من حسن حظ
الرقمي أن د. محم تقي جون علي قد اهتم به. وهو وعدني بأن يسجل ويشارك
معنا.
ووجوده سيكون إثراء للمنتدى. وقد تكرم فأرسل لي هذا الموضوع لنشره في
المنتدى.


أنشره كما ورد آملا أن تتم مناقشته من قبل المشاركين وذكر ما
يتعلق به من مواضيع في الرقمي بطريقة منهجية: يعني اقتباس الفقرة المقصودة
بالتعليق، وذكر التعليق عليها بعدها. وإضافة رابط أي مواضيع تتعلق بها وردت في
منتدانا، فإن نجحنا في استدراج أستاذنا إلى منتدانا نكون قد كسبنا للرقمي قامة
كبيرة تثريه وتنشره وترشدنا إلى أخطائنا فيه.


****

المورد الثالث - الأوزان المتنوعة

دواعيها
يظهر عنصر (الغناء) بوصفه مساعداً وسانداً في نشوء
الأوزان العربية، فان الغناء يقوم على التكرار الذي وجده الإنسان في خفقات الريح
وصفقات الموج فأدخل في نفسه البهجة وحرك السكون حوله الذي عانى شدة وطئه فحمله ذلك
على البحث عن تكرارات مماثلة فكانت من أسباب نشوء الغناء، ولما انتشى في الغناء نقل
ذلك إلى كلامه فصار يتضمن الايقاع. وقد احتفل العرب بالغناء حتى دخل في صلب شعائرهم
الدينية كشعيرة الحج التي يمارسونها بالمكاء (الصفير) والتصدية (التصفيق)، وقد أشار
القرآن الكريم إلى ذلك بقوله تعالى (وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ
إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً)(1)، وهو حتماً وراء اختراع وصقل الأوزان الشعرية، والى
ذلك أشار بروكلمان بقوله:"الأوزان العروضية نشأت بتأثير فن غنائي وان كان
بدائياً"(2).
وتقف الموسيقى في المرتبة الأولى في الشعرية العربية، لما تضفيه
من روعة وتأثير في الكلام، وكأنها اللمسة السحرية التي تحوِّل الكلام الميت إلى
كلام حيٍّ نابض بالحياة. على أننا لا ندعي أن العرب اكتشفوا الموسيقى الشعرية،
فالملاحم ونصوص من التوراة والمسرحيات اليونانية كلها مموسقة، ثم كان القرآن الكريم
مموسقاً أيضاً. فذلك موجود في جبلة الإنسان، فإذا وُجدت الموسيقى في كلام تحركت
النفس ومالت إليه، وهذا أهم داع لوضع الأوزان. وقد أصبحت الأوزان بعد إقرارها من
الجاهليين أساسا شعريا لا ينكره جيل قادم.
والأوزان أول وأعظم أركان حد الشعر،
وأولاها به خصوصية(3)، كما يبدو من تعريفهم الشعر بـ(كلام مَوْزونٌ مُقفّى دَالٌّ
عَلَى معنىً)(4) لأنها العلامة الفارقة في الشعرية والمائز بين الشعر والنثر، فهي
يد الفن السحرية إذا لمست كلاماً صار فنا وان خلت منه خلا من الفن وصار كلاماً حسب.

