دراسة نقدية حول فقه المرحلة
والاختلافات المذهبية والطائفية والفكرية في العالم الإسلامي

بسم الله الرحمان الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه وبعد :
فإن طالب العلم الشرعي هو من تجرد للبحث العلمي واتخذ التقليد والتعصب وراءه ظهريا واطمأنّ بالوحي فلم يُقَدِّمْ بين يَدَيِ القرآن والحديث النبوي ما خالفه من التراث الإسلامي العريض.
وأنظر إلى نفسي من هذه الزاوية فأتقيّد بهذا القيد وأجدني حريا بتسمية المسميات بأسمائها وبوصف الموصوف بوصفه،لتقع على الأشياء أسماؤها وأوصافها كما في الكتاب المنزل،غير آبِهٍ بما درس من تلك المعاني فأضحت مغمورةً ومنكرةً غيرَ معروفةٍ،ولعلي بهذا السلوك أفْلِتُ بفضل الله تعالى من إثم تقديم التراث على الوحي المنزل .
إن الاختلاف بين الناس عموما ـ وفيما بين المسلمين خصوصا ـ لا يعني شيئا،إذ ليست موافقةُ أو مخالفةُ أحد من الناس ـ غير النبيين والرسل ـ معيارا للحق أو الباطل.
وإن تعدد المدارس الإنسانية كالعادات والتقاليد والنظم والقوانين والديانات الوضعية لظاهرة صحية لا غبار عليها لاختلاف الأعراق والأجناس وتباعد الديار وتعدد الثقافات ومزاج الكهنة والسادات وشيوخ القبائل والسياسات.
وإن تعدد الفرق المنتسبة إلى كل كتاب سماوي مُنَزَّلٍ من عند الله لمما يدعو إلى التساؤل عن الأسباب،ويدعو الباحثين المتجردين خاصة إلى النفير خفافا وثقالا لدراسة ظاهرة تعدد الفرق والمذاهب والطوائف المنتسبين إلى الدين السماوي الواحد.
وأعجب من تعدد المذاهب والفرق والطوائف في المسلمين أو في النصارى أو اليهود دعوى كل فرقة وطائفة أنها هي الفرقة الناجية دون سائر الفرق المنتسبة إلى دينها.
وأقول:مهلا أيها الباحثون لا يُجَهِّلْ بعضكم بعضا ولا يسخر منه ولا يَغْتَبْهُ ولا يُغَيِّبْهُ بل ليفترضْ جِدِّيَتَهُ وموافقته الصواب.
وإنما يقع الهمز واللمز والتجهيل ممن امتلأ عُجْبا برأيه أو بنفسه وحسب أن مبلغه من العلم هو آخر ما يمكن أن تصل إليه البشرية،وممن حسب أن عقلَه أكبرُ من عقول البشر،فإذا به ينظر إلى أقلام غيره من الناس نظرة ازدراء واحتقار إذ يجد على أصحابها أن لم يستشيروه في هذه الفقرة أو تلك الفكرة فيحاسبهم بالسخرية منهم همْزًا ولَمْزًا إذ هو الهُمَزَةُ اللُّمَزَةُ يُعَرِّضُ بهم أن تمرّدوا عليه فلم يتقيدوا بعقله وفكره الكبير العريض ...
وتبارك الذي حَفِظَ البحثَ العلمي فلم يجعل الحكام الوطنيين باحثين ولم يجعل الباحثين الساخرين حكاما متسلطين فيعاملون مخالفيهم بقوانين فرعون ذي الأوتاد يقطّعون أيديهم وأرجلهم من خلاف ويصلّبونهم في أعمدة الكهرباء لندرة جذوع النخل في بعض البلدان.
