عنوان المقال: قراءة في إيديولوجيا العولمة
الدكتور جيلالي بوبكر
كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية
جامعة حسيبة بن بوعلي بالشلف،الجزائر.
*الهاتف: 07.79.54.80.26
*البريد الإلكتروني: boubakerdjilali @ yahoo.fr

قراءة في إيديولوجيا العولمة
* يرى الكثير من المفكرين والباحثين أن العولمة أوجدت فراغا نظريا عميقا في التصور الذي شكّله الإنسان عن هويته في جميع مستويات الحياة، ففي كتاب "صعود اللاّمعنى" يشير صاحبه الفيلسوف الفرنسي "كورنليس كوستر ياديس" "أنّ عالمنا قد غدا يعيش ظاهرة فريدة في تاريخ البشرية، هي تفتت وتفكك المرجعيات والمنابع المنتجة للدلالة".[1] فالظاهرة تعكس بعمق إشكالية المعنى في مستوى السياق الاستراتيجي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي والإيديولوجي، ارتبطت الأزمة في التصورات بالأطروحات المفاهيمية والنظرية التي عرفها البعد الفكري والثقافي والإيديولوجي العالمي الغربي الأمريكي بعد التحولات الجذرية والتغيرات البارزة التي عرفتها البنية الإستراتيجية للمجتمع الدولي بعد الحرب العالمية الأولى والثانية، وبعد توقف الحرب الباردة ونهاية عصر الاستقطاب، وبروز القطبية الأحادية على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، ونشأة التكتلات الإقليمية والدولية المرتكزة على الأسس والمصالح الاقتصادية، وبداية تشرذم الدول الوطنية وتشظي القوميات نتيجة الصراعات الطائفية العرقية والدينية والسياسية وغيرها. ولعل الأوضاع الجديدة أفرزت من الإيجابيات للقطبية الأحادية ما جعل المنظرون لها يلقون بالعديد من النماذج النظرية التي أوجدت أزمة المعنى والكثير من الإشكاليات الإستراتيجية التي لم تقدر على تقديم تصور دقيق وشامل للأوضاع الجديدة في ظل العولمة، من أهم النماذج الملقاة للتعبير عن مشاهد العالم الجديد تلك التي حملتها كتابات "فرنسيس فوكوياياما" وأطروحته نهاية التاريخ والإنسان الأخير أو خاتم البشر، و"هانتنغتون" وأطروحته صراع الحضارات، و"مينك" وأطروحته العصر الوسيط الجديد، لتعكس في استجلاء واقع المجتمع الدولي المتأزم الذي يصعب عن التحليل الدقيق ويستعصى عن الإدراك وعن السهولة في حل أزمته المركبة والمعقدة إلى أبعد الحدود، ولقد أشار المفكر الألماني المشهور "يورغن هابرماس" إلى فقدان العالم لدلالات تصنيف المجتمع الدولي الموروث عن مرحلة ما بعد الحرب في كثير من كتاباته، حيث أصبحت دول المركز وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وهي دول العالم الأول تستحوذ على العلم والتكنولوجيا وتمتلك المال والسلطان والقوة العسكرية وتدير مصالحها في مختلف أنحاء العالم بقوانين النظام الدولي وباسم الشرعية الدولية، وما عدا دول المركز فاتجه نحو مناهج ونظم ذات طابع عسكري تغيب فيها الديمقراطية ويغيب فيها التسيير الاقتصادي الناجع والفعّال، أما العالم الفقير الضعيف فيعاني اجتماع الاستبداد السياسي مع الفقر والتطرف الديني والعرقي الذي يهدده بالتفكك والانهيار.
* في جو العولمة الذي أعاد الإنسانية إلى العصور الغابرة المظلمة المليئة بقهر الإنسان للإنسان، وبسبب ذلك وجدت الديانات والشرائع والنظم لإيقاف ذلك القهر الذي ليس له نهاية إن لم يردعه رادع أو يلجمه لجام، جاءت أطروحات العولمة المنبثقة من الإيديولوجية الغربية تدافع عن أدبيات النظام العالمي الذي هو سبيل إلى السلم العالمي والازدهار الحضاري الإنساني، هو ما دعا إليه وحلم به الكثير من المفكرين أمثال الفيلسوف الألماني "إيمانويل كانط"، فأزمة المرجعية الفكرية والنظرية لإستراتيجية العولمة والنظام العالمي تعود في الأصل إلى مخلّفات هذه الإستراتيجية ذاتها، وإلى بعدها عن المعقولية والواقعية والموضوعية في رؤية الواقع وفي تحليله، وما انجر عن ذلك من ضياع الشعوب في خضم إيديولوجيا وإستراتيجية لا تعترف إلاّ بالأقوياء ولا مكان عندها للضعفاء، فاضطربت التوجّهات لديها واختلطت عليها الأمور ولم تتضح عندها النظرة والمنهج والمقاصد، وتولّد عن ذلك عجز كبير لدى الدول وأنظمتها عن إعادة صياغة وبناء الإيديولوجيا والإستراتيجية في سياق الوضع الجديد، وضع العولمة وإيديولوجيتها وإستراتيجيتها الأمريكية والغربية، وفي إطار الانقسام العالمي بين مؤيد للعولمة ومعارض لها، وفي جو الآثار والتداعيات المترتبة عن مسار العولمة الذي يتطلب ضرورة إعادة النظر في الواقع المعايش المحلي والدولي وضرورة إعادة تشكيل الذات وتحديد السمات، فصارت القومية والوطنية العامل الرئيسي والقيمة الأساسية الوحيدة التي تواجه العولمة وتحدياتها بأساليب عدة، منها سبيل العنف الفكري والسياسي والديني والعمل العسكري مثل مقاومة الاحتلال في مختلف أنحاء العالم وعمل "القاعدة"، وتحركت القوى العظمى في اتجاه تمزيق وتشتيت الدولة القومية والوطنية إلى قوميات فتات وإلى طوائف لأجل المحافظة على تحركها في العالم أجمع وفرض هيمنتها بمبررات عديدة واهية ومفضوحة، لكن مادامت مسلحة بقوة المال والاقتصاد والسلاح فلا أحد يقف في وجهها، بهذا تحول عالم الأطراف من دون المركز إلى عالم من غير إيديولوجيا في غياب محددات الحياة وموجهاتها القبلية إلاّ إيديولوجيا العولمة، ومن غير قومية ووطنية في غياب الحس القومي والروح الوطنية والشعور بالانتماء، وفي انتشار التفكك الإقليمي والتمزق الوطني وفي غياب الحدود في العالم من غير محددات أو موجهات إلاّ من محددات وموجهات العولمة، الأمر الذي أدخل الإنسانية في مجال مفتوح من كل الجهات على العولمة أو الأمركة التي جعلت الكون فعلا مفتوحا ومن دون أفق أو حدود، فأصبح من العسير اكتشاف الصلة بين المعنى والإستراتيجية وإيديولوجيا توجُّه العولمة، الصلة بين إستراتيجية وإيديولوجية المركز ودلالة العولمة التي انفصمت تماما وانكشف زيف أطروحات نهاية التاريخ وصراع الحضارات والعصور الوسطى الجديدة، ولم تعد قادرة على تبرير التحولات والتحديات الجديدة ولا على تقديم تحليل دقيق وشامل لأوضاع العولمة المعاصرة خالي من الذاتية والانحياز ومن السقوط في إيديولوجية المركز ومن مباركة الهيمنة الأمريكية الغربية.