وهي تسبق القافية أهمية لأنها تحدد القافية؛ فالقافية من نوع (المتكاوس) وهو
توالي أربع حركات، لا تتحقق إلا مع بحر الرجز، وإذا أردنا قافية تنتهي بوتد مجموع
وسبب خفيف (- - 5- 5) فعلينا استعمال بحر المتقارب او الوافر وهكذا.. أي إن القافية
جزء من الوزن الشعري(5)، لذا قال ابن رشيق عن الوزن " وهو مشتمل على القافية وجالب
لها ضرورة"(6).
والأوزان الشعرية ليست مجرد قوالب نغمية، بل هي مشارك في جودة
الشعر أيضاً، فرشاقة الوزن ورصانته ووضوح موسيقاه وراء القصائد العصماء المجوِّدة
والعكس صحيح. وحتماً كان للعرب أوزان أكثر مما استعملوا، وقد ثبتوا على ما استعملوه
بعد محاولات وشطب مستمرة لتحقيق غاية الجودة في تمثيل النغم، فنخلت وشذبت واسقط
منها ما اخفق في إنتاج قصيدة راقية. وحتى هذه البواقي ليست على خط إبداعي واحد فهي
تختلف في كثرة الاستعمال وتقدير قيمتها النغمية: الطويل في المرتبة الأولى، ثم
الكامل والوافر والبسيط، ثم تأتي البحور البقية تالية في الأهمية(7).
وتتأكد
عظمة الأوزان الجاهلية حين نرى أن أغلب الأوزان المبتدعة – وان كانت حالة صحية- لم
تثبت أو تحقق ما حققته الأوزان الجاهلية، كمحاولات رزين العروضي وأستاذه ابن
السميدع الذي وضع أغلب شعره على بحور خارج أوزان الجاهليين ولم يبق منها شيء، وبقي
من شعر رزين العروض قصيدة واحدة بوزن مختلف(8). وحتى البحور التي ألحقتها كتب
العروض بأوزان الجاهليين وكتب عليها شعراء العصور الإسلامية وشعراؤنا المحدثون وهي
البحور الأربعة: المتدارك والمضارع والمجتث والمقتضب، لا تمتلك شرف بحور العرب
النغمية، ولا تستطيع أن تستوعب الأغراض الشعرية التي تستوعبها أوزان العرب، فكانت
ثانوية، ولم يكتب عليها الشعراء منذ اكتشافها في العصر العباسي والى اليوم قصائد
بطول وأهمية قصائد البحور العربية.
وثمة خصيصة مهمة للوزن هو انه معيار للشعرية
ومقيِّم للشاعر؛ فإذا توافر الشاعر الحقيقي فانه سيحقق الانسجام بين مفردات المادة
الأولية للشعر فيحولها بواسطة الإيقاع إلى عمل منسجم راق يليق به اسم فن وشعر، أما
إذا جرب غير الشاعر ذلك فسيكون الإيقاع الوزني فضفاضاً على الخيال والفكرة والألفاظ
وغيرها من خامة الشعر فيسود الضجيج والصخب المدوي ولا يرى أو يسمع غيره، وهذه السمة
للوزن هي التي مخضت عصور الشعر والشعراء وأظهرتهم للعيان، وهي التي قادت غير
الشعراء أخيراً إلى محاربته والدعوة إلى التخلي عنه.
وتنوع الأوزان العربية
يساعد حتماً في المكنة الشعرية لأنه يفتح المجال واسعاً أمام الشاعر للتحليق الشعري
والتعبير عن مكنوناته المختلفة. كما يفيد في طرق موضوعات مختلفة، وقد أثبتت العصور
الشعرية وجود علاقة بين الوزن والموضوع وان كانت متذبذبة وغير مطردة دائماً. وهذا
التنوع يُفشل كل محاولات التفسير المقترحة من مستشرقين وعرب التي أرادت تفسير أولية
نشوء النغم والشعر العربي كرد الأوزان كافة إلى الرجز(9)، أو الزعم الذي يرجع
ابتكار الأوزان برمتها إلى أغاني العمل(10) وليس التمثيل الإبداعي الفني. ولا نرى
أن العرب استعملت غير الرجز في أغاني العمل، لأن موسيقاه بسيطة مطواعة غير معقدة
كموسيقى البحور الباقية.
وتختلف الآلية الإيقاعية لـ(الأوزان الجاهلية) عنها في
(البحور العروضية)؛ ففي حين تقوم هذه على النغمة الموحدة تقوم البحور على التقطيع
أو التجزيء على تفعيلات عشر وهي معايير تنوب عن الحركات والسكنات. وقد غيَّب العروض
بهذه الآلية عن الأجيال اللاحقة المنظومة الوزنية الجاهلية، لأنها نقلت منها ولم
تنقلها كلها، فصار الوزن الشعري ينتهي عند عروض الخليل.
وجنت التفعيلات
الخليلية المجزأة على الشعر العربي في عصوره المختلفة؛ فقد قرئت تفعيلياً ولم تقرأ
نغمياً تكاملياً مما قاد النقاد والشعراء إلى الخطأ المغفل؛ فقد قاس الدكتور السيد
مصطفى غازي موسيقى الموشحات على التفعيلات وليس النغم، فردها إلى بحور الخليل
قسراً(11)، مع العلم ان الكثرة الكاثرة من الموشحات ذات أوزان خاصة أو بلا وزن
مطلقاً، وخلط الدكتور فوزي سعد عيسى بحورا عدة في قراءته بيت ابن سهل:
قد سر
الحبيب أن أشقى وأنا راضٍ بما سرّه

بقوله: " هو من الرجز المشبه بالسريع
والمقتضب"(12)، لأنه قطع البيت على تفعيلات ولم يتذوق إيقاعه بالكامل. ووقع شعراء
التفعيلة في الخطأ نفسه فظنوا التفعيلة المقتطعة تمثل البحر الكامل.
وان ابتكار
العرب للأوزان الشعرية لا يمكن أن يقارن به عمل الفراهيدي وان بدا عملا فذا محكماً،
فالفراهيدي لم يبتكر بحراً واحدا من عندياته، بل هو قنن ما وضعه العرب فقط، وسمى
البحور والقافية ووضع مصطلحاتهما ونبه على الزحافات والعلل التي ابتدع بعضها لتمرير
البحور المستحدثة وجعل أشعار القدماء صالحة مع قواعده(13). وربما كان هو من بقايا
الجاهليين فهو يمتلك ذوقهم وطبعهم السليم لذا استطاع أن يستخرج صناعة من الطباع
الجيدة تستمر لمن ليست له طبيعة جيدة في الذوق؛ ليتمم بالصناعة تلك النقيصة(14).

إلا أننا نرى أن الخليل لم يستوعب أوزان الجاهليين كلها، فلهم أشعار كثيرة لم
يضبط وزنها كما أشار إلى ذلك أبو حيان التوحيدي بقوله: " سمعنا للشعراء الجاهليين
المتقدمين أوزاناً لا تقبلها طباعنا، ولا تحسن في ذوقنا، وهي عندهم مقبولة موزونة،
يستمرون عليها كما يستمرون في غيرها، كقول المرقش:
لابنة عجلان بالطفِّ رسوم

لم يتعفين والعهد قديم(15)

