• لما بُعِثَ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم أُمِرَ بالتبليغِ والإنذارِ بلا قتالٍ فظَلَّ أربعةَ عشرَ عاماً يدعو الناسَ إلى الإسلامِ من غيرِ قتالٍ فآمنَ بهِ بعضُ الناسِ كأبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍ وبلالٍ وغيرِهم، وبقِيَ على الكُفرِ أكثرُ الناسِ وصاروا يؤذونَهُ وأصحابَهُ، فلمّا اشتَدَّ عليهِمُ الأذى هاجرَ بعضُ أصحابِ النَّبِيّ إلى الحبشةِ وكانوا نحوَ ثمانينَ منهم عثمانُ بنُ عفان وجعفرُ بنُ أبي طالب.

• ولما كثُرَ أنصارُ رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ بيثربَ أمرَ اللهُ المسلمينَ بالهجرةِ إليها فخرجوا أرسالاً، ثم هاجَرَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ من مكةَ محلّ ولادَتِه مع أبي بكرٍ الصدّيقِ بعد أن أقامَ في مكّةَ منذُ البِعثةِ ثلاثَ عشرةَ سنةً يدعو إلى التوحيدِ .


• ومن الهجرة نسفيد حِكماً : منها أنَّ العقيدةَ أغلى من الأرض، وأنَّ التوحيدَ أسمى من الديار، وأنَّ الإيمان أثمنُ من الأوطان، وأنَّ الإسلامَ خير من القناطير المقنطَرة من الذّهب والفضّة والخيلِ المسوّمة والأنعام والحرث ومن كلِّ متاعِ الحياة الدنيا، ونبذِ الشّر ومن كل متاع ((يَا أبَا بَكر، مَا ظنُّكَ باثنَين اللهُ ثالثُهما)) قالها عليه الصلاة والسلام حين لحق بهم سراقة بن مالك والذي حول من عدو ملاحق إلى صديق منافح ْ، ولم تكنْ هجرةُ النبيّ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ حُبّاً في الشُهرةِ والجاهِ والسلطانِ


• لقد سلَّمَ اللهُ نبيَّهُ الكريمَ من شرّ المشركينَ فوصلَ إلى المدينةِ المُنَورةِ ومعه صاحبُه فاستقبَلَهُ المؤمنونَ بالفرحِ واستبشروا بقدومِه، وسمَّى الرسولُ يثربَ بالمدينَةِ المنورةِ وآخى بينَ أهلِها والمهاجِرين، وسمّاهم الأنصارَ، وبنى مسجِدَه ومساكِنَه. وقد استقبلَ الأنصارُ إخوانَهُمُ المهاجرينَ ومدُّوا لهم يدَ المساعَدةِ والعونِ حتى كان الأنصاريُّ يقسِمُ مالَهُ ومتاعَهُ بينه وبين أخيهِ المهاجِر. فحَرِيٌّ بنا أن نقتديَ بهؤلاءِ الأفذاذِ من الناسِ الذين عرفوا معنى الأخوَّةِ الحقيقيَّ فأيَّدهم اللهُ بنصرِه.

• تبوأت الهجرة المبارَكَة مكاناً عليًّا ومقاماً كريماً، حيث كانت بحقٍّ فتحاً مبيناً ونصراً عزيزاً ورِفعة وتمكيناً وظهوراً لهذَا الدّين، وهزيمةً وصَغاراً للكافرين.
• اسقبال أهل المدينة رسول الله بالبشر والسعادة ، وقد مهد لذلك بيعتا العقبة الأولى والثانية ، وذهاب مصعب بن عمير إليهم لتعليمهم الدين ولقاء النبي عليه الصلاة والسلام بمن أسلم منهم في موسم الحج

• الهجرة النبويّة لم تكن هروبًا من قتال ولا جبنًا عن مواجهة ولا تخاذلاً عن إحقاق حقٍّ أو إبطال باطل، ولكن هجرة بأمر الله تعالى.


• ولقد كان لهجرة الفاروق الذي فرق بين الحقِّ والباطل قصّة شأنها شأن كل قصصه وأخباره العظيمة التي تدلّ على حبّه لدين الله واستبساله في سبيل الله، ذلك أنه عندما جاء دور سيّدنا عمر بن الخطاب قبل هجرة الرسول بسبعة أيام، خرج مهاجرًا وخرج معه أربعون من المستضعفين جمعهم عمر رضي الله عنه في وضح النهار وامتشق سيفه وجاء (دار الندوة) وهو مكان تجتمع فيه قريش عادة، فقال الفاروق عمر لصناديد قريش بصوت جهير: "يا معشر قريش من أراد منكم أن تفصل رأسه أو تثكله أمّه أو تترمّل امرأته أو ييتّم ولده أو تذهب نفسه فليتبعني وراء هذا الوادي فإني مهاجر إلى يثرب". فما تجرّأ أحد منهم أن يحول دونه ودون الهجرة لأنهم يعلمون أنه ذو بأس وقوّة وأنه إذا قال فعل .


• هكذا ظفر الغار بشرف ضيافة النزيلين الكريمين ثلاثة أيام، وكان عامر بن فُهيرة مولى سيدنا أبي بكر يمر عليهم بالأغنام فيحتلبان. وكان عبد الله بن أبي بكر يوافيهما بما يجد من الأخبار، حتى سكن من ورائهما الطلب، وغفل عنهما الناس.