* طرح الكثير من المفكرين التساؤل التالي:هل العولمة تعني حقا وفعلا الإنسان في مرحلته الأخيرة، وتدل على نهاية السياسة وتعني نهاية التاريخ؟، كما يحلو للبعض تقديم العولمة والأمركة، "ينطلق "دوبريه" من ملاحظة أننا عرفنا في السنوات الأخيرة انهيار ثلاثة عوالم ظلت هي ركائز النمط الحضاري الغربي، وهي: الكتاب والعقل (التحليل الموضوعي) والمستقبل (مقولة التقدم وغائية التاريخ الإيجابية). وتحليل هذه الركائز إلى ثلاثة أحداث حاسمة صاغت الفضاء الحديث هي: اكتشاف المطبعة (1448) وقيام الثورتين الفرنسية (1789) والروسية (1917). ففي حين تم تعويض الكتاب بالصورة، واستُبدل رجال الفكر بالشخصيات السينمائية ومنتجي الواقع المصنوع والمتخيل، وبالتالي تقلص دور ونفوذ المثقف، انحصرت دائرة الفاعلية والاكتشاف في المجال التقني والصناعي، ولم يعد ينظر للمشروعات المجتمعية سوى أنها تشكيلات نظرية حالمة تثير الاستهزاء والمقت."[2] فالفضاء الدلالي والتصوري للعديد من المفاهيم والمقولات التي تأسست عليها الحضارات القديمة والحضارة الغربية الحديثة والمعاصرة عرف تغيّرات جذرية وعميقة مثل مفاهيم التقدم والنهضة والمستقبل ومشروع المجتمع وغيره، وارتبط ذلك بروح الثورة الفرنسية، الروح الذي تغذّى بفلسفة "جون جاك روسو" السياسية ونظرية العقد الاجتماعي التي انتزعت السلطة من بين أيدي الكنيسة ووضعتها بين أيدي الشعب الذي تلقفها ووضعها بين أيدي المركز الأمريكي بمشاركة الغرب الأوربي في جوّ العولمة والحضارة الحديثة، وكان لعصر الاستقطاب دوره في تقوية التوجه الليبرالي مثلما الحال في عصر القطبية الأحادية بعد انهيار المنظومة الإيديولوجية والاقتصادية الاشتراكية، وبعد الحرب الباردة والإعلان عن ظهور الإنسان الأخير وخاتم البشر ونهاية السياسة ونهاية التاريخ وانحسار الإيديولوجيات، فالاشتراكية قبل القطبية الأحادية دفعت الليبرالية إلى التوسع من خلال تسوية الظروف الاقتصادية والاجتماعية للعمال، والإعراض عن الميل الكلي إلى حياة البذخ والترف والرفاهة، فازداد نفوذها الاقتصادي والمالي والاجتماعي، وتقلص نفوذ الاشتراكية وسلطان الماركسية بسبب عيوب المجتمع الاشتراكي، حيث غاب فيه الإنتاج وتوسع الاستهلاك، وانتشر فيه الفساد الاقتصادي والاجتماعي، وعرف كل المشاكل والأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي أدت إلى انهياره، وكان انهياره انتصارا لليبرالية وتفوقا للرأسمالية وسببا في ظهور القطبية الأحادية ونهاية عصر الاستقطاب وظهور العولمة وإيديولوجيا جديدة وأطروحات جديدة وإستراتيجية جديدة، وانقسم المجتمع الدولي إلى مركز وأطراف، استقطاب من نوع جديد، قطب الأقوياء في المركز وقطب الضعفاء المحرومين الفقراء في الأطراف، المركز مهيمن مخترق ومدُّه الإيديولوجي ينتشر أما الأطراف فتذوب وتنصهر ثقافيا وسياسيا واقتصاديا وحتى عسكريا في المركز، تعمّقت الأزمة بين المركز والأطراف ثقافيا واقتصاديا وسياسيا، حتى لدى بعض الأنظمة التي باركت النظام العالمي في ظل العولمة واستجدت رضا القوى العظمى المهيمنة، تعمّقت الأزمة بين ثقافة تنتشر وأخرى تنصهر وتنصهر معها الخصوصية والهوية، وبين اقتصاد السوق لا يميز بين المتنافسين واقتصاد غير منتج وتابع للقطاع العام تُسيّره الدولة وتدعم فيه القدرة الشرائية، وبين ديمقراطية تعددية تقوم على الاختيار الحر التمثيلي والاقتراع المباشر ونهج سياسي السلطة فيه أحادية والحكم فيه مطلق من كل قيد أو شرط.
* إن السلطة في أطروحة نهاية التاريخ في الغرب الأوربي والأمريكي الحديث والمعاصر منهجها الديمقراطية السياسية والتعددية الحزبية والتداول على الحكم، من خلال المنافسة السياسية بالبرامج والمشاريع الاقتصادية والاجتماعية، وليس هناك نظام يتناسب مع الإنسان والمجتمع والعصر والتاريخ غير الديمقراطية وإنسانها هو الإنسان الأخير، فهي أُنموذج الحكم الراهن والسلطة المعاصرة، وعندها انتهى التاريخ وتوقف، لكن الواقع الحالي ينبئ بوجود أزمة في الحياة السياسية الغربية "تتجلى في انهيار التشكيلات الحزبية في مختلف الأقطار الأوربية وفي الولايات المتحدة الأمريكية، والإقبال الضعيف عل المشاركة في المنافسات الانتخابية، والانفصام المتزايد في القيادات السياسية والاتجاهات المجتمعية، وبروز قيم واهتمامات ثقافية وإيديولوجية جديدة غريبة على الحقل السياسي التقليدي الذي تحركه نوازع الصراع من أجل السيطرة على الملكية ووسائل إنتاجها. إنّ مختلف هذه المناحي تبرز وجود أزمة بنيوية عميقة في مستوى الخطاب السياسي ذاته، تحيل إلى أكثر من تبعات نهاية الصراع الإيديولوجي السابق، بل لإلى نمط الانتظام المجتمعي ذاته، من حيث شرعيته المعيارية، ونمط معقوليته التي تشد شعبا ما إلى ممثله الرمزي. إنّ هذه الإشكالية تنعكس بوضوح في نمط إدراك السياسة، ودوافع الالتزام بالقضايا والرهانات المجتمعية، في فترة يركز الخطاب الإيديولوجي للعولمة على القيم النفعية الإجرائية، وتكريس الفصل بين السياسة والأخلاق"[3]. لم تعد العقائد الدينية أو القيم الأخلاقية وراء استراتيجيات العولمة السياسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية والعسكرية وغيرها في العالم المعاصر، فلا السلطة الدينية النصية ولا مكارم الأخلاق المقبولة عقلا ووضعا وعلما صارت تؤسس للعولمة، لكن من جانب الدين في توجه العولمة العلماني اللاّديني نجد الجذور والأصول والأبعاد للعقائد اليهودية وللصهيونية العالمية بصفة خاصة وكذلك للنصرانية، إلاّ الإسلام تقف منه القوى العظمى المهيمنة موقف استعلاء واستكبار وعداء شديد، وتربطه بالإرهاب وسائر المنظمات الإرهابية، وتمارس ضد المسلمين كل أشكال الاعتداء والظلم والاستغلال، الأمر الذي ولّد مشاعر الكراهية التي انبثق منها العنف المضاد، فتحول إلى حرب ضدها تعددت فيها الوسائل وتنوعت السبل، بالفكرة وبالكلمة وبالاعتزال وبالصورة وبالسلاح وبغيره.
