الجاهة والعطوة في التراث الحوراني

حديث التراث
بقلم( محمد فتحي المقداد)*

الجاهة وهي من الجاه, ويكون أعضاؤها من الوجهاء و الناس العاديين الذين يحوزون على احترام معظم شرائح مجتمعهم, لصفات حميدة لم تتوفر في الكثير ممن سواهم, ومشهود لهم بالعقل و الحكمة والتروّي في معالجة المشاكل والصبر على لأوائها.
وهم يسعون وبشكل دائم وحثيث على حساب أنفسهم ووقتهم لتقليل الخسائر وتقريب وجهات النظر فيما بين المتخاصمين, والاتفاق على النقاط الإيجابية وتحجيم السلبيات, وذلك بالإقناع و سحر شخصيتهم, وثقة الناس بصدقهم والذي يسمى ب" المَوْنَةْ" .وبالعودة لمعين اللغة العربية, نجد أن " الجاه" هو القَدَر والمنزلة, وفلانٌ ذو جاه, وقد وجهه توجيهاً, أي جعله وجيهاً.
وتعتبر الجاهة طرف حيادي غير متحيزة لطرف, وتعمل على أرضية حل الخلافات و تجسير الهوّة بين الأطراف و الخصوم, أما ما يعبّر عن ذلك بقولهم: [ كٍدّوا الجاهة) في المفهوم الشعبي هو أن يطلب شخص من الجاهة أن تذهب للطرف الآخر لحل مشكلة معقدة استعصت على الحلول العادية, أو للوصول إلى حق يطلبه ويسعى للوصول إليه, ولغوياً تعتبر كلمة[ كد] و هي الشدة في العمل وطلب الكسب, وأما بكسر الكاف تأتي بمعنى التجمّع وهي تتوافق مع استخدامها الاصطلاحي عل ألسنة الناس وهو أن يتجمع أفراد الجاهة للقيام بالمهمة التي كلفوا بها, من إصلاح لذات البين واسترجاع الحقوق وتطييب القلوب وإزالة كل مظاهر الشر و التوتر فيما بين المتخاصمين, ونشر السلام والتواصل وإعادة الأمور إلى مجاريها.

الجاهة عند طلب العروس وإصلاح ذات البين:
بتكليف من ولي أمر الشاب بالذهاب للعائلة الفلانية لطلب قربهم ومصاهرتهم, وكما هو معلوم فإن القهوة رمز الضيافة , فإذا قدّم صاحب البيت القهوة فإن كبير الجاهة يضع فنجان القهوة أمامه ويمتنع عن شربها حتى يتلقى وعداً بتلبية طلبه من صاحب البيت, حيث يشير إليه بالشرب وطلبه سيلبى بعون الله.
و في حالات ترجع الجاهة و لا تتناول قهوتها , وهو رمز لفشلهم في مهمتهم, ويعد عدم شرب فنجان القهوة عيباً حسب الأعراف الاجتماعية التي اعتادت الاستجابة للمساعي الحميدة , ومن يتعنت برأيه يقولون له : (بدّك جاهة حتى ترضى) , كذلك يقال أيضاً: ( يعني الجاهة مو عاجبتك) وإفشال جهود الجاهة يعتبر عيباً ومنقصة في نظر الجميع, كلما كان الشخص نبيلاً وكريماً فإنه يتجاوب مع مساعي الجاهة فيم يمكن أن يتسامح به من حقه لخصومه.