وإنما أعدم فرعونُ ذو الأوتاد السحرةَ ومن قبل نكّل بهم بتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف وبالصلب حتى الموت صبرا على الجوع والعطش والألم والنزيف عقابا على جريرتهم العظمى أن آمنوا قبل أن يأذن لهم وأن رَأَوْا لأنفسهم رَأْيًا قبل أن يراه هو لهم وأن علموا من العلم ما لم يعلمه هو لهم،كما في قوله تعالى:
ـ ﴿قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى﴾ غافر
ـ ﴿وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمتُ لكم من إلـه غيري﴾ القصص
ـ ﴿قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم﴾ الأعراف
ـ ﴿قال آمنتم له قبل أن آذن لكم﴾ سورة طـه ، والشعراء
ويعني أنه قد حجر على سمعهم وأبصارهم وآرائهم وفرض عليهم تقليدَه وأن لا يَرَوْا رأيا إلا رأيا رآه هو لهم وأن لا يعلموا من العلم إلا ما علمه هو لهم أي لم يكتف بأن ملك وقهر وسخّر أجسامهم بل أراد أن يفعل مثله بعقولهم وآرائهم وتصوراتهم.
وسار على منهج فرعون رجال الكنيسة الذين أعدموا "كاليلي" أن آمن بدوران الأرض قبل أن يأذنوا له به.
ومن النَّصَفِ البَدْءُ بدراسة هذه الظاهرة في المسلمين لأني من المسلمين آمنت وشهدت أن لا إلـه إلا الله وأن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول الله بالقرآن كتاب الله المنزل عليه إلى الثقلين جميعا وأن الله قد ختم النبوة بمحمد بن عبد الله الهاشمي فلن يقع بعده من الغيب الذي كُلِّفْنا بالإيمان به إلا ما نبَّأه الله به في القرآن ونبَّأه به عرضا عليه وحدّث به أصحابه بحديثه النبوي المعلوم في الصحاح،ولن يقع من التكاليف والشرائع إلا ما تضمنه الكتابُ المنزلُ والهَدْيُ النبويُّ قولا وعملا وسلوكا وتقريرا.
إن دراسة وتحليل أسباب الاختلاف بين المذاهب والفرق المنتسبة إلى الإسلام لهي الخطوة الأولى الجديرة بتنافس المثقفين والمفكرين والباحثين والحكام لضمان الوحدة قبل الإصلاح.
وإن الرسول النبيّ هارون لأفقه من دعاة الإصلاح المعاصرين مهما تلبّس وتشبّع به كل منهم.
أَوْصَى الرسولُ النبَيُّ موسى أخاه الرسولَ النبيَّ هارونَ أن يخلفه في قومه وأن يُصْلِحَ ولا يتَّبعَ سبيلَ المفسدين،وكانت فتنة السامري الدجال بعجلٍ عبدته طائفةٌ منهم،وأعرض هارون بفقهه عن معاقبتهم ومقاتلهم بمن معه من الموحدين كما في صريح قوله ﴿إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي﴾ سورة طه،وحجَّ هارونُ موسى.
إن كلمة الإصلاح لتتمدد كخيطٍ رخوٍ يسع جميع الآراء والاجتهادات المتخالفة،فلو أن هارون قاتَلَ بطائفةِ التوحيد طائفةَ الشرك لكان قد برَّ موسى بإنفاذ وصيته ﴿وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين﴾،وكان الإصلاحُ في إبقائهم وحدةً غير متفرقة أكبرُ إذ أقرّه موسى وشكره لهارون.
وعلى الأمير في الميدان مراعاة النتائج والمقاصد،ولو أن هارون قاتل بمن معه عبدةَ العجل لخاطبه موسى بقوله ﴿ولم ترقب قولي﴾.
ولا نستغرب الخلاف من أسر وقبائل وأعراق وأجناس وديانات ووثنيات تأثرت بزلزال الإسلام بعد فتح مكة وبعد انهيار امبراطوريتي فارس والروم.
وليت الباحثين جميعا أو فرادى بدأوا بدراسة وتحليل أسباب الاختلاف العقدي الأول ولماذا تعددت مدارس القراءات والتفسير والفقه وأصوله،ولم يزدد بها المسلمون إلى يومنا هذا قوة ولا عزا ولا تمكينا وإنما ضعفا وذلا وتمزقا وقهقرى.
وأحسب الأمة الإسلامية قد ابتليت سريعا بعد القرن الأول الهجري بخطأين منهجيين أبعداها يومئذ عن الإجماع والاكتفاء بالكتاب المنزل والهدْيِ النبويِّ قولا وعملا وسلوكا وتقريرا.