* فالمرجعية الدينية والأخلاقية التي استمدت منها الأنظمة السياسية الكلاسيكية شرعيتها، عوضتها الإيديولوجية الغربية الحديثة منذ عصور الإصلاح الديني والسياسي والتربوي والاجتماعي، ومنذ عهد التنوير الفكري والعلمي والثقافي، ومنذ انطلاق عصر التطور التكنولوجي، فانقلبت الديمقراطية على سلطة الكنيسة وتعززت مبادئ العلمانية التي تقوم على قيم الذاتية وحرية الإرادة الفردية الشخصية، وعلى غائية التقدم والازدهار الحضاري البشري، وبعد التحول السياسي من الاعتماد على الدين إلى الاعتماد على الإيديولوجيا في أمريكا وأوربا المعاصرة والبلدان التي نحت المنحى ذاته برزت إشكاليات سياسية واجتماعية عديدة، منها علاقة الحاكم بالمجمع السياسي والمدني، بين علاقة الشعب بالسلطة المطلقة أم هي علاقة الشعب بسلطة مختارة تجسد الإرادة الجماعية وتحمي مصالح جميع الأفراد؟، أي أن الدولة وظيفتها تتحقق بالارتكاز على مبادئ الليبرالية من حرية فردية وتعددية وغيرها، أو بالارتكاز على قيّم الاشتراكية من مساواة وعدالة اجتماعية ومحاربة الاستغلال وغيرها، وبقي الصراع قائما في ظل العولمة بين قوة الواقع وقوة المطلب، الواقع فيه المركز والمال والاقتصاد والعلم والتكنولوجيا والمطلب فيه الأطراف والفقر والتخلف والرغبة في النهوض والحاجة إلى التنمية، والصراع بين قوة الواقع وقوة المطلب لم تكن على مستوى العلاقة بين المركز والأطراف فحسب، بل جاءت كذلك على مستوى العلاقة بين عناصر ومكونات التركيبة البشرية والاجتماعية لشعوب الدول الكبرى المهيمنة، ففي غمرة التحولات الكبرى السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية وغيرها، خاصة بعد التلاشي الإيديولوجي في الدول القومية والتلاشي العالمي الإيديولوجي الماركسي الذي شكّل أهم نظام إيديولوجي استطاع أن يعبئ القوى ويحشد الجماهير ويظهر أكثر تماسكا وقادرا على خوض معارك الاستقطاب في الحرب الباردة، في هذا الجو سادت المنظومة الإيديولوجية الأحادية، وساد معها تراجع للقيّم والمقاييس الخلقية والعلمية في الفعل السياسي والممارسة الاقتصادية والأنشطة الثقافية وفي الثقافة الإعلامية وفي جانب التسلح والتدخل العسكري، ومن الأمثلة التي تعكس هذا الجو العزوف عن المشاركة في المسارات الانتخابية وفي رهاناتها، لغياب الحرية والعدل والإنصاف من جهة، ووجود اتجاهات ما بعد الحداثة كتوجه العدمية السلبية وتوجه العبثية اليائسة وغيرها من جهة ثانية، ونفوذ النظرية البراغماتية في الحياة السياسية وغيرها التي تبني الأعمال على التوجه الأداتي الواقعي الذي يستهدف النجاعة والفعّالية الآنية من جهة أخرى.
* إنّ الأثر الإيديولوجي والإستراتيجي للعولمة على بلدان العالم وشعوبه جاءت درجته مختلفة من جهة إلى أخرى، تتحكم فيها عدة عناصر وتختلف الساحات باختلاف المتغيرات، ففي المجتمعات الغربية اختلت الروابط بين ما هو سياسي وما هو اقتصادي واجتماعي وما هو تكنولوجي، وأصبح الرائج هو المنطق النفعي الواقعي الذي انتهى إلى العبثية والعدمية وغيرها من التوجهات في البلدان العظمى، وانتهى في العالم الثالث والعالم العربي والإسلامي إلى سقوط المشاريع الوطنية والقومية خاصة بعد انهيار المشروع القومي الاشتراكي والشيوعي وتحقق المشروع القومي الليبرالي الذي أشرفت وتشرف عليه العولمة، المشروع القومي الليبرالي الذي يقوم على عقلانية وإيديولوجية تتضمن قيّما جديدة تشكلت وانتشرت عبر العالم، منها الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق المرأة والمحافظة على البيئة ونشر التكنولوجيا وتحقيق التنمية وغيرها، هذه القيّم جاءت لتعوض قيّم الإيديولوجيات السابقة، لكنها تشير إلى وضع متأزم نتج بسبب الخروج عن سياق الإيديولوجيات ذات الأبعاد الخلقية والمعايير الطبيعية الإنسانية والقيّم الموضوعية العلمية التي حوّلت أوربا من عصور الانحطاط إلى عصر التنوير والازدهار الحضاري الحديث والمعاصر، ولما جاءت إيديولوجية وإستراتيجية العولمة في العالم علمانية لكنها ذات أصول عقائدية نصرانية ويهودية صهيونية مما يؤكد تناقضاتها الصريحة، فإن ذلك أفقدها الشرعية المعقولية والشرعية الأخلاقية، والحياد العلمي، لأنها لا تستند إلى العقل ولا تقوم على منطق الفضيلة، وفي غياب المعقولية والفضيلة يظل المعطى الإيديولوجي والاستراتيجي مشبوها.
* تقوم إيديولوجية العولمة على قيّم الثقافة الغربية الحديثة والمعاصرة المتطورة باستمرار، "وتعتبر المادية الجديدة هي عنصر الاعتقاد الحقيقي في الثقافة العلمانية الغربية الحديثة، أما الدين والمعتقدات المسيحية فقد تخلّى عنها الفلاسفة والمفكرون والمثقفون وكثير من المجتمعات الغربية في أوربا وأمريكا، وكان للظروف التي عرفتها أوربا الغربية قبيل وخلال وبعد نهضتها الحديثة الأثر في نشأة وتكوين الفكر العلماني الحديث والمعاصر في الثقافة الغربية والأمريكية، ومنه تمّ فصل السلطة الدينية اللاهوتية عن السلطة الزمنية، وتحررت الدولة حكومة وشعبا من سلطة الكهنوت والكنيسة، وتأسست الثقافة في المجتمع على العقلانية والتنوير والعلم والحرية والحداثة والتحديث، وساير هذا التوجه الفكري والنظري والثقافي توجه عملي ميّزه التطور التكنولوجي في وسائل