ويزيد في الدليل ان بحر المديد التام(16)
أصبح وزناً ديناصورياً فلم يقدر الأمويون على كتابة قصيدة طويلة متقنة عليه، عدا
عشرة أبيات او دون لا تمثل قصيدة ناضجة كقصائد الجاهليين، وقدروا على كتابته بشكله
المحذوف والمحذوف المخبون. ونرى أن الخليل أسقط عدداً من الأوزان الجاهلية لانها
استعصت على قواعده، وهذه الأوزان أو ما تبقى منها ظنها العروضيون (بأثير النظرية
الخليلية التفعيلية) أشعاراً بدائية لم تستقر موسيقياً.
وكان العرب يغنون ثلاثة
أنواع من الغناء: النصب والسناد والهزج، وهي تختلف بطءاً وسرعة في الإيقاع؛ فكلما
زادت سرعته كان أصلح للرقص والطرب. فالنَّصْب غناؤهم الاعتيادي جداً وهو شكل من
الحداء أو أرق منه، ويخلو من الترجيع والتمطيط وآلات الطرب لذا رخَّص فيه العلماء،
وهو ما يؤكده قول الأصمعي:" كلهم كان ينصب"(17) (أي يغني النَّصْب). والنوع الثاني
السناد وفيه ترجيع، ونغماته ونبراته كثيرة وهو على أشكال ثلاثة: الثقيل الأول
وخفيفه، والثقيل الثاني وخفيفه، والرمل وخفيفه. والنوع الثالث الهزج ويصحبه آلات
الطرب المعروفة عندهم وهي: الدف والمزمار، فيُرقص ويُطرب ويستخف الحليم. وكان هذا
غناء العرب حتى جاء الله بالإسلام، وفتح العراق، وجلب الغناء الرقيق من فارس
والروم، فغنوا الغناء المجزأ المؤلف بالفارسية والرومية، وغنوا جميعاً بالعيدان
والطنابير والمعازف والمزامير(18).
ولم يكن الجاهليون يعرفون قوانين (العروض)
التي وضعها الخليل باستقراء ذكي لأشعار الجاهليين، بل كانوا يزنون أشعارهم بالغناء،
قال المرزباني " كانت العرب تغني النَّصْب، وتمدّ أصواتها بالنشيد، وتزن الشعر
بالغناء"(19)، فيكون غناء النصب (الحداء) حاضنة لشعرهم، وهو معادل لمعنى الشعر؛
فقولهم: فلان يتغنى بفلان أو بفلانة، إذا صنع فيه أو فيها شعراً، وكذلك حدا به، إذا
عمل فيه شعراً(20).
ويكون النـَّصْب برفع الصوت بلا آلة او تنويع صوتي (مط
وترجيع)؛ وإنما سمي بالنـَّصْب لان الصوت ينصب فيه أي: يرتفع ويعلى(21). وقد اتحد
النصب بالنشيد فكلاهما رفع الصوت، وأخذ اسم الإنشاد من قولهم: نشدت الضالة أَي
رفَعْتُ نَشِيدي، أَي صَوْتِي بِطَلَبِها(22)، وذكر المرزباني أن العرب تمدّ
أصواتها عند النشيد(23)، وهذا يعني أن الشعراء الجاهليين كانوا يرفعون الصوت عند
الإنشاد، كما كانوا يجبرون بنغمات يستعملونها مواضع من الشعر يستوي بها الوزن(24)،
وهذه النغمات فقدتها الأجيال العروضية فاختلفت عندها طريقة الوزن والإحساس به، كما
اختلفت طريقة إلقاء الشعر؛ فقد قل الإنشاد فيه حتى تلاشى ليصبح قراءة اعتيادية أو
أعلى قليلاً.
ولا يفهم قول المرزباني السابق أنهم كانوا يزنون أشعارهم بالغناء
تأليفاًً، أي يوقّعون أشعارهم على إيقاع الأوزان من اجل الضبط فيكون ذلك بمقام ضبط
الحركات والسكنات في التفعيلات العروضية، بل كانوا يقرؤون أشعاراً موزونة بأسلوب
غنائي هو النغمات التي قال بها التوحيدي، وغناء النصب الذي ذكره المرزباني وغيره.
وهو ما وضحه ابن رشيق بقول :"إن العرب تقطع الألحان الموزونة على الأشعار
الموزونة"(25)، ويعزز ما ذهبنا اليه رواية أن رباح بن المعترف غنى النصب في سفر
وكان معه عبد الرحمن بن عوف، فقال له عبد الرحمن ما هذا؟ قال: غير ما بأس نلهو
ونقصر عنا السفر، فقال عبد الرحمن: إن كنتم لابد فاعلين فعليكم بشعر ضرار بن
الخطاب(26).
وطبيعي أن يكون الشعراء الفحول قادرين على كتابة الشعر باستيعاب
تام للوزن كحال الشعراء اليوم فهم يكتبون الشعر دون تفكير أو همٍّ بالوزن، يضاف إلى
ذلك وجود قصائد أو أبيات مدورة، وارتجال الشعراء القصائد كارتجال الحارث بن حلزة
معلقته، فذلك كله يدل على تمكنهم من الوزن تأليفاً، ويؤكد قولنا إنهم كانوا ينشدون
أو ينصِبون أو يزنون أشعارهم بالغناء إلقاءً.
وكان الشعراء الجاهليون ينشدون
أشعارهم جلوساً؛ لهذا السبب أنكر المتنبي بشدة أسلوب العباسيين الجديد الذي اقتضى
من الشعراء الوقوف وأصر أن ينشد شعره كالجاهليين جالساً عند كل ممدوحيه.

والشاعر الجاهلي أفضل وزناً من شاعر العصور العروضية لأنه مرهف الإحساس بالنغم،
مقتدر عليه طبعاً وجبلَّة؛ وهذا جعله أعلى موسيقى من الشاعر العروضي، وقادراً على
أوزان لا يقدر عليها الآخر كالمديد التام (مستفعلن فاعلن مستفعلن) وغيره من الأوزان
مما نظنه لم يصلنا، وهو ما أكده أبو حيان التوحيدي في قوله: " سمعنا للشعراء
الجاهليين المتقدمين أوزاناً لا تقبلها طباعنا، ولا تحسن في ذوقنا؛ فهم قد يستعملون
من الزحاف في الأوزان التي تستطيبها ما يكون عند المطبوعين منا مكسوراً، وهي صحيحة.
والسبب في جميع ذلك أن القوم كانوا يجبرون بنغمات يستعملونها مواضع من الشعر يستوي
بها الوزن. ولأننا نحن لا نعرف تلك النغمات إذا أنشدنا الشعر على السلامة لم يحسن
في طباعنا"(27).
وعليه يجب قراءة موضوع الزحافات وفق رؤية الجاهليين، فالأبيات
المزحَّفة موجودة بكثرة حتى عند الفحول كقول امرئ القيس:
وَتَعرِفُ فيهِ مِن
أَبيهِ شَمائِلاً
وَمن خالِهِ ومِن يَزيدَ وَمِن حُجَرْ

سَماحَةَ ذا
وَبِرَّ ذا وَوَفاءِ ذا
وَنائِلَ ذا إِذا صَحا وَإِذا
سَكِرْ(28)


وبعضها زحافات نراها منكرة كاستعمال عنترة لفظة (ينبع =
فاعلُ) في بحر الكامل، وهو يحتاج إلى تفعيلة (مستفعلن) في قوله:
يَنبعُ مِن
ذِفري غَضوبٍ جَسرَةٍ
زَيّافَةٍ مِثلَ الفَنيقِ المُكدَمِ(29)


مما
جعل الرواة يمدون الباء لتصبح (ينباع) وهي القراء المعدلة المروية(30). وفي معلقة
عبيد بن الأبرص لا يكاد يسلم بيت من هذا النوع من الزحاف وأحياناً يخرج الشاعر من
البحر. وقد غير الرواة الكثير من هذه الأشعار لتلائم قواعد العروض. ولا ندري أي
الأشعار غيَّروا فيها وأيها لم يغيَّروا؟ مما افقدنا التصور السليم في هذا الجانب.

