الفريضة الدمشقية

و جاء في الحكاية أنهم إذ يشيدون مسجد بني أمية الكبير في دمشق وجدوا في بئر مهجورة في المعبد الذي احتضن المسجد صندوقا حديديا كتب عليه: هنا يرقد يوحنا المعمدان بن زكريا فأقاموا قبرا يليق بالنبي الشهيد تزوره النساء و الرجال يتوسلون به إلى الله في طقس دمشقي عريق .

لابد أن هناك تميمة دمشقية تعلق على قماط كل مولود يبصر النور في حناياها تلك العظيمة موضوعها الأساسي: و تزعم أنك جرم صغير و فيك انطوى العالم الأكبر.
و لأنها دمشق الأم سادنة الإنساني و الحضاري لكل العالم فلا بد أن ما تلقنه لأولادها مختلف جدا عن كل ما قد تنتهجه أم أخرى في الكون.
هي دمشق منذ البدء تعلمنا أننا ولدنا بتكويننا الفطري و الجيني شهودا على عصر يعتبر عبوره أمام أعين الدمشقيين منحة لذلك فهو يحتال بأن يجعل طريقه أمام من ولدوا ليكونوا مؤرخين.
تلك أرض تعلم قاطنيها أن ليس ثمة ما يضيع أو يندثر و إنما يختفي قليلا ليعود ثانية في لبوس آخر، رائحة أخرى و ربما اسم آخر.
و هي التي شهدت الانتصارات و الانكسارات .. النبوات و المدعين و الشعراء و المتشاعرين و العلماء و المتعلمين و المفكرين، صانعي الثورات و أشباه الثورات، المبدعين و من تشبه بهم، الثراء الفاحش و الفقر الفاحش، الفلاسفة و المتصوفة...
تلك دمشق فإن دخلتها من أي بوابة في أي زمن فاعلم أنك لا بد ستتعلم منها درسا جديدا.
تلك التي تحتفظ بطقوسها فلا يظنن أحدهم أنه إن نال يوما من أمنها سيقوم بإلغاء طقوسها و عاداتها المتأصلة في وعي كل من اغترف من ماء دمشق غرفة بيده أو بروحه.
و لأننا الدمشقيون اعتدنا أن نفتخر بطقوسها الخاصة، يؤلمنا جدا أن نجد من يباهي بقتلها أو يغلب على ظنه أنه قد أجهز على روحها المناضلة.
اليوم أرى كيف تغتال طقوسنا الدمشقية التي اعتدتها طوال عشرات السنوات و التي عشتها دمشقية الدماء و الانتماء و الهوى لم يتبادر إلى ذهني إلا تلك اللحظة الأليمة في تاريحنا المأساوي عندما دخل المغول و التتار أرضا كانت تسمى بلاد العرب فأدموا قلب دجلة بذبيحة الورق المقدسة .. ليس ثمة خاطر آخر يتبادر إلى ذهني فقد أريقت ذاكرتنا العريقة على مذبح الحرية المزعومة و أكاد أرى بعيني رأسي كيف يشمت بنا من تربصوا بالأمة دهورا فلم يفلحوا إلى أن فعلناها بأيدينا و عن سبق الإصرار و الترصد ظنا منا أننا نفعل خيرا كثيرا.
لعله يوحنا المعمدان في مرقده الأبدي حيث وجد تابوته الحديدي في البئر المهجورة أول مرة يتململ متسائلا عما قد جرى بأرض الشام .. و لعله يسأل أين تلك النسوة يقفن بجانب القبر يتوسلن به؟ و أين أذان الأموي الجماعي هل يصدح في مكان آخر من العالم ؟
أقول له: عليك سلام الله يا نبي الله، كنت شاهدا على عصر و نحن شهود على عصرنا، وثقت زمنك و هانحن نوثق زمننا فهل ما جرى لك في زمن ماض تقطع فيه رؤوس الأنبياء كرمى لعيون العاهرات يختلف عن زمن قطع فيه شريان سيدة المدائن قربانا باهظ الثمن للحرية المزعومة ؟