وأساليب التأثير في الطبيعة وتسخيرها لخدمة مصالح الإنسان، وكان كل هذا قد تمّ بعد الإصلاح الديني والسياسي والتربوي، وتمثل في التقدم العلمي والتقني وفي الانفجار الصناعي الذي غيّر مجرى حياة الإنسانية ومسارها، وحصل بعد الانقلاب على الثقافة اللاهوتية والتمسك بالتوجه العلماني والاعتقاد المادي، وانتهى إلى تمكين الأفراد من الحرية الكاملة في المعتقد والتديّن وحياد الدولة كليا في ذلك لأنها دولة علمانية لا دينية، إبعاد سلطة الكنيسة واللاهوت عن التدخل في شؤون الدولة السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها، تجريد الكنيسة ورجال الدين من أي نفوذ على المجتمع وعلى أفراده، التوجه المادي العلماني للثقافة الغربية والأمريكية والذي اتخذ منه الغرب وأمريكا التوجه العالمي أو العولمة، كانت له إفرازات أثّرت سلبا على حياة الإنسان في جميع جوانبها، وفي جميع أنحاء العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية وبلدان الغرب الأوربي، وكان ذلك التأثير بدرجات متفاوتة، اتجهت الثقافة الأوربية والأمريكية نحو العناية بتفعيل وترقية النظريات العلمية ذات الطابع المادي البحت مثل نظرية النشوء والارتقاء الداروينية في البيولوجيا، ونظرية المادة والسلوك في علم النفس عند "ريبوتيودول"، ونظرية "إميل دوركايم" في علم الاجتماع، ونظرية التحليل النفسي لدى "سيجموند فرويد" وغيرها كثير، وأخذت تشجع أيّة نظرية علمية مادية، أو أي نظرية تشجع التوجه المادي في العلوم والثقافة والفكر وفي الحياة عامة، على الرغم من مبالغة كبيرة ومعلن عنها في ذلك، وعلى الرغم من تعرض تلك النظريات المادية للتمحيص والنقد وتمّ اكتشاف أخطائها، "إنّ الإنتاج الثقافي العلماني الأوربي والأمريكي – نتيجة لعدم تقيده بمفاهيم ثقافية دينية وانطلاقه من مفاهيم مادية- أضفى عليه طابعا انحلاليا يهاجم المعتقدات الدينية والأخلاق الدينية والمفاهيم الدينية، وكأن بينه وبينها عداء، وكان المتوقع للنظرة المادية – التي تتقيد بها الثقافة العلمانية الغربية – أن تقف موقفا محايدا بالنسبة للأديان وذلك الموقف المعادي للأديان لا تجده في الثقافات الأخرى مع أن كثيرا منها ينطلق من اعتقادات دينية غير سماوية مثل الثقافة الهندية والثقافة الصينية اليابانية".[4]
* ينصب العداء الثقافي العلماني المادي في الولايات المتحدة الأمريكية والغرب الأوربي لكل من يعارض النزعة المادية العلمانية، أفراد وجماعات، تيارات وفلسفات وديانات، وإذا كان الإسلام عقيدة وشريعة يكشف عن الزيف والظلال الذي تنطوي عليه النزعة المادية وعلى ما فيها من قصور، وما يترتب عن الإيمان والعمل بها من اختلال وفساد في الحياة الروحية والمادية معا، ليس من الغريب "أنّ عداء الثقافة العلمانية الغربية الحديثة المادية ينصب أساسا على الثقافة الإسلامية، بل إنّ القادة السياسيين وقادة الثقافة والفلسفة والفكر يصوبون سهامهم نحو الثقافة الإسلامية ويتخذون منها العدو الرئيسي لثقافتهم العلمانية المادية، وكثير من أراء بعض هؤلاء القادة مثل الرئيس "نيكسون" و"فوكوياما" و"هتنجتون" وغيرهم، وصراع الحضارات وحوار الحضارات تتجلى فيها هذه الأفكار المعادية للفكر الإسلامي. أما العلمانيون في البلاد العربية والإسلامية فإنهم يقلدون الأدباء والفنانين الغربيين دون الوعي باختلاف المفاهيم الثقافية مما جعل إنتاجهم الثقافي يحمل مفاهيم علمانية مع أنه قد يكون مكتوبا باللغة العربية. وعموما فإن الثقافة العلمانية الغربية الحديثة – في جوهرها- تهدف إلى القضاء على كل الثقافات وخاصة الثقافة الإسلامية والثقافة الصينية".[5] لكن الغريب ليس في العداء القائم بين العلمانية والإسلام، ولا في التعارض بين الإسلام والمادية، والمادية والعلمانية من مقومات ثقافة العولمة وإيديولوجيتها واستراتيجياتها، إنما الغريب في التناقض الحال في الثقافة الغربية برمتها، من حيث هي ثقافة علمانية في الظاهر والعلن معادية للعقائد والأديان، لكنها تقوم في السر والخفاء على أصول دينية نصرانية ويهودية، والأكثر من ذلك كله تقوم على معتقدات الحركة الصهيونية العالمية التي تجانب الحقيقة وتخدم مصالح خاصة ضيقة، وتشكل خطرا ليس فقط على الفلسفات والثقافات والديانات الأخرى، بل على الثقافة الغربية ذاتها، فأيّ فكر يقف في طريق أطماع الصهيونية العالمية ولو التزم بأقصى درجة الموضوعية والحياد، فهو معاد للسامية يجب التخلص منه بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة، هذه النزعة العنصرية بكل ما تحمله من عداء للأديان والثقافات والشعوب هي التي توجه السياسة العالمية، وهي التي تتحكم في مراكز القرار في العالم، وهي التي تضرب بقوة وبيد من حديد في مناطق النزاع الحيوية وتدير الصراعات والنزاعات في العالم الأهلية والإقليمية والدولية الأممية، وهي التي تتصرف في المال والأعمال والاقتصاد والعسكر، وهي التي توجه الإعلام وتنشر الانحلال والرذيلة، فالعولمة في إيديولوجيتها أمريكية صهيونية، والأمركة المتصهينة هي وراء كل المشاكل التي تعاني منها شعوب العالم، بفعل العولمة ظهر الصراع العربي الإسرائيلي الصهيوني ولم تعد مطروحة المسألة اليهودية وظهرت المسألة الفلسطينية وهي عيّنة من المعضلات التي أنجبتها العولمة الغربية وساهمت في تفاقمها الأمركة المتصهينة، وأنجبت معضلات كثيرة، فقر وتخلف وحروب ونزاعات وعدوان، حتى الأرض والطبيعة والجغرافيا لم تسلم من أضرار العولمة ومخاطر النظام العالمي.