وليس كل ما زحَّف فيه الجاهليون نرده إلى طريقتهم، فبعضه خطأ كالخروج من بحر
إلى بحر وهو اكبر من الزحاف، وسببه اعتمادهم السليقة وليس القانون الدقيق، وفي هذا
الجانب يكون العروضيون أدق وإن لم يكونوا أنبغ، ولكنهم حين ينظمون على السليقة
يخطؤون أيضاً، وقد سجلت أخطاء من هذا النوع حتى على الكبار كالمتنبي وأحمد شوقي.

وكالزحافات النقص والزيادة في مطالع القصائد التي عالجها الخليل بأن سمى النقص
(خرما) والزيادة (خزما) وأجازهما ليحافظ على قواعده، والحقيقة إن الزيادة والنقصان
جاءا طبيعيين من العربي وهما على النقص والزيادة أقوى نغماً من الحالة العروضية،
فقول الإمام علي (u)، وهو مخضرم:
اَشدُد حيازَيمكَ لِلمَوتِ
فَإِنَّ
المَوتَ لاقيكا


بزيادة (اشدد) على بحر الهزج، أقوى موسيقية في النفس من
(حيازيمك للموت) الأصح عروضاً. وقد التفت إلى هذه الميزة المبرِّد بقوله: " والشعر
إنما يصح بأن تحذف اشدد ولكن الفصحاء من العرب يزيدون ما عليه المعنى، ولا يعتدُّون
به في الوزن، ويحذفون من الوزن، علماً بأن المخاطب يعلم ما يريدونه، فهو إذا قال:
حيازيمك للموت، فقد أضمر أشدد فأظهره، ولم يعتدّ"(31).
ومثله قول امرئ
القيس:
لسعد بن الضباب إذا غدا أحب إلينا منك فا فرسٍ حَمِرْ

قال المبرد
فصحاء العرب ينشدون كثيراً (لسعد بن الضباب...) وانما الشعر:
لعمري لسعد بن
الضباب إذا غدا أحب إلينا منك فا فرسٍ حَمِرْ(32)


وظاهر أن القراءة
الأولى أدخل في النفس من الثانية بإضافة (لعمري) إلى البيت اقتضاءً للعروض. وأرى
(ألا) أضافها العلماء ليستقيم الوزن في بيت امرئ القيس:
أَلا إِلا تَكُن إِبِلٌ
فَمِعزى
كَأَنَّ قرونَ جُلَّتِها العِصِيُّ(33)


فهي قلقة وزائدة في
الذائقة الموسيقية وان كانت ضرورية لاستقامة الوزن، والصواب انه قال:
إِلا تَكُن
إِبِلٌ فَمِعزى
كَأَنَّ قُرونَ جُلَّتِها العِصِيُّ


وحتماً إجادة
الوزن ليست ممكنة لكل شخص، وان كان تقطيع كلمات حسب الحركات والسكنات على مقدار
البحر الشعري لتأليف قصيدة أو قطعة ممكناً. ولا نقصد مجرد القدرة على هذا النوع من
الكتابة، بل القدرة على ضخ موسيقى إضافية إلى موسيقى البحر الشعري، وقد سمِّي
الأعشى (صنّاجة العرب) لان بحره الشعري يحفل بموسيقى أضافية ويضج بالنغم، فقارئ
شعره يحس بأنه يغني. والأعشى لم يغيِّر أو يضف إلى تفعيلات بحوره، ولكنه كان يضيف
إليها قدرته الهائلة على تذوق النغم والتصرف به. وهكذا الشعراء المميزون في
الإبداع؛ فهم يمتلكون مكنة موسيقية مميزة، نلحظ ذلك عند الشعراء الكبار في عصور
الشعر كلها بلا استثناء، وعند مبتكري الأوزان، ومستعملي الأوزان المهملة، وهذا دليل
على أن كبار الشعراء هم كبارهم في الإحساس بالنغم، وكل الشعراء المقتدرين هم
مقتدرون على الوزن الشعري.
ويتضح من الجدال بين زهير وابنه كعب وطلبه أن يقول
شعراً بوزن وقافية الشعر الذي يقترحه، وهو يغير في الأوزان ليتأكد من مدى إتقان
ابنه كعب للأوزان، أن الشاعر لا يكون شاعرا إلا إذا أتقن مختلف الأنغام واستطاع أن
يكتب عليها شعرا جيداً. وبالتالي فالوزن الشعري كان أساسا مهماً جداً لأنه لم يتح
إلا للقلة الذين سموا لذلك شعراء بجدارة. وان الأجيال اللاحقة التي ضبطت العروض، قد
مكنت الشاعر وغير الشاعر من استيعاب الأوزان والمقدرة على الكتابة عليها بشكل
مضبوط، وبهذا استهين بالوزن ولم يقيَّم شعر الشاعر على أساس إتقانه وذهب أدراج
الرياح مقتدرون على الكتابة في البحور الشعرية غير مقتدرين على كتابة شعر حقيقي.