• وفي اليوم الرابع وافاهما عبد الله بن الأريقط براحلتين فخرجا إلى المدينة. وفي الطريق أدركهما سراقة، وظن أن الفرصة سانحة لربح الجائزة، ولكن فرسه عثر به وساخت في الأرضِ قوائمه، وأحدق به إعصار، عندها استغاث سراقة ووعد أن يكتم أمرهما، ووفى سراقة بما وعد.


• الهجرة بأحداثها المختلفة علمنا كيف يكون التخطيط والأخذ بالأسباب ثم التوكل على الله .


• عوامل مشتركة بين مدينتي مكة والمدينة وقد اختار الله تعالى الأولى لمكان بيته، واختار الثانية لمسجد رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فحددهما وعينهما، أمر الناس بالحج إلى الأولى، وبالهجرة إلى الثانية، فكانت في حياته صلى الله عليه وآله وسلم قبل الفتح واجبة، وصارت بعده مندوبة، دعا للأولى إبراهيم عليه السلام، وللثانية أكرم ولده صلى الله عليه وآله وسلم، وجعل القلوب تهوي إليهما.


• مدينتان اضطربت الجبال فيهما تحت قدمي رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وصديقه الصديق وحن في الثانية الجذع شوقاً إليه، وسلم الحجر والشجر والجبل في الأولى عليه، صلى الله عليه وآله وسلم، وأشبع العدد الكثير فيهما القليل من طعامهما.


• مدينتان ضوعف أجر الصلاة فيهما، وشد الرحل إليهما، وفي ماء الأولى وتراب الثانية وتمرها الشفاء، وبعض أجزائها من الجنة، ويئس الشيطان أن يعبد فيهما، وجعل رزقهما من ثمرات الأرض، وحرم دخول الكفار إليهما، ومنع الدجال منهما.


• مدينتان تشرفتا وأهلهما برسوله صلى الله عليه وآله وسلم، خرج من الأولى إلى الثانية مهاجراً، ثم عاد إليها فاتحاً، وقد حث على الموت فيهما، وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن من مات فيهما بعث من الآمنين، وأهلهما أول من يحشر مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأول من يشفع لهم صلى الله عليه وآله وسلم.


• مدينتان جعلهما الله تعالى حرماً آمناً، فحرم الصيد وتنفيره فيهما، وحرم قطع الشجر والكلأ فيهما، وحرم التقاط لقطتهما، وحرم حمل السلاح للقتال، وسفك الدماء فيهما، لا يختلي خلاهما، ولا ينفر صيدهما، ولا تلتقط لقطتهما.


• للملحد فيهما أشد العقوبة، ولمن آذى أهلهما النكال، فأهل الأولى هم أهل الله تعالى، وأهل الثانية جيران رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحق على الأمة: إكرام جيرانه صلى الله عليه وآله وسلم.


• هما آخر البلاد، حرم على غير المسلمين غزوهما، ومنعهما من الجبابرة، فتناثر أصحاب الفيل بالطير الأبابيل، وغرقت الحملات الصليبية في البحر الأحمر قبل وصولهما، وسيخسف بالجيش الغازي في آخر الزمان.


• وجعل المدينة مدخل صدق، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو يخرج من مكة مهاجرا: وقل ربي ادخلني مدخل صدق واخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيراً


• ومن القضايا المهمة التي لابد ان نتدبرها في قضية الهجرة ان الرجال الذين هاجروا معه والنساء الذين تبعوهم على الرغم من انهم كانوا قلة وضعفاء الا انهم كانوا اقوياء بايمانهم وصبرهم واحتسابهم، وقد اعانهم الله وأكرمهم وكرمهم ورفع من شأنهم.


ميزة المدينة النبوية الشريفة : ومن العوامل الأخرى المهمة ما اتسم به أهل المدينة من مروءة ومن رجولة حتى ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قولته المشهورة: «لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار».

ولا شك ان من حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه المدينة ان دعا لها وحرم ما بين لابتيها. عندما قال صلى الله عليه وسلم:
ا ـ «اللهم إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها وإني حرمت المدينة كما حرم ابراهيم مكة» (متفق عليه من حديث عبد الله بن زيد رفي الله عنه).
2 ـ «المدينة حرم ما بين عير الى ثور» (متفق عليه من حديث علي رضي الله عنه).
3 ـ «ان ابراهيم حرم مكة واني حرمت المدينة وما بين لابتيها» رواه مسلم من حديث حاصر في الله عنه).
4 ـ «اللهم اني احرم ما بين جبليها مثل ما حرم ابراهيم مكة» (متفق عليه. من حديث أنس رضي الله عنه).
5 ـ «اللهم ان ابراهيم حرم مكة فجعلها حرما واني حرمت المدينة حراما ما بين مأزميها» (رواه مسلم. من حديث ابي سعيد رضي الله عنه). الى غير ذلك من النصوص.
ودعا صلى الله عليه وسلم للمدينة بمثلي او بضعفي ما دعا ابراهيم عليه السلام لمكة، وأن يكون فيها من البركة ضعف ما بمكة أيضا من البركة. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان الناس اذا رأوا أول الثمر جاءوا به الى النبي صلى الله عليه وسلم فاذا اخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم بارك لنا في ثمرنا» (الحديث) وفي آخره: «اللهم ان إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك وانه دعاك لمكة وأنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه» (اللفظ لمسلم). ومن حبه صلى الله عليه وسلم للمدينة المنورة أنه اضافها الى نفسه فسميت مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم والمدينة النبوية ومدينة المصطفى بعد كان اسمها في الجاهلية يثرب. وهكذا دخلت التاريخ من أوسع ابوابه.
منقول للافادة