* يرى بعض الباحثين أنّ الطابع المادي للحضارة الغربية نابع من كونها حضارة قامت على الصناعة بالدرجة الأولى، الصناعة التي تفجرت بفعل التقدم العلمي والتكنولوجي، فازدهر الاقتصاد في الإنتاج من حيث الكم والكيف وازدهرت معه التجارة والاستثمار بفضل تجمع رؤوس الأموال في الطبقة الرأسمالية، وتميّزت حضارة عصر الصناعة عن غيرها من الحضارات التي سبقتها ولم تقم على الصناعة، "بأمور كثيرة مهمة. إنها ما كان لها أن تبدأ لو لم يسبقها التحول إلى عصر الكتابة وتقدم التعليم النظري والعلمي مع التخصصات الفنية والأكاديمية، ونشوء كيانات للبحث العلمي وتضحيات تاريخية من العلماء الباحثين..هذا على عكس حضارتي الزراعة أو الرعي، إذ يمكن أن تستمرا مع توافر مستوى تعليمي محدود، يمثل فيها الكتبة ورجال الدين صفوة المجتمع".[6] فالثورة الإنتاجية المطردة التي تُميز حضارة الصناعة عن حضارة الرعي أو حضارة الصيد أو حضارة الزراعة، وهي حضارات ذات طابع نمطي، أما الحضارة الصناعية فهي حضارة التنوع والتعدد، فالنمطية تكرس الثبات والاستقرار أما التنوع فيوجد الإبداع والتجديد، فالغنى الفكري والثقافي والاقتصادي والاجتماعي مرهون بمدى ودرجة تدخل الإنسان فيما يقوم به من أفعال في حياته الاجتماعية، وفيما يسجله من تدخلات مؤثرة على الطبيعة، والحضارة الصناعية هي الوحيدة التي سجلت أكبر تدخل للإنسان أثّر في الطبيعة، و"تميزت بثراء فكري اجتماعي، وفهم لظواهر الطبيعة والإنسان والمجتمع، وأفادت الكتابة في تسجيل وإثبات حصاد فهم وفكر الإنسان المجتمع، كما أفادت في إثبات ذلك موضوعيا ليكون موضوع الحصاد المعرفي وجعله موضوع حوار وثقافة علمية عامة. وازداد هذا الحصاد نقاء وموضوعية وصياغة نظرية وكشفا عن قوانين الظواهر من خلال الدراسات الأكاديمية..وتطورت الجامعات، وتعددت التخصصات، وأصبح للعلم وللعلماء دور ومكانة عظيمان".[7] والعمل في الحضارة الصناعية يتنافى مع النمطية، فهو يتغير ويتجدد باستمرار بفعل الإبداع الذي تسمح به فرص الحرية وفرص التعليم وفرص العمل وغيرها، "إنّ الصناعة التي هي التجلي المادي للعلم والتكنولوجيا، شأنها شأن رأس المال تنزع بتلقائية وبقوة الدفع الذاتي إلى التراكم والتطور المطرد المتسارع بفضل تراكم الجديد من المبتكرات العلمية والتقنية. وهكذا يشهد عصر الصناعة تطورا سريعا متلاحقا، وتحولا ثوريا من إنتاج علمي إلى آخر، وأصبح الإنتاج معتمدا على قدر أكبر من المعلومات، التي تتزايد بصورة أُسّية حتى أصبحنا في عصر تفجّر المعلومات".[8]
* صحيح أن حضارة الصناعة تتميز عن حضارات غير الصناعة بعدة مميزات، لأنها تستفيد من التجارب السابقة جميعها، ولأنها تقوم على التصنيع الذي تتطلبه جميع قطاعات الحياة، ولأنها تعطي فرصة للتجديد والتغيّر في المنتج الصناعي الذي يتحول باستمرار نحو الأحسن والأفضل، ولأنها تشكل شبكة علاقات اجتماعية واقتصادية وثقافية أوسع وأعم وأشمل من تلك التي تكونها حضارة الرعي أو الزراعة، والحضارات التي سبقت الحضارة الصناعية لم تظهر إلاّ بعدما توافرت شروطها ولوازمها واكتمل نضجها، ولولا الحضارات السابقة ما عرف الإنسان الحضارة الصناعية، والحضارة مهما كان طابعها فهي حضارة الإنسان، والإنسان ليس كائنا بيولوجيا فحسب، لو كان كذلك ما عرف التحضر، لكنه كائن واعي وعاقل ومفكر واجتماعي، وجوده بهذه الصورة يستدعي النظر إليه والتعامل معه وفق متطلبات هذا الوجود، فالجانب البيولوجي الحيواني في الإنسان ليس الوحيد الذي يحكم حياته حتى تقوم حضارة برمتها على الاهتمام بهذا الجانب على حساب الجوانب الأخرى، فتحاول أن تحوله إلى ظاهرة بيولوجية بحتة أو تتعامل معه كآلة ميكانيكية، وتحاول أن تقضي فيه على الجانب الواعي الشعوري المفكر والاجتماعي والأخلاقي، والإنسان كونه كائنا متميزا عن الظواهر الأخرى في الطبيعة وعما صنعته يده، ذلك ما أهلّه لبناء المجتمع وإنتاج العلم والمعرفة وتأسيس الحضارة على القطف أو على الرعي أو على الصيد أو على الزراعة أو على الصناعة، حضارة الصناعة التي انقلبت على الإنسان وعلى ذاتها لتقضي على القيّم الروحية والمشاعر الإنسانية وعلى العواطف الوجدانية وعلى القيم الأخلاقية الدينية، القيم التي كثيرا ما كانت بذورا في أرض جدباء أنبتت ثقافات وأفكارا وحضارات راقية في الجانب النظري والجانب العملي معا، وكانت هذه الحضارات منابع وروافد للحضارات التي جاءت بعدها، وفي صلة الحضارة الإسلامية بالحضارة الغربية الحديثة خير دليل على ذلك، ومن جانب آخر فإن الحضارة الصناعية ويدافع الكثير عن طابعها المادي العلماني الإبداعي، ويفخر بلا نمطيتها، في حين أنّ الطابع العلماني المادي يمثل النموذج الأوحد الذي تقدمه العولمة على أنّه النمط الوحيد الذي يعكس التوجه الليبرالي الغربي الأمريكي المراد تعميم استعماله من قبل كافة شعوب العالم، والقيم الأخلاقية والدينية والروحية التي تحاربها حضارة الصناعة هي التي كانت وراء قيامها، فالإصلاح الديني والسياسي والتربوي والتنوير والعقلانية والحرية والتعددية والعلمية والعلمانية توجه وقنبلة في وجه جبروت الكنيسة وطغيانها، كل هذه قيّم عليا ومبادئ سامية روحية صنعت الوعي التاريخي المادي والروحي، والإنسان مركب من وعي ومادة وصلة تجمع بينهما، الوعي بما تتطلبه حياة الإنسان المادية والاجتماعية والروحية، وانقلاب الحضارة الصناعية على القيّم التي تأسست عليها لا ينقص من قيمة القيم، بل يضر بالمسار الحضاري الإنساني، المسار الذي يصادف مشكلات وصعوبات يكون الإنسان ضحيتها، وضحية الحضارة الصناعية المعاصرة إنسان امتلك كل شيء ونسي كل شيء ومات من التخمة، وإنسان فقد كل شيء ومات جوعا، وآخرون مازالوا يعانون ويلات الحروب والاحتلال وغيرهم يكابدون في معارك الفقر والجهل والمرض.