وعملياً أقصي وزن الرجز من الشعرية وترك بيد الناس الاعتياديين يكتبون عليه في
حاجاتهم اليومية ولم يُعترف به بحراً شعرياً. ولم يفكر الجاهليون بإصلاح بحر الرجز؛
أي النظم عليه بطريقة الشطرين كحال بحور القريض، ربما لأنه ابتذل من العامة وصار
بحراً شعبيا ووقر في أذهانهم انه للاستعمالات الآنية والارتجالات الحربية فقط.

استمرارها
التزم شعراء صدر الإسلام بالأوزان الشعرية الجاهلية التزاما
تاماً، وتبنوا الطريقة الجاهلية النغمية ذاتها في كتابة أشعارهم، وقد أكد حسان بن
ثابت التصاق الشعر بالغناء إنشاداً بقوله:
تَغَنَّ في كُلِّ شِعرٍ أَنتَ
قائِلُهُ إِنَّ الغِناءَ لِهَذا الشِعرَ مِضمارُ

قال الفراهيدي في كتابه
العين: والغناء مضمار الشعر أي به يختبر(34). وقد التزم شعراء صدر الإسلام بذلك على
الرغم من حراجته مع الحالة الإيمانية التي صار عليها العرب ولاسيما أن الله (Y) حرم
الشعر على رسوله الكريم(35)، ولو كانوا على أدنى ظن بإمكانية تخلي الشعر عن الوزن
لبحثوا عن شعر جديد بلا أوزان.
وانكب الأمويون يستعيدون تراث العرب الشعري بكل
حذافيره لذا جعلوا الأوزان من مقدساتهم الشعرية، ولكنهم سجلوا أيضاً أول اختراع
لوزن جديد واسماه الخليل (المجتث) وهذه حالة صحية، ومنه قول الوليد بن يزيد مخترعه:

أَنّي سَمِعتُ خَليلي
ورا المصلى رَنَّه

إِذا بَناتُ هِشامٍ

يَندُبنَ والِدَهُنَّه

يندبن قرماً جليلاً
قد كان يعضدهنه(36)



وعرف هذا العصر ازدهار المقطوعات الراقية الفن ولاسيما في الغزل، وذلك
استجابة لداعي الغناء الذي ازدهر في العصر الأموي، وكان الغناء السبب في شيوع
الأوزان القصيرة والمجزوءة أيضاً.
وسجل الأمويون أيضاً في مجال الأوزان تبنيهم
طريقة مختلفة عن الجاهليين لا تقوم على الترنم والغناء، بل على إيقاع الكلمات
نفسها، وهذا التحول غيَّر في الذائقة الموسيقية بالتدريج كما سار إلى تقعيد الوزن
ممهداً لظهور العروض في العصر العباسي، وقد أكد ذلك قدامة بن جعفر بقوله " ان جميع
الشعر الجيد المستشهد به إنما هو لمن كان قبل وضع الكتب في العروض والقوافي"(37).

ولما صار الشعر يقرأ بلا غناء تساوى مع الرجز الذي يقال ارتجالا بعادته، مما
دفع بعضهم إلى تطويله كالقصائد وتحميله أغراض الشعر أيضاً كالمدح والفخر والهجاء.
وقد طاولت الأرجوزة القصيدة وتحدتها كما يظهر من آراء النقاد فيما بعد، فقد قيل عن
العجاج انه كان في الرجاز كامرئ القيس في الشعراء، وقيل ليونس: من أشعر الناس؟
فقال: العجاج، قيل: لم نسأل عن الرجاز، قال: وأشعر أصحاب القصيد، إنما الشعر كله
كلام، فأجودهم كلاماً أشعرهم، ليس في شيء من شعر العجاج شيء من الكلام يستطيع قائل
أن يقول: لو كان مكانه غيره كان أجود(38).
وقد تحولت الأراجيز في العصر العباسي
وبعده من الهدف (التخزيني) إلى الهدف (التعليمي) فنظموا عليها القصص كقصيدة أبان
اللاحقي وهي تشعير لقصص كتاب كليلة ودمنة، ونظموا عليه العلوم: (الطب) كقصيدة ابن
سينا التي ضمنها نصائح تياذوق طبيب الحجاج، و(وصف الأطعمة) كقصيدة ابن الرومي في
ذكر الأطعمة والاشربة، و(النحو) كألفية ابن مالك. كما نظموا عليه المزدوجات
التاريخية كمزدوجة ابن المعتز في مديح المعتضد العباسي ومزدوجة ابن عبد ربه في
غزوات عبد الرحمن الأوسط. وهذا يعني أنهم لم يحرروه تماماً من لعنة (شذوذه
الشعري).
ولكن بدء الاعتراف بإمكانات بحر الرجز القريضية كان في العصر العباسي؛
فقد نظموا عليه قصائد ومقطوعات قريضية (مثلنا لها)، وظل صعوده الشعري مطرداً إلى
العصر الحديث إذ حفل به شعراؤه احتفالا كبيراً.
وفي العصر العباسي أضافوا
أوزاناً كثيرة توسعاً، وهو اعتراف بأهمية الوزن وإصرار عليه، غير أن الأندلسيين
خرجوا عنه في بعض موشحاتهم لان الموشحات كما يقول ابن سناء الملك:" ليس لها عروض
إلا التلحين، ولا ضرب إلا الضرب، ولا أوتاد إلا الملاوي، ولا أسباب إلا
الأوتار"(39). كما خرج عليه شعراء العصر الوسيط بابتداعهم (البند) وهو يقوم على كسر
الهندسة النغمية الثابتة للبحور ويستعمل وزناً تفعيلياً (مفاعيلن غالباًً) بتكرارات
مفتوحة، فهو موزون ولكنه على نظام يخالف النظام الجاهلي المألوف.
وتجرأ ما
عرفوا بالشعراء الرواد (السياب ونازك والبياتي) بنقل تجربة الشعر الحر (Free Verse)
الغربية الغريبة إلى شعرنا العربي. ويقوم هذا الشعر على التفاوت في طول الأسطر، وهو
غير جديد على الأدب الغربي إذ يعود إلى الاستعمال التوراتي في (مزامير داود) و(نشيد
الإنشاد)(40). كما انه استعمال ذكي للمرونة الكبيرة في قواعد الشعر القديمة(41).

