عروس هاربة ..!!

قلت لصديقي عباس وأنا في نوبة انفعالي وندبي لحظي التعيس :
ـ سأغادر إلى مدينة العقبة .. لأرتاح من النحس الذي يطاردني هنا .. على الأقل أشم نسيم البحر الأحمر وأقضي يومين لا أفكر فيهما بالزواج مطلقاً .. ثم صرخت بوجهه "لا يريد الله أن أجد عروساً مناسبة" ..
ضحك مني أول الأمر ثم لما شاهد أمارات الغضب تلعب بملامحي قال مواسياً :
ـ أكل هذا لأنك لم تعثر على عروس ؟؟ يا أخي ما أكثر البنات .. ولا بد أن تلتقي يوماً بفتاة أحلامك .. وبالمواصفات التي تريد .
ـ لا يبدو ذلك .. (قلتها بأسى وأسف شديدين) .. فأنت أعلم الناس بما جرى لي .. حين أعجبتني تلك الفتاة الشقراء التي لمحتها صدفةً في الشارع حين كنا في مقهى "طول بالك" .. وذهبت لأتعرف إليها وإذا هي خرساء .. وحين التقيت بغادة السمراء الجميلة التي تعمل في الفرع الثاني للمؤسسة التي نعمل فيها .. وما أن بدأت بمحادثتها حتى انهالت علي بالشتائم دون أدنى سبب سوى أنني صارحتها بنيتي للتعارف والزواج .. واكتشفت أنها من أسوأ البنات خُلُقاً وتعاملاُ كما أشار زملاؤها .. وحين دلني جارنا "سمير" على إحدى الفتيات والتي تسكن في منطقةٍ بعيدةٍ عن مكان سكناي .. وكانت جميلة إلا أنها بعد التحري عنها اكتشفت أنها (امرأةٌ لعوب) .. وحين عاودت البحث عن عروسٍ على خلق .. ودلني زميلنا في العمل "أدهم" على إحدى قريباته .. لعنت اليوم الذي عملت فيه وأدهم في نفس المؤسسة .. لقد كانت على خصامٍ مع أية علامةٍ للجمال .. فأنا لم انم ليلة البارحة لشدة الوساوس والأفكار السوداوية التي انتابتني إثر فشلي الأخير في العثور على عروس .. سأهرب يا صديقي .. سأهرب ليومين أرتاح على شواطيء العقبة ولا أفكر بالزواج بتاتاً .
وفعلاً .. مع ساعات الصباح الأولى كنت أصعد درجات الحافلة السياحية المُغادرة إلى العقبة وألقي بجسدي المُنهَك على أحد المقاعد بجانب النافذة حسب ترقيمي .. منتظراً اكتمال الركاب لننطلق .. والركاب يتهافتون إلى داخل الحافلة واحداُ تلو الآخر .. حتى كان ما أذهلني وتجمدت كتمثالٍ .. وكما قال الفيلسوف المعروف "غوتة" : (قف أيها الزمن، ما أجملك) .. وتجمدت الحروف في حلقي .. وتوقفتُ عن ترديد تلك الأغنية التي كنت أنغمها بلا طرب .. وفغرتُ فاه الدهشة حين رأيتها تدخل .. فتاةٌ في أواخر العقد الثالث من العمر حسب تقديري .. سمراء خمرية .. عيناها "غابتا نخيلٍ ساعة السحر" .. وشعرها غجريٌ كستنائي .. قامةٌ هيفاء وجسدٌ ممتليءٌ دون سُمنة .. والأنكى من ذلك أن مقعدها كان إلى جانبي .. جَلَسَتْ بوقار آلهة الإغريق .. ونعومة فراشات نيسان .. ابْتَسَمَتْ لي محييةً بهدوءٍ ينم عن ذوقٍ شاهقٍ كرفيقة درب وشريكة مقعدٍ في حافلةٍ محظوظة .
وهتف كلي من الداخل مثل أرخميدس "وجدتها" .. ظللت مأخوذاً بهذا المخلوق الذي يبدو أن الله سبحانه قد تولاه دون غيره بهذا الإبداع .. أو هكذا خُيّل إليّ .. (كلما فشلتُ مرةً في العثور على أنثاي أصمم على نسيان الموضوع والإقلاع عن فكرة الزواج برمتها) وما أن أصادف امرأةً حسناء أو فتاةً غيداء حتى أغير رأيي مئةً وثمانمين درجة ..