* إنّ إيديولوجية العولمة تتأثر فيها فلسفة الاقتصاد و تنظيمه وآلياته بالتوجه الليبرالي الديمقراطي ، الأمر الذي أثبت حسب دعاة العولمة فعالية ونجاعة النظام الرأسمالي بالمقارنة مع التنظيم الاقتصادي الموجه، من حيث التطور الصناعي والإنتاجي أو من حيث مواكبة التحولات والتغيرات المتسارعة التي تشهدها الساحة الدولية المعاصرة، تقوم الرأسمالية الحديثة على "قانون التطور غير المتكافئ، الذي صاغ مفهومه "هربارت سبنسر" في القرن التاسع عشر، وما يدعي برأسمالية البقاء للأصلح، حيث من واجب القوي دفع الضعيف نحو الانقراض، إن هذا هو نفس قانون العولمة الاقتصادية، ذلك الكائن الاقتصادي الذي يزيح عن طريقه ويقتلع كل المعوقات، وفي مقدمتها الخصائص الاقتصادية والأيديولوجية دون مواربة، التي تميز دول الإخفاق. إنها الداروينية الاقتصادية التي تتسرب بهدوء إلى أجسام الاقتصاديات المغايرة، الأمر الذي يقودنا منطقيا إلى أن العولمة الاقتصادية لازمة ونتيجة لتفتت الديمقراطية ومفارقتها لجوهرها في تيهها الأنجلوسكسوني أو الهوس الأنجلوأمريكي عبر عن ذلك "جيمس فالوز" في كتابه "النظر إلى الشمس"، الوثيقة التي بموجبها تسنى للرأسمالية أن تضفي ما تشاء من معان على الديمقراطية التي أصبحت تعني وحسب إفساح المجال لسيادة منطق السوق".[9] فالعولمة التي ارتكزت في إيديولوجيتها على التقدم العلمي والتطور التكنولوجي خاصة في مجال الإعلام والاتصال وعلى الاقتصاد والمال والأعمال لتستولي على سلطة القرار الذي يُسيّر كافة شؤون العالم، لا يتناسب البتة مع جوهر وأصول الديمقراطية، الديمقراطية التي تعني ممارسة الأفراد والجماعات والدول واجباتها وحقوقها السياسية والاقتصادية وغيرها بكل سيادة وحرية واستقلال، بعيدا تماما عن أي توجيه داخلي قسري وتعسفي أو ضغط خارجي اختراقي، "فالكونية الاقتصادية كأحد مكونات العولمة وجهازها الاقتصادي الذي يتغذى من الماكرو اقتصاديات العالمية هي قرار سياسي تتخذه دول بعينها، إن لم نقل دولة بعينها والذي جعل من التجارة الحرة بطاقة سفره إلى دول المعمورة، والتي لم تساهم وحسب في الاستغلال الكامل والمنهك للطاقات الإنتاجية وفي ترحيل السياسات الاقتصادية وتغريبها عن أوطانها، بل أيضا في إعادة مسرحية المستعمرات العريقة بقرارات أُعدت في طاولات الشمال".[10] ولقد أشار إلى ذلك المفكر المعاصر "نعوم تشومسكي" حيث اعتبر الحديث عن التجارة الحرة أمر مقبول ومفيد نظريا وافتتاح الصحف والخطب، لكن من بيدهم شأن اتخاذ القرارات السياسية لا يبالون بموضوع حرية التجارة في مناطق الإخفاق، ويبالون به في المنافسات الغربية العملاقة، الأمر الذي أفرز أزمة التناقض في دمقرطة الرأسمالية بين الخطاب والممارسة وهي أزمة من الوجهة أخلاقية، لقد حرصت الرأسمالية كل الحرص على النفوذ بفلسفتها الديمقراطية ونموذجها السياسي الغربي في الاقتصاد كما حصل نفوذها في الحياة السياسية، "إنّ العبودية هي الفن الذي تجيده الرأسمالية ولا تقبله حتما الديمقراطية، فالديمقراطية والرأسمالية معتقدات مختلفة جدا بشأن التوزيع السليم للسلطة السياسية، الأولى تؤمن بتوزيع متساو للسلطة السياسية، بينما تؤمن الثانية بأنّ "من واجب من هو أصلح اقتصاديا أن يطرد من لا يصلح عن العمل إلى الانقراض الاقتصادي". فأي نجاح يمكن أن يتم إذا ما التقت هكذا ديمقراطية يُباع العالم اقتصاديا أمام ناظريها ليصبح العالم القرية الموحدة بينما تنهش التجزئة جسده السياسي، مع هكذا رأسمالية رفعت النقد إلى مرتبة العجل المقدس، لهذا لم يعد الاقتصاد هو ما يفرزه الاقتصاديون بل ما يفعله الساسة...إنّ هذا هو جوهر الارتباط القسري بين الليبرالية والديمقراطية، حيث "يكون الفصل بينهما كما يذهب فوكوياما نظريا"، يحميه الإرهاب الاقتصادي الدولي، التيموس الفوكويامي، الذي يشكل زخم الأسواق الكبرى والذي يرجع كما يرى نعوم تشومسكي"إلى الدولة والإدارة الاقتصادية كأشهر سمات الإدارة الريغنية أوج عصر ازدهار اللاعقلانية الاقتصادية الغربية".[11]
* لقد صار الساسة يمارسون الإرهاب الاقتصادي في جو رأسمالية السياسة وسياسة الرأسمالية، ويعبر عن ذلك "بايبك" بأنّ "شأنهم شأن الجنرالات الذين يقاتلون حربهم الأخيرة، ويخططون لمستقبل هو في حقيقته ماض، ويتمثل همهم المباشر في استرجاع النمو الاقتصادي العادي الذي لم تجده الولايات المتحدة الأمريكية خلال العقدين الماضيين، بل إنها في حقيقة الأمر قد فقدته إلى الأبد".[12] فرأسماليي السياسة ومفكروهم أمثال "فوكوياما" يرغبون في وعي إيديولوجي تمتزج فيه الرأسمالي والديمقراطي، وليس في الصراع الثقافي والصدام الحضاري كما يرى"هانتنجتون" لأن الصراع الحضاري أو الثقافي هو صراع إيديولوجي في أصله وجوهره، فالديمقراطية السياسية أضرّت بالرأسمالية الاقتصادية، تعرّض العالم في جو الإخفاق بسبب الإقحام الديمقراطي في رأس المال وفي السوق وفي الإنتاج ووسائل الإنتاج إلى تدهور الاقتصاد وتردّى ظروف الحياة الاجتماعية وغيرها لأغلبية سكان الأرض، وما زاد في تأزم الوضع الاقتصادي والاجتماعي في الدول الكبرى وغيرها، وفى الولايات المتحدة الأمريكية الراعي الأول للعولمة الممارسة للإرهاب الاقتصادي والسياسي والعسكري والثقافي ومن ورائه الإرهاب الإيديولوجي الأزمة الاقتصادية والمالية التي عصفت بالعالم في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، التي تعاني شعوب العالم في الوقت الراهن آثارها وتداعياتها الخطيرة على كل المستويات، خاصة شعوب العالم المتخلف التي ازدادت فيها الأوضاع المتأزمة تفاقما، ورغم ذلك تتخفى القوى السياسية والاقتصادية وراء "صيحة العولمة لتحكم بها العالم الثالث، ليخضع لأهم مظاهر قوى التدمير الكامنة في رأسمالية السوق الحر القائم على التنسيق بين الدولة والشركات المالية والمؤسسات الصناعية الضخمة، ليبتلع السوق كل البضائع وفي مقدمتها بضاعة الأيديولوجيا".