وعندهم يعتمد البيت (الحر) الإيقاع الطبيعي للصوت متبعاً مفردات وتراكيب اللغة
أكثر من تكرار الوزن الشعري، وعليه فهو لا يعدُّ جديداً أو ثورة على مألوف قواعدهم
الشعرية، بينما يصطدم هذا الشكل مع قواعد الشعر العربي. وكانت تسميته (شعر
التفعلية) تأكيد الجهل بقواعد الأوزان العربية؛ ذلك أن العرب الجاهليين لم يعرفوا
التفعيلة ولا حسبوا لها حساباً، فكانت أوزانهم قوالب موسيقية تامة غير مجزأة؛ فلا
يعد من الرجز – مثلا – إيراد تفعيلتين من (مستفعلن) بعدها ست تفعيلات بعدها ثلاث،
فالأوزان الشعرية العربية إيقاعات تشكل وحدة متكاملة غير مجزأة كما قال هربرت ريد "
إن الشعر يكتسب شكله من حيث هو تسلسل إيقاعي بعيداً عن أي تفكيك إلى تفعيلات"(42).
وأرى من الصواب لو أن (الرواد) وضعوا لأوزانهم أسماء غير أسماء الخليل لكي لا
يتورطوا بتشويه الأوزان الشعرية العربية أو الجهل بالموسيقى الشعرية.
وهكذا اخطأ
المنادون بالشعر (الحر) أو (التفعيلة) حتماً فشعرهم شعر موضة، لذا لم تصمد قصائدهم
وأصبحت باهتة. واليوم نجد الشعراء (الأحرار) أو (التفعيليين) أقل مما كانوا في زمن
فورة (الشعر الحر) بعدما صار كثير منهم غير مقتنع بأن ما يكتب بهذا الأسلوب شعر،
ولم يستطع أن يكتب شعراً حراً ناجحاً شاعر بعد السياب وجيله الا قلة. وان نجاح
تجربة السياب تعود إلى جدة التجربة فلكل جديد لذة، والى إمكانات السياب نفسه وليس
إلى إمكانات وطاقات الشعر الحر الذي تذبذب على أيدي مبدعيه أيضاً لانفراجه عن ماهية
اللغة العربية وقابلياتها.
و(قصيدة النثر) أكثر بعداً عن روح الشعر(43)، ولكنها
لا تختلف كثيراً عن الشعر الحر لدى الغربيين، فالشعر الغربي يعطي الأولوية للمعنى
والقارئ يبحث عن الشعر (معنوياً) أولا وليس طبيعة الصوت والتركيب. كما أن أوزانهم
تقوم على المقطع والنبر(44) وهو الضغط أو الارتكاز على مقطع خاص في الكلمة لجعله
أوضح وابرز(45)، وهذا جعل الوزن يتغير بحسب استعمال الناس للنبر، ويتغير نطق الناس
للحروف والنبر بها في الأزمان المختلفة، وهذا أشره الجاحظ لاطلاعه الحتمي على
أشعارهم بقوله: " والعجم تمطط الألفاظ فتقبض وتبسط حتى تدخل في وزن اللحن فتضع
موزوناً على غير موزون". كما أن الحدود بين الشعر والنثر – شكلا - ليست كبيرة،
وتبعاً لذلك يحتاج القول إلى نبر قوي من اجل المعنى، لكي نتذكر أننا نقرأ شعراً
وليس نثراً(46).
أما عندنا فقصيدة النثر تجانب الحقيقة الشعرية العربية جملة
وتفصيلاً؛ فاسمها مغالطة كبيرة لأنها تجمع المتناقضين (قصيدة) و(نثر)، كما أنها
تخلت عن الأساسات الجاهلية: نظام الشطرين، الوزن، القافية، الغرض، لتشتغل على لغة
شعرية ذات شروط مختلفة. وهنا تدخل طبيعة اللغة حاسماً في الحكم، ذلك أن اللغات
الأوربية توصف بالسهلة السريعة، وقد قاموا قبل سنوات بمسابقة لتحديد أسرعها، بينما
توصف اللغة العربية بأنها لغة لفظية أو (صورية) كما يسميها الألمان، وان كتابة شعر
رائق رائع على اللغة العربية يقتضي تشغيل محركات وتمظهرات لفظية كبيرة وكثيرة لتعطي
إبداعها. وقد تنبه الجاهليون على حقيقة لغتهم فوضعوا أساساتهم للشعرية ولم يكن
وضعها اعتباطا، وهي صارمة لا توجد في الآداب الأخرى والموجود منها ليس بالصرامة
نفسها.
و(قصيدة النثر) العربية كانت محاولة إيجاد قانون وشرعية جديدة دون جدوى.
وقد تمسك بها المتشاعرون واضطر الشعراء تحت تهديد الدعاية الحداثوية أن يكتبوا على
طريقتها أيضاً، ولكنهم تركوها إلى العمود وصرح غير واحد بأنها ليست شعراً على الرغم
من انه كتبها. ويرى الدكتور عبد الله احمد الفيفي أن (قصيدة النثر) تراهن على أنها