كيف أفاتحها ؟؟ كبف أبدأ الحديث معها ؟! إن لها رهبةً في نفسي ونفس كل من يراها .. وهل ستقبل مبدأ التعارف بيننا ؟! أم تراني اُخِذتُ بجمالها ووقارها بينما ربما تكون خرساء كسابقتها ، فهي لم تتكلم بعد، فقط اكتفت بتلك الابتسامة الهادئة .. فهل كانت تُخفي خلف ابتسامتها لساناً أخرس ؟؟ أم تراها سيئة الخلُق "كغادة" ؟؟ لالا .. تبدو عكس ذلك تماماً .. أم تراها لعوباً وتتظاهر بالطهر والوقار ؟؟ لا أدري .. لا أدري .. دوامةٌ قذفتني في لججها الأفكار والحسابات .. التفَتَتْ نحوي بذاك الهدوء الأخاذ وكأنها تقرأ ما أفكر فيه .. ولم تتكلم .. لم أدرِ لماذا أحس تجاهها إحساساً مختلفاً .. ليست كباقي النساء اللواتي قابلتهن في حياتي كلها .. لماذا أشعر بهذا الاختلاف؟ لا أدري .. ولكن يجب أن أبدأ معها الحديث .. أي حديث ..
استجمعت قواي وبثقة موظف قبض راتبه كاملاً قلت لها :
ـ هل تمانعين أن نتحدث، فالطريق طويل والوقت ملل ؟؟
ردت كأنها كانت تنتظر ذلك ، فلم تُفاجأ باقتحامي لخلوتها :
ـ لا بالعكس .. أحبذ هذا ..
(لم تتسع الدنيا لسعادتي .. إذن هي ليست خرساء ، وليست سيئة الخُلُق) .. حسناً .. ما الخطوة التالية ؟ في أي موضوعٍ سأحادثها ؟!
احترت .. تبلد عقلي .. توقف تفكيري .. هكذا أنا دوماً .. تتزاحم الكلمات في مخيلتي ثم لما يتحول الأمر للجدية أفقد توازن الحروف والأفكار .. وتنغلق أمامي أبواب الحديث أمام امرأةٍ كهذه .. ظللت أنبش في رأسي .. حول المواضيع التي سأفتتح بأحدها الحديث .. أنتحدث عن الطقس ؟؟ لالا .. هذا سخيف .. هل أحادثها عن الثورات العربية وكيف أنني ضدها من الألف إلى الياء ؟ لالا .. ربما هي تكره الحديث في السياسة، فالنساء عموماً لا يفضلن الحديث في السياسة .. لكنها ليست كباقي النساء .. أو هكذا خُيّل إليّ .. وماذا لو كانت ترغب بالحديث السياسي وكانت من مؤيدي الثورات العربية ؟؟ ستكرهني حتماً .. وسأفشل في مهمتي .. غرقتُ في متاهة البحث عن موضوعٍ أتبادل وإياها النقاش فيه .. يا رب افتح عليّ بحديثٍ يقربني من قلبها .. هل أحادثها في الأدب والفن ؟؟ إنها لفكرةٌ رائعة .. لا أحد يكره الأدب والفن .. وخصوصاً هي .. إذ يبدو عليها أنها على جانبٍ من الثقافة .. أو هكذا خُيّل إليّ من مظهرها المرتب الأنيق .. هذا هو .. سأبدأ الحديث عن القصة والرواية أو عن الشعر وخصوصاً الغزل .. ابتهجتُ لهذه الفكرة الجميلة .. والتفتُ نحوها لأتحدث .. ولكن .. يا للأسف .. لقد أسندت رأسها إلى مسند المقعد وأسبلت عينيها .. يبدو أنها ملّتْ انتظاري لأبدأ معها حديثاً ونامت كي لا تشعر بطول الطريق وتعب السفر .. اكفهرّت أجوائي .. وتناثرتُ حزناً .. ولكن لا بأس ..أقنعت نفسي أن نومها لن يطول .. ستفتح عينيها وعندئذٍ سنتكلم ..
مرت دقائق طويلة .. نصف ساعة .. ساعة كاملة .. لم تستيقظ .. وبينما أنا أراقبها تارةً .. وأسرح في خيالي من خلال نافذة الحافلة نحو الطبيعة .. قررتُ أن أنام أنا الآخر .. فالطريق طويل .. طويل .. والوقت ملل ..
أخذت وضعية الاسترخاء على مقعدي .. ورحت في نومٍ عميقٍ .. فأنا لم انم ليلة البارحة لشدة الوساوس والأفكار السوداوية التي انتابتني إثر فشلي الأخير في العثور على عروس ..
وحين أيقظني السائق لأنزل من الحافلة .. وجدتُ أن جميع الركاب قد غادروا .. ولم يبقَ إلا أنا .. أغط في نومٍ عميق .. فأنا لم انم ليلة البارحة لشدة الوساوس والأفكار السوداوية التي انتابتني إثر فشلي الأخير في العثور على عروس ..!!
(تمت)