[13] هذه البضاعة التي كانت وراء كل السلع التي روجتها العولمة وروجها أمراؤها. يرى العديد من المفكرين في الغرب أن الرأسمالية أصبحت من دون منافس ولا يوجد من يمتلك القدرة على غزوها إيديولوجيا أو عسكريا، هذا الخطاب الاقتصادي جعل العولمة ضرورة وحتمية لا مفر منها، ينبغي قبولها والتأقلم معها، لأنها بإيديولوجيتها تمثل الإستراتيجية الوحيدة للتنمية خاصة في البلدان النامية، وفي هذا الاتجاه يجب أن تسير الدول وإلاّ تلقى العقوبات من صنوف مختلفة، هذه الامبريالية العالمية التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية عمّقت الصراع بين توجه العولمة والحركات المناهضة والمناهضة لها في الغرب الأوربي وفي الولايات المتحدة ذاتها وفي مختلف أقطار العالم، إنّ تعاظم الوعي عند شعوب العالم له أهميته في الحد من تأثير العولمة المتزايد على أوضاع الشعوب النامية لقهرها أكثر، أصبح هذا الوعي "يشكل ردة فعل قوية في رفض هذا الاتجاه، فضلا عن ظهور تكتلات اقتصادية كالسوق الأوربية المشتركة ودول شرق آسيا وبالأخص مثلث شمال شرق آسيا وهي قوى غير غربية لا يمكن تجاهلها هي (الصين، اليابان، روسي) التي لديها إمكانية تنافسية كبيرة إضافة إلى الأمة العربية والتي جميعها تمتلك إرثا حضاريا كبيرا يتجاوز الإرث الحضاري للولايات المتحدة بآلاف السنين والذي يمنح هذه الدول قوة دافعة ضخمة في صراعها الحضاري وتفوقا حضاريا عظيما...مستقبلا مرهون بعدد من المتغيرات السياسية والاقتصادية العالمية المستقبلية وكذلك بالتعددية القطبية القادمة والمؤكدة. وبالتالي فأن تاريخ البشرية ومستقبلها ليس محكوما بقانون العولمة أو ركائزها، انه محكوم بتوجهات ومصالح الشعوب وكيفية تعاملها مع معطيات الواقع والمتغيرات المستقبلية العالمية".[14]
* تحول العالم من العالمية إلى العولمة التي يحلو للكثير الربط بينهما، على اعتبار أنّ العولمة شكل من أشكال العالمية ومرحلة من مراحلها، عرفها تاريخ الإنسانية منذ أمد بعيد، لكنها تختلف من مرحلة إلى مرحلة حسب الظروف والأوضاع تتميز بها كل من مرحلة، لكن العالمية التاريخية تختلف تماما عن العولمة الحديثة والمعاصرة، فالعولمة ارتبطت بظروف النهضة الأوربية وبالتطور التكنولوجي والتجاري، وبنتائج الحرب العالمية الأولى والثانية، وبمعطيات جديدة كثيرة "تمثل بمجموعها ظاهرة العولمة. فضلا عن التغير في مركز الدولة الذي استمر مع الدولة القومية منذ نشوئها، هناك انهيار أسوار عالية كانت تحتمي بها بعض الأمم، والزيادة الكبيرة في درجة تنوع السلع والخدمات التي يجري تبادلها بين الأمم، وكذلك تنوع مجالات الاستثمار التي تتجه إليه رؤوس الأموال، وارتفاع نسبة السكان في داخل المجتمعات التي تتفاعل مع العالم الخارجي وتتأثر به، وازدياد تبادل المعلومات والأفكار بين الدول حتى أصبح العنصر الغالب في علاقتها، وبروز دور الشركات المتعددة الجنسيات في ذلك كله".[15] إنّ العولمة اقترنت بالهيمنة، فالعالمية توصف بأنّها "عملية مستمرة ومتطورة ومتعمقة يتفاعل في خضمها الكل مع الجزء والعكس، وتجري أثناءها عمليات عميقة من التأثير والتأثر والأخذ والعطاء بين ثقافات الشعوب بكافة مظاهرها...أن التطور الصناعي والعلمي واتقني وثورة الاتصالات والمعلومات إنما هي نتاج لمساهمات شعوب الكرة الأرضية، مساهمات تأتي سجالا وفقا لدرجة التطور هذه أو تلك التي بلغها هذا البلد أو ذاك في مرحلة تاريخية بعينها، وأنها بالتالي ملك للإنسانية جمعاء...العولمة بصفتها إيديولوجيا النظام الاقتصادي العالمي الجديد بكل نواحيها، ولاسيما السلبية منها وبشكل خاص اكتساحها للثقافات المحلية، وفرضها لثقافتها الخاصة لتعيد الطرق والأسواق أمام منتجاتها".[16] فالعولمة تختلف تماما عن العالمية من وجهة نظر الكثير من المفكرين منهم "جون بوديلارد"، الذي يعتبر العولمة لا تتجه في اتجاه العالمية بل الواحدة منهما تلغي الأخرى، العولمة تتصل بالتقنية واقتصاد السوق والمعلوماتية أما العالمية فتتصل بالقيم وحقوق الإنسان والحرية والثقافة والديمقراطية، وأكد على هذا كذلك "الحسن بن طلال في خطابه أمام المؤتمر الدولي للدراسات المتعلقة بالتخوم الرومانية المنشور في مجلة المنتدى في تشرين الثاني/نفمبر2000 : "هناك فرق بالتأكيد بين العولمة وبين العالمية إذا ما انتقلنا إلى أهمية المال في عالمنا. وأعتقد بأنكم تتفقون معي بأن هناك فارقا بين الإقرار بالإسهام الكبير للثقافة الغربية في الحضارة الإنسانية وتأثيرها على الثقافات الأخرى، والادعاء بأن الثقافة الغربية الحديثة قادرة على تحقيق التقدم في العالم. ولقد تطرق إلى هذا الفرق بين العالمية والعولمة محمود أمين العالم في بحثه "العولمة وخيارات المستقبل" الذي نشرته المسار، العدد 44 في تشرين الثاني/نوفمبر 1999، ورأى فيه أن العولمة ظاهرة موضوعية تاريخية وليست مجرد إيديولوجيا ذات دلالات مختلفة، وعرض فيما عرض حصيلة أراء طرحت في ندوة الإسلام والعولمة في حزيران/يونيو 1998 التقت على التفرقة بين العالمية والعولمة، وأوضحت أن ما يُفرض باسم العولمة ليس عالميا إنما هو الرؤية الغربية التي ينزع أصحابها للهيمنة على حد تعبير محمد عمارة".[17] يتضح مما سبق أنّ اللاعبين الأساسيين في ظل العالمية هم بنو البشر من حيث التبادل الحضاري الثقافي والتاريخي من دون الشعور بالعظمة والتباهي بالأجناس والألوان والرغبة في التسلط وقهر الغير وإرادة الهيمنة والاستغلال والسيطرة على مقدرات الآخرين واستعبادهم، هو ما تفعله العولمة في مقابل العالمية التي تنشد القيم الإنسانية العليا التي تخدم الجميع أفراد وجماعات بغير تمييز، الحياة التي تصنع الحضارة والرفاهية والأمن والسلام للإنسانية جمعاء، الحياة التي أرادها الإسلام وحققها الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم في أعظم وأفضل تجربة عرفها التاريخ.