ستستمد موسيقاها الشعرية من أسرار اللغة وإيحاءاتها ونبرها وإيقاعاتها الداخلية
الدلالية والذهنية، إلا إن نصها يبدو كترجمة قصيدة إلى العربية فلا تمتلك عبقرية
العربية ولا شخصيتها الشعرية(47). وقد وسط الدكتور رحمن غركان حالتها فلم يعدها
شعراً ولا نثراً بل إبداعاً أدبياً جديداً هو النص الثقافي الذي صدر عن الكثافة
الشعرية الحديثة(48)، وممكن قبول هذا بشرط إسقاط اسم قصيدة عنها. وقد عجزت قصيدة
النثر عن إثبات جماهيريتها أو حفظها من قبل الناس.
إن قصيدة النثر نجحت في
الغرب بسبب مساعفة لغاتهم وتقبلها وقابليتها لان الحدود بين الشعر والنثر يحدده
المعنى والنبر، أما في لغتنا العربية وهي لغة لفظية - كما قلنا - فمن العسير أن
تشعر المتلقي بأنك تقرأ بهذا النمط شعراً إلا إذا هيأته وأعلمته بأنك ستقرأ شعراً
في مهرجان أو جلسة، وفي هذا حيف كبير على الشعر بشكل عام والشعر العربي بشكل خاص.
ولعلي اقترح غناء هذا النمط ليكتسب بالإيقاع والغناء إعلاءً مظهرياً يرفعه إلى
مستوى من التقبل في الذائقة العربية، غير أن المشكلة أن قصيدة النثر لا يقدم عليها
الملحنون والمطربون لأنها لا تمتلك إيقاعاً ظاهراً يمكِّن الغناء من تجسيدها. وهنا
أشير إلى حقيقة هي إن القرآن الكريم يتقبل التجويد لأنه يحفل بالموسيقى وان كانت
موسيقاه تختلف عن موسيقى بحور الشعر، فهي غير محددة بتفعيلات وأكثر حرية واهدأ
نغماً لينسجم مع الحالة العبادية.
ومنظومة الوزن القرآنية أحدى معجزات القرآن
الكريم، وميدان تفوق له على الشعر الجاهلي ومنظومته الوزنية. ونرى أنها لم تدرس
البتة بل أشير إليها إشارات من القدماء والمحدثين؛ فالقدماء أشروا آياتٍ توافق
البحور الشعرية فقط، والمحدثون اقروا وجود منظومة موسيقية مقننة في القرآن الكريم
دون دراستها وإيضاح آليتها. وقد بقيت موضوعاً خاماً ينتظر كاشفاً ومكتشفاً، ولابد
أن يكون دارسها بارعاً في علم الأصوات وأسرار العربية، وصاحب إحساس مرهف بالموسيقى
بل متقدماً فيها، فان الخليل الفراهيدي قبل أن يؤلف (العروض) درس الألحان ووضع
كتاباً فيها.
وأرى قولهم أن قصيدة النثر تشتغل على موسيقى داخلية إنما ينطبق
على لغة القرآن وليس قصيدة النثر، فهي لم تفتقر إلى أي شكل من أشكال الموسيقى لا
خارجي ولا داخلي. ولعل المشكلة الحقيقية هي إن النص النثري لا ينهض باللغة، ولا
ينهض بتمثيل قضايانا وأمورنا المصيرية بحيث يكون فاعلاً كما هو في العصور التاريخية
والشعرية، بل يبقى (نخبوياً جداً) مراوحاً لا يرقى إلى تحريك النفس والتأثير
فيها.
وقصيدة النثر غير شرعية لأنها مزقت أهم معايير الشعرية (الوزن والقافية)
وقد اجمع علماء العرب في تعريفهم الشعر على انه (كلام موزون مقفى دال على معنى).
وتحديد الشعر بموزون مقفى ليس إغفالا للشعرية، كما تعلق الخصوم بهذه المقولة مغالطة
أو جهلاً متهمين التعريف بالتقصير والسطحية أو بإغفال الشعرية، والذهاب إلى أن
العرب لا يضعون حداً بين الشعر والنثر إلا الوزن والقافية كما في قول ادونيس:" إنّ
تحديد الشعر بالوزن تحديدٌ خارجيٌّ سطحيٌّ، قد يناقض الشعر؛ إنّه تحديدٌ للنظم لا
للشعر، فليس كلّ موزون شعر بالضرورة، وليس كلّ نثر خالياً، بالضرورة، من
الشعر"(49).
وتلك تهمة باطلة وخاطئة، ذلك أن العرب لم تعترف بما يقال على بحر
الرجز شعرا وهو يحتوي وزناً وقافية، وحتى الأراجيز التي كتبت في العصر الأموي لم
تكتسب أهمية الشعر ومنح كاتبها لقب (راجز) فقط، ولم يمنح شرف لقب (شاعر)، وفي ذلك
قول أبي العلاء المعري:
وَمَن لَم يَنَل في القولِ رُتبَةَ شاعِرٍ تَقَنَّعَ في
نَظمٍ بِرُتبَةِ راجِزِ(50)