الجاهة في حالات القتل ( الخطأ أو العمد):
يقولون : ( فلانٌ مِدْمي ) أي يحمل برقبته دم شخص قتله أو تسبب في قتله عن طريق الخطأ أو العمد عن سابق الإصرار والترصد أو ثاراً و انتقام في هذه الحالة تقوم عائلة الجاني باللجوء إلى طرف ثالث من غير عائلتهم أو عشيرتهم أو قبيلتهم, أولاً لطلب الحماية خوفاً من ( فورة دم) أهل القتيل ويصار إلى الانتقام منهم من شدة رد الفعل, وثانياً للتوسط فيما بين الطرفين لحل الموضوع بالطرق السلمية. ضمن الأعراف والتقاليد العشائرية المتعارف عليها المتبعة في مثل هذه الحالات على أيدي أناس متخصصين في القضاء العشائري( قضاة العشائر), فإذا سارت الأمور بشكل عادي بلا عقبات فإنهم يُكوّنوا اتفاقاً مبدئياً بقبول فكرة الصلح, إمّا بالشرف والناموس وعلى فنجان القهوة بالعفو عن القاتل, أو بطلب الديّة وفي هذه الحالة فيسمحون للطرف الآخر بالمشاركة بدفن القتيل وفي مجلس العزاء وتكون هذه القضية بحكم المنتهية, بالتسامح والعفو.
ولكن إذا سارت الأمور بغير هذا المسار فتلجا الجاهة لطلب العَطْوَة.

العَطْوَة:
وهي بمثابة الهدنة تمهيداً لاستمزاج الآراء وتقريب وجهات النظر للوصول إلى حل, و للجاهة أن تطلب العطوة من عائلة المجني عليه, وهي فرصة للحل, ومدة العطوة تبدأ من بعد الدفن وممكن أن تمتد لمدة ثلاثة أشهر, حسب الاتفاق لتذليل العقبات ولأهل المجني عليه أن يقبلوا الجاهة أو يرفضوها أو يستبدلوها بأخرى, لاعتبارات تخصهم, وخلال ذلك تقوم الجاهة بعرض رؤيتها للحل ومن ذلك عملية" العدّ" وهي بمفهوم القضاء العشائري, أن تقوم الجاهة بعملية إحصاء عائلة الجاني حتى الجد الخامس, وهذه الفئة من العائلة يقع عليها مسؤولية مباشرة عن الدم, وأفرادها يعتبرون هدفاً للثأر و الانتقام, ومن خرج من الخمسة من العائلة فهم بحلٍّ من الانتقام, كثيراً ما يطلب من الفئة الأولى بالجلاء من بيوتهم إى قرية أخرى, ويعتبر كذلك رمز الخمسة كناية عن عدد أصابع اليد الخمسة التي تمسك بمقبض السيف.
أما إذا وصل شخص من العائلة المعدودة للجد الرابع فإن ابنه يخرجه من نطاق الخمسة, ولكن الذين تقرر عليهم الجلاء ممكن أن تتعرض ممتلكاتهم وبيوتهم للتخريب والتكسير والحرق من عائلة المجني, وأمر عودتم مرهون بالصلح بين الطرفين, وعلى كل الحالات يكون فنجان القهوة هو رمز الشرف والكرامة ومن شربه بإذن المعزب يكون قد أيقن من تلبية الطلب, وإذا رفض طلبه قام من مجلسه ويترك فنجان القهوة مكانه وينصرف بمكانه وينصرف, وهنا يعتبر عدم شرب القهوة فيها إهانة للمعزب.
أما في الأمثال الشعبية, فيقولون: [ فلان مثل جدي الجاهة ] أي إذا كان ذو هيئة غير متوازنة, لأن الجاهة عندما تذهب لطلب عروس أو حل مشكلة يأخذون معهم في العادة( جدي) صغير الماعز ويكون على ماشي الحال لا يهم إن كان ضعيفاً أو سميناً. وذلك من أجل أن يصنع لهم المعازيب.
وإذا تعنّت شخص برأيه وتشبّث به, فيقولون له: [ كِدّوا عليه جاهة] وذلك من أجل تليين رأيه أو إرضائه, وأيضاً لإعطاء اهتمام لشخص ما, يقولون: [ الجاهة على قدر الوجاهة] فالحياة مقامات ولكل دولة مقام ورجال.
أرجو أن أكون من خلال هذا المقال قد يكون قد اتضح المفهوم الذي قصدت توضيحه.
----------------------- انتهى
بصرى الشام 10 \ 4\ 2012م