[1] - السيد ولد أباه: اتجاهات العولمة، ص 133.

[2] - السيد ولد أباه: اتجاهات العولمة، ص138-139.

[3] - السيد ولد أباه: اتجاهات العولمة، ص 143.

[4] - محمد الجوهرى حمد الجوهرى: العولمة والثقافة الإسلامية، ص 116.

[5] - المرجع السابق: ص116-117.

[6] - شوقي جلال: العولمة، الهوية والمسار، ص232.

[7] - شوقي جلال: المرجع السابق، ص 233.

[8] - المرجع السابق: ص233.

[9] - عبد الله عثمان عبد الله: الأيديولوجيا والعولمة، ص 84.

[10] - المرجع السابق: ص85.

[11] - المرجع السابق: ص 85- 86.

[12] - نقلا عن عبد الله عثمان عبد الله، الإيديولوجيا والعولمة، ص86.

[13] - عبد الله عثمان عبد الله: الأيديولوجيا والعولمة، ص 88.

[14] - محمد طاقة: مأزق العولمة، ص35.

[15] - نقلا عن أحمد صدقي الدجاني، العولمة رؤية تحليلية لواقع الظاهرة ومستقبلها، ص25.

[16] - المرجع السابق: ص 26.

[17] - المرجع السابق: ص 26-27.