ويؤكد ابن رشيق قلة أهمية الوزن قياساً إلى
أمور أخرى على الشاعر أن يحققها ليحصل على لقب شاعر بجدارة في قوله: " وإنما سمي
الشاعر شاعراً؛ لأنه يشعر بما لا يشعر به غيره، فإذا لم يكن عند الشاعر توليد معنى
ولا اختراعه، أو استظراف لفظ وابتداعه، أو زيادة فيما أجحف فيه غيره من المعاني، أو
نقص مما أطاله سواه من الألفاظ، أو صرف معنى إلى وجه عن وجه آخر؛ كان اسم الشاعر
عليه مجازاً لا حقيقة، ولم يكن له إلا فضل الوزن، وليس بفضل عندي مع التقصير"(51).

وهذا يسخف الحجة التي تمسك بها الجناة على الشعر العربي بأشكال ادعت الشعرية
فلم تنهض بها، ولكن حققت هدفها الأعلى وهو نسف هوية العرب الثقافية والفنية (شعرهم
المتوارث).
وإذا ناقشنا التعريف السابق بدقة وجدناه يتضمن الأساسات الخمسة الصحيحة للشعرية (الوزن + الشطرين) (القافية) (دال = اللغة الشعرية) (المعنى= الغرض)، وتلك هي حدود الشعر العربي إذ لم يحمّل العرب التعريف مستوى الشعر وتقييمه كما استغلق على نقاد ودارسي عصرنا المتأثر والمعجب بقوانين الغرب الشعرية ونقادهم، فما يكتب على هذه الأساسات الخمسة يكتسب صفة الشعر؛ فإذا سَهُل الوزن والقافية وسهل الغرض فاللغة الشعرية مرشح نهائي للشعر فلا يتقنها ويتمكن منها إلا الشاعر كما يدل على ذلك تعريف ابن خلدون للشعر ذاكراً اللغة الشعرية بقوله" الجاري على أساليب العرب المخصوصة به... وهو فصل له عما لم يجر منه على أساليب العرب المعروفة، فانه حينئذٍ لا يكون شعراً إنما هو كلام منظوم"(52)، فجعل للشعر أساليب خاصة به عند العرب تميزه عن النثر، وهذه الأساليب تشتمل عليها اللغة الشعرية الحاسمة للشعرية.
واسم (شاعر) له معنيان: معنى عام يطلق على قائل الشعر (الحائز للقبول) وهو مشتق
منه، ومعنى خاص تقييمي يمثل الحد الأدنى في الشعرية فيتدرج تصاعديا وتنازلياً؛ أي
أنهم حمَّلوا الشاعر مستوى الشعر؛ كما يدل ذلك على استعمالهم (الأشعرية) وقد وردت
عندهم عبارة فلان اشعر من فلان أو فلان أشعر العرب أو فلان أشعر البشر وهي كثيرة؛
فقد ورد التفضيل بـ(أشعر) في كتاب الأغاني وحده (242) مرة، وهذا يعني أن العرب حدوا
الشعر ولكنهم ركزوا على الشاعر في تقييمهم المستوى الفني فدرَّجوه حسب الجودة:

خنذيذ
فحل
مفلق
شاعــــــــــر
شويعر
شعرور
متشاعر(53)
وقد
فتح تعريف الشعر هذا باب النقد والتمرد على عصور الشعر العربية فضجوا وعجوا في
تعريف الشعرية والتنظير لها ولكنهم لم يقدموا شعرا يوازي ذلك الشعر المعرَّف بأنه
(موزون مقفى يدل على معنى).
وخلاصة القول فيما يخص الشعر العربي: إن الوزن فيه
كنسمة الحياة، وهو دونها طين لم ينفخ فيه الروح.

الهوامش
(1) سورة
الأنفال، الآية: 35.
(2) تاريخ الأدب العربي، مج1، ج1، ص51.
(3) العمدة،
ص120.
(4) الصاحبي في فقه اللغة ومسائلها وسنن العرب في كلامها، ص211.
(5)
العروض الرقمي، ص108.
(6) العمدة، ص120.
(7) ينظر: تاريخ الأدب العربي،
مج1،ج1، ص53.
(8) وهي القصيدة التي مطلعها:
قربوا جمالَهُمُ للرحيل غدوةً
أحبَّتك الأقربوكْ
(ينظر: معجم الأدباء، ج15،ص265- 266).
(9) بروكلمان،
مج1،ج1، ص51؛ تاريخ النقد عند العرب، ص16.
(10) ينظر: الماركسية والشعر، ص22 وما
بعدها.
(11) ينظر في أصول التوشيح، ص79.
(12) العروض العربي ومحاولات التطور
والتجديد، ص227.
(13) ينظر كتابنا: سلطة الشعر الجاهلي على الشعر العباسي، الجزء
الرابع.
(14) الهوامل والشوامل، ص85.
(15) المصدر نفسه
(16) يرى
الفراهيدي تبعاً لمنهجه أن بحر المديد التام في دائرته (فاعلاتن فاعلن فاعلاتن
فاعلن) وان الأشعار المروية عليه وكلها بإسقاط فاعلن الأخيرة تمثل مجزوء المديد.
ونحن نرى أن هذا القول من الخرافات العروضية فالعرب لم تعرف المديد الذي في دائرة
الخليل بتاتاً، لذا نعد المديد التام ما مثله واقع الأشعار الجاهلية وهو (فاعلاتن
فاعلن فاعلاتن).
(17) النهاية في غريب الحديث، ج5، ص62.
(18) العمدة،
ص560.
(19) ينظر:الموشح، ص52- 53.
(20) العمدة، ص559.
(21) تاج العروس،
ج2، ص434.
(22) ينظر: تاج العروس، ج5، ص297؛ لسان العرب، ج3، ص422.
(23)
الموشح، ص53.
(24) الهوامل والشوامل، ص85.
(25) العمدة، ص560.
(26) ينظر:
الوافي بالوفيات، ج14، ص53.
(27) الهوامل والشوامل، ص85.
(28) عيار الشعر،
ص35.
(29) شرح المعلقات السبع، ص212.
(30) المصدر نفسه.
(31) الكامل في
الأدب، ج3، ص1121 .
(32) المصدر نفسه.
(33) شرح ديوان امرئ القيس، ص282.

(34) كتاب العين، ج7، ص41.
(35) عمدة القاري، ج4، ص178.
(36) فوات
الوفيات، ج2، ص591.
(37) نقد الشعر، ص 62.
(38) ينظر: العمدة، ص77.
(39)
دار الطراز في عمل الموشحات، ص32.
(40) دليل القارئ إلى الأدب الغربي،
ص581.
(41) موسوعة المصطلح النقدي – الوزن والقافية والشعر الحر، ص103.
(42)
مدار الصفصاف- قصيدة الشعر،ص13.
(43) النقد التطبيقي، ص20.
(44) موسوعة
المصطلح، ص85.
(45) أوهاج الحداثة، دص26.
(46) موسوعة المصطلح، ص53.
(47)
ينظر: مدار الصفصاف قصيدة الشعر، ص114.
(48) النص في ضيافة الرؤيا – دراسة في
قصيدة النثر العربية، ص7.
(49) محاولة في تعريف الشعر الحديث، ص 85.
(50)
لزوم ما لا يلزم، ص324.
(51) العمدة، ص104.
(52) مقدمة ابن خلدون
ص573.
(53) العمدة، 102- 103؛ القاموس المحيط، ج2،
ص59.