و الإيمان بيوم الحساب ضرورياً بأدلة العقل ووفق مقتضى عالم الشهادة وليس فقط من منطلق الإيمان بأيديولوجيا غيبية. هناك مساحة نقص في عالمنا المعاش لا يملؤها سوى وجود إله ووجود يوم آخر يحاسب فيه الإنسان على كل ما قدم وأخر وإلا فهو الزيف والعبثية واللا معنى..
إن سنن الحياة تقتضي أن لكل نبأ مستقر وأن لكل شيء حقيقة فهل يعقل أن يملأ الإنسان كل فراغات حياته ويدع الفراغ الأهم وهو فراغ نفسه فيترك سدىً وتترك أعماله للعبث
ينطلق الإنسان في هذه الحياة هائماً ويملأ وقته بمختلف الأنشطة لكن حين يتأمل الإنسان أفعاله في لحظة صفاء فسيكتشف أنها هروب من نفسه وقتل لوقته.
الإنسان يخاف من مواجهة نفسه ومن الإنصات للنداء المنبعث من أعماقه لذا يقضي أكثر عمره في إلهاء نفسه بأي شيء من أجل الحيلولة دون الاتصال المباشر بحقيقة نفسه لما يستوجبه هذا الاتصال من جهاد ونهي للنفس عن الهوى
إن النفس البشرية فطرت على الحق ومن أجل الحق قامت السموات والأرض فهل يستقيم في ميزان الحق أن يقضي الإنسان حياته ثم يرحل منها وتطوى صفحته إلى الأبد دون أن يتصل بحقيقة نفسه وأن يكاشفها ويصارحها ثم ينتهي كل شيء!
إن الإنسان لا يتقبل واقع أن يكون هناك فراغ في وقته فيملؤه بأي شيء حتى لو كان لهواً المهم أن يقضي على الفراغ فكيف يقبل العقل أن تكون هناك فراغات هائلة في داخل نفس الإنسان وفي صراعه مع فطرته ثم يموت الإنسان ويظل هذا الفراغ قائماً
كل ما يفعله الإنسان في حياته هو امتداد أفقي نحو الخارج والخارج هو الأشياء التي تتكون منها الحياة الدنيا وحتى يتحقق التكامل بل وتتحقق حقيقة الإنسان فلا بد من امتداد رأسي يسبق ذلك الامتداد الأفقي امتداد نحو داخل الإنسان حتى يلامس الحقيقة الكامنة في أعماق نفسه هذه الحقيقة وحدها هي التي تحقق إنسانيته وجوهر وجوده.
ربما يكون الإنسان ناجحا في ميدان من ميادين الحياة وربما تبلغ شهرته الآفاق لكنه يشعر بفراغ نفسي هائل وهو يتخذ من هذا النجاح وسيلة للهروب من استحقاق الأسئلة المصيرية الكبرى التي تنبعث من داخله
إن هذا الإنسان يتوسع أفقياً لكنه منبت الصلة بأي عمق يصله بحقيقته الإنسانية
أي قيمة لكل نجاحات الدنيا ما دامت لم تحقق لصاحبها حقيقة نفسه ولم تصله بأعماقه
هل يقبل العقل والمنطق أن يملأ الإنسان حياته بالأشياء بينما يعاني من فراغ هائل في تحقيق حقيقته الإنسانية
إن وجود الروح هو الذي يمنح الأشياء الميتة هويتها فتدب فيها الحياة وإذا غابت هذه الروح لم تزد الأشياء على كثرتها عن كونها زيفاً وسراباً لأنها منقطعة الجذور ما لها من قرار
يفرض علينا منطق العقل أن نسبر الأغوار ونسد فراغات النقص في حياتنا حتى يتحقق التوافق والسلام الداخلي لذلك فإن القبول بانقضاء حياة أكثر الناس دون أن يحققوا حقيقتهم الوجودية هو العبث والجحيم
إن هناك حاجة ملحة لوجود إله يعلم السر وأخفى وما توسوس به الصدور ويحاسب الإنسان على مثقال ذرة فحتى الميل القلبي باتجاه الخير أو الشر وجب أن يصنع فارقاً بين إنسان وآخر ولا يوجد أي صيغة من صيغ الحياة بمقدورها أن تفاضل بين الناس مفاضلةً دقيقة حسب طيبتهم أو خبثهم لأن كل إنسان لديه ما يمكنه أن يخفيه عن كل الناس حتى عن النبي محمد ذاته فأي حكمة من المساواة بين فردين تساوت أعمالهم في الظاهر لكن أحدهما يخفي طيبةً وحباً والآخر يخفي مكرا وشرا
إن كل مظاهر الدنيا لا تزيد عن كونها تعاملا مع الظاهر فأي عقل هذا الذي يرضى بأن يتساوى الناس بغض النظر عن طيب سرائر نفوسهم أو خبثها ويظل هذا التساوي أبديا
إننا لا نلوم البشر على حكمهم بالظاهر فليس في وسعهم سوى هذا ولكن مقتضى العقل يلح علينا بأن تكون هناك قدرة أعلى من قدرة البشر وأن يكون هناك موعد غير هذه الدنيا تتسلل هذه القدرة إلى أعمق أعماق الإنسان حتى تحصي مثقال الذرة وما هو أصغر وتحاسب الإنسان عليه إن كان خيراً أم شراً وإلا فهو الزيف والسطحية والشكلية
إن وجود يوم آخر ضروري من أجل إحقاق الحق حتى يواجه الإنسان حقيقة نفسه التي طالما اجتهد في طمسها وحتى يلتفت إلى داخله بعد أن قضى عمره باتجاه الخارج وحتى تسقط كل مظاهر الزيف وتتعرى الحقائق المجردة..
هل عرفتم الآن أي حكمة ينطوي عليها حشر الناس يوم القيامة عرياً؟؟