وتفرع عن الخطأين المنهجيين بنيات طرق تاهت بسالكيها إلى حيث لا يهتدون ولا يستطيعون رجوعا،ذلكما الخطآن المنهجيان هما:
1. الاعتقادات والتصورات التي دخل بها ـ يوم دخلوا الإسلام ـ قادة بعض الديانات يوم وقعوا أسرى فأضحوا جزءا من المسلمين.
2. تدوين الآراء والمذاهب الفقهية مبكرا واعتبارها بديلا وتغني عن تدبر الكتاب المنزل والهدي النبوي.
وهكذا وقعت الكارثة التي باعدت بين المسلمين وبين الوحي فازدادوا وهنا على وهن وتغلب عليهم أواخر القرن الثاني للهجرة وتحديدا منذ عهد المأمون العباسي أعداؤها بالأمس من أمثال الإفشين والمازيار ووصيف وبغا وأضحى الملكُ العباسي بينهما ببغاءً تقلد ولا تبدع وتطيع ولا تأمر.
ولعل المنصفين من الباحثين يتبينون من الخطإ المنهجي الأول أسباب الابتلاء بالعقائد السبإية (كالرجعة والوصية والولاية) وما لحق بها من تشيع أشغل المسلمين عن الوحدة بالصراع بين أبناء العمومة وأفراد الأسرة الواحدة والمنتسبين إلى الدين الواحد.
وكانت الثمرة الأولى لتلك العقائد الوافدة المستنسخة من التراث الفارسي حروبٌ فدماءٌ بين المسلمين فتمزقٌ استعاد به الهراقلة والأكاسرة عزا وقوة ضاعت منهم فجأة في حروبهم مع الصحابة والتابعين رضي الله عنهم وأرضاهم.
وجاء الرافضة والخرمية والقرامطة والدروز والحشاشون والإسماعيلية وإخوان الصفا وسائر الفرق الباطنية بتأويلات باطنية أوّلوا بها مقاصد الشرع ونصوص الوحي جرح آخر في الخاصرة لا يزال ينزف.
وكانت في التدوين المبكر للآراء والمذاهب الفقهية داخل المدارس السنية حسنةٌ باحتضان أجيال عبر التاريخ لم تتخطّفْهم الفِرَقُ البدعية والباطنية لتهدم بهم حصون الإسلام من داخله،غير أنهالم تتمكن من إيقاف العقائد الوافدة المستنسخة والمترجمة من التراث الفارسي ومن التراث المسيحي واليهودي ومن الافلاطونية الحديثة ومن الفلسفة الهندية القديمة التي دان بها كثير من العوام وهم لا يشعرون.
وتجلى قصور المذاهب الفقهية الفرعية في التلبيس والتدليس على الناس أنها بديل متكامل عن الكتاب المنزل والهدي النبوي رغم إهمالها كليات من الغيب الذي كلّف اللهُ بني آدم بالإيمان به.
ومنذ غزو الروس للأفغان ظهر القصور في المذاهب الفقهية المذكورة وبان تناقض أصولها وتأصيلها إذ احتج بها واتكأ عليها كل من الطرفين المتصارعين فقهاء تنظيم القاعدة وأخواته وفقهاء البلاط ولواحقهم المترشحة.
هكذا احتج ويحتج كل من المتناقضين بنفس الأدلة والاستدلال والأصول الفقهية داخل المذهب الواحد،ولكأن الفريقين مدلّسان.
دلّست الحركات الجهادية المعاصرة على عوام المسلمين بما تظاهرت به من حماية بيضة الإسلام ونصرته.
ودلّس فقهاء البلاط على الحكام فصرفوهم عن الحقائق والكليات العظيمة في القرآن والهدي النبوي، وجعلوهم يسلكون سبلا تصرفهم بعيدا عن القضاء على الإرهاب والتطرف بل تزيده وتُسَرِّع تكاثرَه وانتشارَه.
وظل كل من الفريقين يعتمد نفس الأصول الفقهية والأدلة الشرعية وذات المنهج لتبرير توجهه واتجاهه المعاكس وجهده ضد الفريق الآخر.
وكثر سواد الجبهة الثانية إذ تعاطف معها تلقائيا الناقمون على الحكام والضائقون ذرعا بمعاناة الأمة كقضية فلسطين وكقضية التعذيب في السجون العربية وكقضية الفقر والبطالة.