطانية، منهم من نال الشهادة في غياهب المعتقلات، ومنهم من حمل عاهات جسدية ونفسية، ومنهم من لا يزال تحت ربقة الأسر.
يأخذني جناح يمامة، ويحطّ بي وسط ذلك الأتون، ثلاثة أجيال تجمعهم زنازين وقيود، رجال في الستين، وكهول في الأربعين، وورود لمّا يبلغوا العشرين.
وراء أبواب قدّت من حديد، عليها جنود غلاظ، متغطرسون متمرّسون على فنون الجلد والتعذيب.
يمضون بهم واحداً إثر الآخر إلى أقبية ريحها يسلخ جلدات الرؤوس، لأن أحدهم لم يحنِ رأسه، ولم يقل لجلاّده سيدي.. هذه الكلمة الصغيرة، التي إن لُفظت، تُنج من العذاب إلى حين، لكنّها تحفر في شرايين المناضلين عبثاً يُدمي شموخهم.
هو موقف، فن جديد لنضال ومقاومة من نوع فريد، يرسمون على بياض المحارم الورقية علم فلسطين، خارطة فلسطين، قراها بساتينها حاراتها، يتوارثون المعرفة، يتعلّمون ويعلّمون، يعلنون عصياناً متواصلاً، تارة بإضراب عن الطعام، وتارة بالاعتصام في القواويش، يدخل على جوعهم بعد ثلاثين يوماً، وبعد شهور مدير السجون ورهطٌ من زبانيته، يرعبهم منظر أشباح بشريّة مسجّاة بعيون متحفّزة مملوءة بالعزم والإصرار فوق بطّانيات خشنة، يشرفون على الهلاك، وأمامهم الطعام، لم يُلمس، فلا يجد ذلك المتعالي المغرور إلا أن يحني رأسه لهؤلاء الرجال العظماء.
ثقافة جديدة، وحرب «الأمعاء الخاوية»، وعشرات من «سامر العيساوي» يطحنون غرور العدوّ.
850 ألف فلسطيني تقريباً وفق إحصاءات ما قبل 1993 دخلوا على فترات سجون ومعتقلات العدوّ الصهيوني المنتشرة على مساحة أرض فلسطين المغتصبة، «سجن الرملة، عسقلان، شطّة، جنيد.. وغيرها»، فكيف بنا لو اطّلعنا على الإحصائيات اليوم..؟
لقد بلغ عدد الأسرى في السجون (الإسرائيلية) في مطلع هذا العام، 4750 أسيراً منهم 198 طفلاً، و12 امرأة.
نستطيع أن ندرك، من سجلاّت إحصاء عدد الأسرى، حجم الرعب الذي يمثّله ذلك الرقم، ثلث الشعب الفلسطيني وأكثر رهائن الاعتقال، يخرجون ويعودون، ويرسمون أمام العالم الظالم سبيل نضال من نوع فريد.
أيّ رجال هؤلاء.؟ كلما ازدادت عذاباتهم، ازداد عنادهم وإصرارهم على التحدي.
جعلوا من السجون والمعتقلات التي أقامها العدوّ لتكون مواطن هلاك لأجسادهم، وسوطاً يدمّر إرادتهم، ومغاسل لأدمغتهم، جعلوها وقلبوها إلى مجالس علم، ومصانع للرجال.
من كان منهم أميٌّ تعلّم، تفجّرت إبداعات مبدعيهم، وتوسّعت مداركهم، واستطاعوا بأبسط حالات ردود الفعل المتمرّدة، أن يحققوا كرامة انتمائهم لوطنهم.
يقول لي أحدهم: «كنت أحسّ أن ساعات اليوم، ليله ونهاره، أقصر من طموحي للتعلّم.»
مئات الصور عاشوها بتفاصيلها تصلح لمئات القصائد والقصص والروايات، فهل نستطيع استثمار هذا الفيض من العطاء ونرسخه تأريخاً وإبداعاً وشهادات صدق وحقّ نورّثها لأبنائنا، وننشرها.؟
تمضي السنوات تباعاً، خمسة، عشرة، عشرون.. ويخرج الأسير إلى الحريّة، يعيد بإصرار أكبر وتيرة نضال ثريّة بخبرات أكثر، يستقبل حياته الجديدة.
هل سأل أحدنا نفسه، ماذا يمكن أن نقدّم كمجتمع وأفراد للأسير المحرّر من وسائل تأهيل كريمة تمكّنه من الانخراط بكرامة ويسر في صلب المجتمع الذي قدّم من أجله زهرة عمره.؟
سؤال مشروع أرفعه إلى ضمائر المعنيين من الفلسطينيين، أرجو أن يأتيني جوابه عملاً مجدياً وليس كلاماً.!
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى